عجباً للمحب كيف ينام..؟
بقلم: الإمام عطاء الله خان ، أوكسفورد.
الحمد لله رب العالمين، رب الإنس والجن والملائكة أجمعين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، و على آله وأصحابه وأزواجه و من يهتدي بهديهم إلى يوم الدين.
اما بعد : فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
"يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اركَعوا وَاسجُدوا وَاعبُدوا رَبَّكُم وَافعَلُوا الخَيرَ لَعَلَّكُم تُفلِحونَ۩ . وَجاهِدوا فِي اللَّـهِ حَقَّ جِهادِهِ ۚ هُوَ اجتَباكُم وَما جَعَلَ عَلَيكُم فِي الدّينِ مِن حَرَجٍ ۚ مِلَّةَ أَبيكُم إِبراهيمَ ۚ هُوَ سَمّاكُمُ المُسلِمينَ مِن قَبلُ وَفي هـٰذا لِيَكونَ الرَّسولُ شَهيدًا عَلَيكُم وَتَكونوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ ۚ فَأَقيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعتَصِموا بِاللَّـهِ هُوَ مَولاكُم ۖ فَنِعمَ المَولىٰ وَنِعمَ النَّصيرُ ". [سورة الحج 77/ 78]
قال الإمام الرازي رحمه الله : اعلم أنه سبحانه لما تكلم في الإلىهيات ثم في النبوات أتبعه بالكلام في الشرائع وهو من أربع أوجه أولها: تعيين المأمور وثانيها: أقسام المأمور به وثالثها: ذكر ما يوجب قبول تلك الأوامر ورابعها: تأكيد ذلك التكليف.
واليكم بيان الأمر الاول :
( 1 ) النوع الأول هو تعيين المأمور : وهو قوله تعالى : "يا أيها الذين آمنوا" و قد عين الله فى هذا الخطاب بان المخاطبين هم الذين آمنوا بالله وحده ولم يشركوا به شياً، وآمنوا برسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعملوا بشريعته الإسلام ، و هذا الخطاب خطاب مدح و حب و رضاء، و قد مدح الله به عباده من المؤمنين، قال ابن الجوزي في كتابه النفيس : الخطاب في القرآن على خمسة عشر وجهًا. وقال غيره: على أكثر من ثلاثين وجهًا. و واحد منها خطاب مدح نحو { يا أيها الذين آمنوا}.
ولهذا وقع الخطاب لأهل المدينة بالذين آمنوا وهاجروا. ( الإتقان فى علوم القران ).
أيها المؤمنون: إن الله تعالى يحب المؤمنين فقال : " يحبهم ويحبونه "، و يرضى عنهم فقال : " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه "، ويمدحهم بالإيمان و يخاطبهم : ...ب... " يا أيها الذين آمنوا ".
أيها المؤمن: إذا قرأتَ في القرآن :" يا أيها الذين آمنوا " , فاعلم أن الله يحبك.
و بحبه إياك يأمرك بما تؤمن به و بما يؤمن به المؤمنون : "يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا آمِنوا بِاللَّـهِ وَرَسولِهِ وَالكِتابِ الَّذي نَزَّلَ عَلىٰ رَسولِهِ".
و يهديك إلى الصدق والتقوى : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ".
و يُذكِّرك الصلاة والتهيؤ لها : "يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِذا قُمتُم إِلَى الصَّلاةِ فَاغسِلوا وُجوهَكُم الخ".
و يأمرك بصيام شهر رمضان: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ".
و يرشدك إلى الإنفاق قبل الممات :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ".
و يُخبرك بآداب الإحرام في الحج : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ".
و يُعلِّمك حقوق الله وحقوق نبيه في الإسلام : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّـهِ وَرَسُولِهِ الخ".
و بأدب نبيه في الحياة والوفاة : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ ".
وما أعظم حب الله لعباده من المؤمنين :
فهو يُعلِّم عباده المؤمنين الاستعانة بالصبر والصلاة :"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ".
والأكل من الطيبات : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ".
والصدق في الكلام : "يا أيها الذين آمنوا ,اتقوا الله وقولوا قولا سديدا".
وأدب الاستفسار عند المسألة : "يا أيها الذين آمنوا, لا تسألوا عن أشياء إن تُبدَ لكم تسوء كم".
والتعاطي في الأموال تجارةً : "يا أيها الذين آمنوا ,لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم".
الشهادة عند الحاكم : "يا أيها الذين آمنوا, كونوا قوَّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين".
والاستئذان قبل دخول البيوت و السلام قبل الكلام :" يا أها الذين آمنوا, لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستاذنوا وتسلموا على أهلها".
ومن حب الله تعالى لعباده من المؤمنين :
يُزيِّنهم بمعاظم الأوصاف ومحاسن الأخلاق، فقال :
(1):"يا أيها الذين آمنوا, إن جاكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين".
(2):"يا أيها الذين آمنوا, لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهم ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب".
(3):"يا أيها الذين آمنوا ,اجتنبوا كثيراً من الظن .إن بعض الظن إثم, ولا تجسسوا, ولا يغتب بعضكم بعضا ,أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا, فكرهتموه".
(4): "يا أيها الذين آمنوا ,إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس ,فافسحوا ,يفسح الله لكم ,وإذا قيل انشزوا, فا نشزوا".
ومن مظاهر حب الله تعالى لعباده من المؤمنين :
أنه يمنع عباده عن ما فيه ضرر وفساد، فقال:
(1): "يا أيها الذين آمنوا ,لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة.
(2): "يا أيها الذن آمنوا, إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان".
(3): "يا أيها الذين آمنوا, لا تتبعوا خطوات الشيطان".
(4): "يا أيها الذين آمنوا ,لا تخونوا الله والرسول و تخونوا أماناتكم".
(5): "يا أيها الذين آمنوا, لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها".
(6): "يا أيها الذين آمنوا ,لا تُحرِّموا طيبات ما أحَلَّ الله لكم ,ولا تعتدوا ,إن الله لا يحب المعتدين".
هذه الآ يات القرآنية ظاهرة في أن الله تعالى يحب عباده من المؤمنين، فيأمرهم بما فيه نفعهم، وينهاهم عن ما فيه ضررهم، ويزينهم بما فيه كرامتهم، و يخاطبهم بأحسن الخطاب وأجمله فقال : " يا أيها الذين آمنوا ".
و خاطب الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بـ: " ياأيها النبي " ,في ثلاثة عشر موضعاً من القرآن ، و...بـ: (( ياأيها الرسول )), في موضعين، و...ب: (( يا أيها المزمل )) ,في موضع، و... ب :(( يا أيها المدثر )) ,في موضع. وهذا من المعلوم لدى ذوي الألباب ,أن طراز الخطاب هكذا ملَقَّباً بالألقاب طراز كرامة وتكريم.
وخاطب نبيه آدم عليه السلام في خمسة مواضع من القرآن فقال : (( يا آدم )).
وخاطب ذرية آدم عليه السلام في خمسة مواضع من القرآن فقال : (( يا بني آدم )).
و خاطب الإ نسان في موضعين من القرآن, فقال : (( يا أيها الإنسان )).
و خا طب الناس في أربعة عشر موضعاً من القرآن فقال : (( يا أيها الناس )).
وخاطب الله عبادهم المؤمنين في تسعين موضعاً من القرآن ب :(( يا أيها الذين آمنوا ))، ولم يخاطب سواهم أكثر من ذلك، فكِّروا وانظروا إلى آثار وتفاصيل رحمة الله عليكم، ربكم كيف يحبكم ويمدحكم في كتابه. و يخاطبكم مرة بعد مرة. عجباً لكم أيها المؤمنون، ربكم يحبكم فكيف تنامون، ؟؟ فاعتبروا يا أولى الأبصار.
وخذوا نصيحة من جارية، اشتراها أبو عبد الله النباحي للخدمة. فقال لها : قد اشتريتك ، فضحكت فحسبها مجنونة ,فقال: أمجنونة أنتِ ؟ فقالت: سبحان من يعلَم خفيات القلوب ما بمجنونة أنا ,ثم
قالت : هل تقرأ شيئاً من القرآن ؟ قال : نعم ... فقالت: إقرأ عليّ فقرأ عليها: بسم الله الرحمن الرحيم, فشهقت شهقةً, وقالت: يا ألله هذه لذة الخبر فكيف لذة النظر؟ فلما جنّ الليل وطِئ فراشاً للنوم ,فقالت له :أما تستحي من مولاك أنه لا ينام وأنت تنام ؟ ثم أنشدت:
عجباً للمحب كيف ينام ** جوف الليل وقلبه مستهام
إن قلبي وقلب من كان مثلي ** طائران إلى مليك الأنام
فأَرضِ مولاك إن أردت نجاةً ** وتَجافَ عن اتِّباع الحرام
قال النباحي: فقامت ليلتها تصلي فقمت من نومي أبحث عنها فإذا هي تناجي ربها ساجدة ,وتقول : بحبك إياي لا تعذبني
فلما انتهت قلت لها : كيف عرفت أنه يحبك ؟ قالت: أما أقامني بين يديه وأنامك ,ولولا سابق محبته لي لم أحبه ,أما
قال : "يحبهم ويحبونه"
أيها المؤمنون : فهل أنتم تحبون الله تعالى ؟ و ما ذا علامة حبكم لله تعالى ؟ فعلامة الحب أن المحب يطيع حبيبه ليلا ونهارا، و شانه ك .... "لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون".
تعصي الإلىه وأنت تُظهر حبه هذا لعمري في الفعال بديع
لو كان حبك صادقا لأ طعتَه إن المحب لمن يحب مطيع
ومن علامة الحب أن تعلم ما يحبه الله وما لا يحبه، لتترك ما تحب لما يحب، وقد ذكر الله فى القرآن ما يحبه فقال :" إن الله يحب المحسنين، ...إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، .....إن الله يحب المتقين،.....إن الله يحب المتوكلين، ...إن الله يحب المقسطين، ....والله يحب الصابرين.
وقد أخبر الله عباده بما يُبغضه، فقال :"إن الله لا يحب المعتدين،.... و الله لا يحب الظالمين، ....إن الله لا يحب الكافرين، ......إنه لا يحب من كان مختالا فخورا، .....إن الله لا يحب من كان خوانا اثيما، ......و الله لا يحب المفسدين، .....إنه لا يحب المسرفين، .....إن الله لا يحب الخائنين، ....إنه لا يحب المستكبرين".
فالعبد الصالح حين يقرأ هذه الآيات الشريفة، يقف لحظة ويتفكر فيها ويتدبر، فيختار لنفسه ما أحبه مولاه، و يهدر عن ما سواه، و ليس من علامة الحب أن تحب ما يبغضه حبيبك، و تبغض ما يحبه حبيبك ، حبيبك أرحم الراحمين، و هو أرحم بعباده من الآباء والأمهات، و أقرب إليهم من حبل الوريد، امرأة من السبي حكا عنها عمر بن الخطاب حبها لولدها,فقال : قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي، فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها تسقي، إذا وجدت صبيا في السبي أخذته، فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: «أترون هذه طارحة ولدها في النار» قلنا: لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال: «لله أرحم بعباده من هذه بولدها» ( البخاري ).
هذه آثار رحمة الله لعباده، فكيف آثار رحمته لعباده المؤمنين ؟ فقال :" ورحمتى وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون".
اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربنى إلى حبك، اللهم ! اجعل حبك أحب إلي من نفسي وأهلي ، ومن الماء البارد.
أقول قولي هذا وأستغفر الله وأسترحمه لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه واسترحموه ,إنه هو الغفور الرحيم.