تحقيق قصة أبي عبد الرحمن فروخ
باسمه تعالى
قصة أبي عبد الرحمن فروخ
والد ربيعة
مقدمة:
من القصص والحكايات التي نسمعها كثيرا في مواعظ الوعاظ والخطباء: قصة فروخ والد ربيعة الذي ترك ولده في بطن أمه وخرج للجهاد, ولم يرجع إلا بعد سبع وعشرين سنة, إذ أصبح ولده شابا جلدا. . .
ولا شك أن فيها من إثارة العزائم وتشحيذ الهمم ما فيها. . . .
لكن انتقد الحافظ الذهبي هذه الحكاية انتقادا حسنا مستدلا بالقرائن والشواهد. فأردت في هذه الأوراق أن أورد هذه الحكاية أولا من بعض مصادرها, ثم أعقب عليه انتقاد الحافظ الذهبي؛ رجاء أن ينفع الله به من يقرأه. والله المستعان.
قال الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" :
(( أَخْبَرَنِي عَبْد الله بْن يَحْيَى السكري أَخْبَرَنَا محمّد بن عبد الله الشّافعيُّ حدّثنا جعفر بن محمّد بن الأزهر حَدَّثَنَا ابن الغلابي. قَالَ: قَالَ أبو زكريا يَحْيَى بْنُ مَعين: رَبِيعَة بْن أَبِي عَبْد الرَّحْمَنِ مولى تيم، وَاسم أَبِي عَبْد الرَّحْمَنِ فروخ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِم الأزهري قَالَ أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْنُ إبراهيم بن شاذان أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر أَحْمَد بْن مَرْوَان بْن مُحَمَّد المالكي الدينوري القَاضِي- قراءةً عَلَيْهِ بِمصرَ- حدّثنا يحيى بنُ أبي طالب حدّثنا عبد الوهّاب بن عطاء الخفاف حدّثني مَشْيَخَةُ أهلِ المدينة أن فروخًا أبا عَبْد الرَّحْمَنِ والد رَبِيعَة خرج فِي البعوث إِلَى خراسان أيام بني أمية غازيا، وَربيعة حَمْلٌ فِي بطن أمّه، وَخلّف عند زوجته أم رَبِيعَةَ ثلاثين ألفَ دينارٍ، فقدم الْمَدِينَة بعد سبعٍ وَعشرين سنةً وهو راكب فرسا، فِي يده رُمح، فنزل عَنْ فرسه، ثُمَّ دفع الباب برمحه، فخرج رَبِيعَة فَقَالَ له: يا عدوَّ الله أتهجم على منزلي؟ فَقَالَ: لا!, وَقَالَ فروخ: يا عدو الله, أنت رجل دخلتَ على حرمتي، فتواثبا وَتلبّب كلُّ وَاحد منهما بصاحبه، حَتَّى اجتمع الجيرانُ فبلغ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ وَالمَشْيَخَةَ فأتوا يُعينون رَبِيعَةَ، فجعل رَبِيعَةُ يقول: وَالله لا فارقتُك إِلا عند السلطان، وَجعل فروخ يقول: وَالله لا فارقتك إِلا بالسلطان، وَأنت مَعَ امرأتي. وَكثر الضجيج.
فلما بصروا بمالك سكت الناس كلهم، فَقَالَ مَالِك: أيها الشيخ, لك سَعةٌ فِي غير هذه الدار، فَقَالَ الشيخ: هي داري وَأنا فروخ مولى بني فلان، فسمعت امرأته كلامَه فخرجت فقالت: هذا زوجي، وَهذا ابني الَّذِي خلّفتَه وَأنا حامل به، فاعتنقا جميعًا وَبكَيا، فدخل فروخ المنزلَ وَقَالَ: هذا ابني؟ قالت: نعم! قَالَ: فأخرجي المال الَّذِي لي عندكِ، وَهذه معي أربعةُ آلافِ دينارٍ، فقالت: المالُ قد دفنتُه, وَأنا أُخرجُه بعد أيام، فخرج رَبِيعَةُ إِلَى المسجد وَجلس فِي حلقته، وَأتاه مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَالحسنُ بْن زيد، وَابنُ أَبِي علي اللهبي وَالمساحقي، وَأشرافُ أَهْل الْمَدِينَة وَأحدق الناسُ به ، فقالت امرأته: اخرج, صلِّ فِي مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فخرج فصلّى، فنظر على حلقة وَافرة، فأتاها فوقف عَلَيْها، ففرجوا له قليلا، وَنكس رَبِيعَة رأسه يُوهمه أنه لم يرَه، وَعليه طويلة ، فشك فيه أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ، فَقَالَ من هذا الرجل؟ فَقَالُوا له: هذا رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ. فَقَالَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ: لقد رفع الله ابني.
فرجع إِلَى منزله, فَقَالَ لوالدته: لقد رأيتُ وَلدكِ فِي حالة, ما رأيت أحدا من أَهْل العلم وَالفقه عليها، فقالت أمه: أيّما أحبُّ إليك ثلاثون ألفَ دينار، أَوْ هذا الَّذِي هو فيه من الجاه؟
قَالَ: لا وَالله إِلا هذا!
قالت فإني قد أنفقت المال كله عليه، قال فو الله ما ضيعته.)) انتهى كلام الخطيب بتصرف يسير.
- - - - -
وقال القاضي ابن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان" :
((قال عبد الوهاب بن عطاء الخفاف: حدثني مشايخ أهل المدينة أن فروخاً . . . . .))
ثم ذكر نفس القصة التي ذكرها الخطيب بألفاظ متقاربة.
- - - - -
وقال الذهبي في كتابه " تاريخ الإسلام وطبقات المشاهير والأعلام":
((قَالَ أَحْمَدُ بْنُ مَرْوَانَ الدينَوَريّ صَاحِبُ (الْمُجَالَسَةِ) وقد تكلّم فيه: ثنا يحيى ابن أَبِي طَالِبٍ ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ قَالَ:
"حَدَّثَنِي مَشْيَخَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّ فَرُّوخًا وَالِدُ رَبِيعَةَ خَرَجَ فِي الْبُعُوثِ إِلَى خُرَاسَانَ أَيَّامَ بَنِي أُمَيَّةَ غَازِيًا وَرَبِيعَةُ حَمْلٌ فَخَلَفَ عِنْدَ الزَّوْجَةِ ثَلاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً فَنَزَلَ عَنْ فرسه ثم دفع الباب برمحه فخرج ربيعة, فَقَالَ: يَا عَدُوَّ الله أَتَهْجُمْ عَلَى مَنْزِلِي! وَقَالَ فَرُّوخُ: يَا عَدُوَّ الله أَنْتَ رَجُلٌ دَخَلْتَ عَلَى حُرْمَتِي، فَتَوَاثَبَا وَاجْتَمَعَ الْجِيرَانُ وَجَعَلَ رَبِيَعَةَ يَقُولُ: لا وَالله لا فَارَقْتُكَ إِلَى السُّلْطَانِ، وَجَعَلَ فَرُّوخُ يَقُولُ كَذَلِكَ, وَكَثُرَ الضَّجِيجُ. فَلَمَّا بَصَرُوا بِمَالِكٍ سَكَتَ النَّاسُ كُلُّهُمْ, فَقَالَ مَالِكٌ: أَيُّهَا الشَّيْخُ لَكَ سِعَةٌ فِي غَيْرِ هَذِهِ الدَّارُ، فَقَالَ: هِيَ دَارِي وَأَنَا فَرُّوخُ مَوْلَى بَنِي فُلانَ.
فَسَمِعَتِ امْرَأَتُهُ كَلامَهُ فَخَرَجَتْ وَقَالَتْ: هَذَا زَوْجِي وَقَالَتْ لَهُ: هَذَا ابْنُكَ الَّذِي خَلَّفْتَهُ وَأَنَا حَامِلٌ، فَاعْتَنَقَا جَمِيعًا وَبَكَيَا وَدَخَلَ فَرُّوخُ الْمَنْزِلَ وَقَالَ: هَذَا ابْنِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَخْرِجِي الْمَالَ وَهَذِهِ أَرْبَعَةُ آلافِ دِينَارٍ مَعِي، قَالَتْ: إِنِّي قَدْ دَفَنْتُهُ وَسَأُخْرِجُهُ.
وَخَرَجَ رَبِيعَةُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَجَلَسَ فِي حَلْقَتِهِ وَأَتَاهُ مَالِكٌ وَالْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ وَابْنُ أَبِي عَلِيٍّ اللَّهَبِيُّ وَالأَشْرَافُ فَأَحْدَقُوا بِهِ فَقَالَتِ امْرَأَةُ فَرُّوخَ: اخْرُجْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَصَلِّ فِيهِ، فَنَظَرَ إِلَى حَلْقَةٍ وَافِرَةٍ فَأَتَى فَوَقَفَ فَفَرَجُوا لَهُ قَلِيلا وَنَكَسَ رَبِيعَةُ يُوهِمُ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ، وَعَلَيْهِ طَوِيلَةٌ فَشَكَّ فِيهِ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا رَبِيعَةُ. فَرَجَعَ وَقَالَ لِوَالِدَتِهِ: لَقَدْ رَأَيْتُ وَلَدَكِ فِي حَالَةٍ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ عَلَيْهَا. قَالَتْ: فَأَيُّمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ ثَلاثُونَ أَلْفَ دِينَارٍ أَوْ هَذَا الَّذِي هُوَ فِيهِ مِنَ الْجَاهِ؟
قَالَ: لا وَالله إِلا هَذَا، قَالَتْ: فَإِنِّي قَدْ أَنْفَقْتُ الْمَالَ كُلَّهُ عَلَيْهِ، قال:
فو الله مَا ضَيَّعْتِيهِ."
قُلْتُ (القائل: الذهبي): حِكَايَةٌ مُعْجِبَةٌ لَكِنَّهَا مَكْذُوبَةٌ؛ لِوُجُوهٍ:
مِنْهَا: أَنَّ رَبِيعَةَ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَلْقَةٌ وَهُوَ ابْنُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً, بَلْ كَانَ ذَلِكَ الْوَقْتَ شُيُوخُ الْمَدِينَةِ مِثْلَ الْقَاسِمِ, وَسَالِمٍ, وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ, وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ ـ أي ربيعةُ ـ ابْنَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً كَانَ مَالِكُ فَطِيمًا أَوْ لَمْ يُولَدْ بَعْدُ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الطّويْلةَ لَمْ تَكُنْ خَرَجَتْ لِلنَّاسِ وَإِنَّمَا أَخْرَجَهَا الْمَنْصُورُ, فَمَا أَظُنُّ رَبِيَعَةَ لَبِسَهَا وَإِنْ كَانَ قَدْ لَبِسَهَا فَيَكُونُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِينَ سَنَةً لا شَابًّا.
الرَّابِعُ: كَانَ يَكْفِيهِ فِي السَّبْعِ وَالْعِشْرِينَ سَنَةً أَلْفَ دِينَارٍ أَوْ أَكْثَرَ))
صفوة القول:
قد عرضنا هذه المنقولات وقدمناها ليرى فيها أهل العلم آرائهم، ولا شك أنها حكاية تاريخية, ولكن التحريض كلما كان إلى السداد أقرب كان أثره في النفوس أكثر.
والقرائن والشواهد اعتمد عليها الحافظ الذهبي رحمه الله في حكم تكذيبه لهذه الرواية ظاهرةٌ قويةٌ، لا تردُّ بمجرد شهرة القصة، فكأين من حكاية اشتهرت بين العوام وهي ظاهرة البطلان عند أهل الفنّ،ولكن القول الفصل يرجع إلى العلماء والمحققين، والله أعلم بالصواب.