مناهج الفتوى في السلف
مناهج الفتوى في السلف
تلخيص فصل من كتاب الشيخ العلامة المفتي محمد تقي العثماني حفظه الله ورعاه "أصول الإفتاء وآدابه"
1 - الفتوى في عهد النبي ﷺ
لم يكن أحدٌ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتغل بمنصب الإفتاء غيره، غير أنه ربما فوّض الإفتاء أو القضاء إلى بعض أصحابه على وجه التمرين للاستنباط، مثلما أمر عبدَ الله بن عمرو ليقضي بين رجلين[1]، ومعقلَ المزني ليقضي بين قوم[2]، وكان يرسل بعض الصحابة إلى البلاد، فيأذن لهم بالإفتاء، كما روي عن أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه: لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن، قال: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله. قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدرَه فقال: الحمد لله الذي وفّق رسولَ رسولِ الله لما يُرضي رسولَ الله[3]، واعتُرض على الحديث بعلّتين: (1) جهالة الحارث بن عمرو (2)جهالة أصحاب معاذ رُواة الحديث. وأجيب بوجوه: (1) لا تضر جهالة أصحابه، فإنه يدلّ على شهرة الحديث، وهو أبلغ في الشهرة عن واحدٍ منهم لو سُمِّي، وليس فيهم متَّهم ولا كذاب. (2) شعبة من رواة الحديث، وإذا رأيت شعبة في إسناد فاشدد يديك به. (3) قال الخطيب: عبادة بن نسيّ من رواه عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ، وهذا متصل. (4) الحديث مؤيّد بحديث صحيح في الصحيحين: إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر.
2 - منهج الصحابة والتابعين في الإفتاء
وإن ما جاء في حديث معاذ رضي الله عنه السابق، ثابتٌ من صحابة آخرين مثل عمر وابن مسعود وابن عباس وزيد بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين. وأمروا أصحابهم بهذا المنهج، مما يقوي قول ابن القيم إن حديث معاذ عمل به السلف الصالحون. أخرج الدارمي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: فإذا سئلتم عن شيء فانظروا في كتاب الله، فإن لم تجدوه في كتاب الله ففي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أجمع عليه المسلمون، فإن لم يكن فيما أجمع عليه المسلمون، فاجتهد رأيك.
3 - الفتوى في عهد الصحابة رضي الله عنهم
الصحابة الذين حفظت منهم الفتيا مائة ونيّف وثلاثون، في ثلاث فئات:
(1) المكثرون:
(1) عمر بن الخطاب (2) علي بن أبي طالب (3) عبد الله بن مسعود (4) عائشة أم المؤمنين (5) زيد بن ثابت (6) عبد الله بن عباس (7) عبد الله بن عمر رضي الله عنهم. ويمكن أن يجمع فتاوى كل منهم سفرٌ ضخيم.
(2) المتوسطون: وعددهم أكثر، وفيهم:
أبوبكر الصديق، أم سلمة، أنس بن مالك، أبو سعيد الخدري، أبو هريرة، عثمان بن عفان، عبد الله بن عمرو، عبد الله بن الزبير، أبو موسى الأشعري، سعد بن أبي وقاص، سلمان الفارسي، جابر بن عبد الله، معاذ بن جبل، طلحة، الزبير، عبد الرحمن بن عوف، عمران بن حصين، أبوبكرة، عبادة بن الصامت، معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم أجمعين. ويمكن أن يجمع فتاوى كل منهم جزءٌ صغير جدا.
(3) المقلّون: والباقون غيرهم مقلون، لا يُروى عن واحد منهم إلا المسألة والمسألتان.
4 - الفتوى في عهد التابعين
انقسم فقهاء التابعين بعد الصحابة إلى قسمين:
(1) فقهاء منعوا من الإفتاء فيما لم يقع: فاقتصروا على المسائل الواقعة، لأجل أسباب: (1) كان معظم اشتغالهم بالحديث، وكانوا يكرهون الخوض في الرأي والقياس. (2) المفتي غير مكلّف ببيان حكم أمور لم تقع. (3) النبي صلى الله عليه وسلم عاب كثرة السؤال. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تستعجلوا بالبلية قبل نزولها (الحديث). وقد ساق الدارمي أخبارا عن عدة من الصحابة والتابعين كراهتهم للإفتاء فيما لم يقع، كابن عمر، وزيد بن ثابت، وعمار بن ياسر، وأبي بن كعب، وأما عمر فكان يلعن من سألم عما لم يكن، رضي الله عنهم أجمعين.
(2) المفتون في المسائل التي لم تقع، وحجتهم: نصبوا أنفسهم لتدوين الأحكام الفقهية (1) تيسيرا على من بعدهم (2) وحملوا الآثار المانعة على التورّع والاحتياط، (3) وعلى التمرين والإرشاد لطلاب الفقه (4) ومنع النبي صلى الله عليه وسلم كان لأجل تخوّفه على أمته أن ينزل حكم شاق على أمته بسبب سؤالهم، وقد ارتفع هذا المعنى بعد وفاته صلى الله عليه وسلم. (5) وتجريح عمر ولعنه محتمل على أن يكون بسبب السؤال بنية التعنت والمغالطة على ضعفاء المسلمين في العلم؛ ولهذا ضرب صبيغ بن عِسل ونفاه لما سأل عن حروف من مشكل القرآن، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الأغلوطات.
ودليلهم:
(1)حديث رافع بن خديج قال: قلت: يا رسول الله، إنا نخاف أن نلقى العدوّ غدا، وليس معنا مُدًى، فنذبح بالقصب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنهر الدم وذكرت عليه اسم الله فكُل، ما خلا السنّ والظفر.
(2) وكذا حديث أن رجلا قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت لو كان علينا أمراء يسألونا الحق، ويمنعونا حقنا، فنقاتلهم؟ فقام الأشعث بن قيس، فقال: تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر لم يحدث بعد؟ فقال: لأسألنه حتى يمنعني(إلى قوله) فقال: لا، عليكم ما حُمِّلتُم، وعليهم ما حُمِّلوا. [4]
(3) وقد روي عن عمر وعلي وغيرهما من الصحابة أنهم تكلموا في أحكام الحوادث قبل نزولها، وتناظروا في الفرائض والمواريث.
أئمة الفتوى في عهد التابعين:
- اشتهر في المدينة: ابن المسيب، وأبو سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف، وعروة بن الزبير، وعبيد الله، وقاسم بن محمد، وسليمان بن يسار، وخارجة بن زيد و (هم الفقهاء السبعة. وذكر أبوبكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بدل أبي سلمة، وغيرهم:) نافع، والزهري، ويحيى بن سعيد، وأبان بن عثمان، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعلي بن الحسين زين العابدين، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وأبو جعفر الباقر، وأبو الزناد عبد الله بن ذكوان، رحمهم الله.
- وفي مكة المكرمة: عطاء بن أبي رباح، وعلي بن أبي طلحة، ومجاهد بن جبر، وعمرو بن دينار، وعبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، وعبد الملك بن جريج، وغيرهم رحمهم الله.
- وفي الكوفة: إبراهيم النخعي، وعامر بن شراحيل الشعبي، وعلقمة، والأسود، ومرّة الهمداني، وسعيد بن جبير، ومسروق بن الأجدع، وعبيدة بن عمر السلماني، والقاضي شريح.
- وفي البصرة: الحسن البصري، وابن سيرين، وأبو العالية الرباحي، ويسار مولى زيد بن ثابت، وأبو الشعثاء جابر بن زيد، وقتاد بن دعامة السدوسي، رحمهم الله تعالى.
- وفي الشام: أبو إدريس الخولاني، ومكحول، ورجاء بن حيوة، وعمر بن عبد العزيز، وشرحبيل بن السمط، وقبيصة بن ذؤيب.
- وفي مصر: مرثد بن عبد الله اليزني، ويزيد بن أبي حبيب تلميذا ابن عمر رضي الله عنهما.
- وفي اليمن: طاؤس بن كيسان، ووهب بن منبه، ويحيى بن أبي كثير، رحمهم الله تعالى.
ومعظم فتاواهم مروية في الموطآت والمسندات والسنن، وأسماؤهم مذكورة في إعلام الموقعين باستقصاء.
5 - أسباب اختلاف الصحابة والتابعين
لم يكن الفقه مدوَّنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يتوضأ فيرى الصحابة وضوءهم فيأخذون به دون أن يبيّن أن هذا ركن أو أدب ـ إلا ما شاء الله ـ فكان مأخذ الفقه للصحابة هو (1) ذات الرسول صلى الله عليه وسلم، (2) أو كان يفتي ويقضي ويمدح فعلا وينكر على منكر فرأى كل صحابي وعقِله، وعرف لكل شيء وجهًا بالقرائن وغرضَ الرسول صلى الله عليه وسلم بحيث اطمأنّت عليه نفسه.
ثم تفرقوا في البلاد، فاستُفتوا، فكان منهجهم أن يبحثوا منصوصًا من القرآن أو السنة ولا يحيدوا عنهما (كما فعل أبو بكر رضي الله عنه إذ جاءته جدّة تسأله ميراثها، وكما فعل ابن مسعود حين اجتهد برأيه في مسألة بسبب عدم عثوره على منصوص فيها، ثم أتاه من أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بما قضى به في المسألة ففرح أشد الفرح)، ولكن الصحابة احتاجوا في كثير من المسائل إلى القياس واختلفوا لاختلاف الأنظار، فقد ذهب أبوبكر وعثمان ومعاذ وغيرهم إلى أن الجد يحجب الإخوة، واستدلوا بآية (واتبعت ملة آبائي) حيث جعل الأجداد مكان الأب، وقاس ابن عباس: الحفيد يحجب الإخوة، فكذا ينبغي للجد: "يرثني ابن ابني دون إخوتي، ولا أرث؟!"، وذهب علي وزيد إلى أن الإخوة يتقاسمونه، ومثلوا له تمثيلين حاصلهما أن الجد والأخ يتساويان في القرب إلى الميت. وهكذا ورد عن علي رضي الله عنه الترجيح بالقياس لما استشاره عمر في حدّ الخمر.
وأخذ عنهم التابعون، فترجّح عند كلٍّ منهم ما أخذه من شيخه وأهل بلده من الصحابة، مثل سعيد بن المسيب لسان فقهاء المدينة، وإبراهيم النخعي لسان فقهاء الكوفة، فسعيد كان يرى أن أهل الحرمين أثبت الناس فقها، واستمدّ مذهبه من فتاوى ابن عمر وابن عباس وعائشة وقضاة المدينة، وكان إبراهيم يرى ابن مسعود وأصحابه أثبت بالفقه، وأصل مذهبه فتاوى ابن مسعود وعلي رضي الله عنهم.
6 - تدوين الفقه
لم يكن الفقه منفصلا عن رواية الحديث، فمن المحدّثين من جمع بين الرواية والاستنباط. ولما دعت الحاجة إلى مرجع فقهي مدوّن بعد انتشار الإسلام، دوّن بعض التابعين الآثارَ على الأبواب الفقهية، مثل الأبواب للشعبي، وسنن مكحول.
وأول من دوّن وبوّب بالبصرة الربيع بن صبيح، وسعيد بن أبي عروبة، وباليمن معمر بن راشد، وبمكة ابن جريج، وألف أبو حنيفة كتاب الآثار، ومالك وابن أبي ذؤيب الموطأ، وتلاهم الثوري وابن عيينة وعبد الرزاق وغيرهم رحمهم الله تعالى.
7 - أصحاب الحديث وأصحاب الرأي
وبعد ما تشعبت المسائل الفقهية، انقسم العلماء قسمين: (أصحاب الحديث): اعتنوا برواية الحديث دون الاستنباط، إلا إذا ورد الحكم تبعًا للرواية، و(أصحاب الرأي)، اعتنوا بالاستنباط دون الرواية، إلا استدلالًا بحديث.
وهذا التقسيم حسب مجال اختصاصهم، وإلا فالكل يقدّم نصوص الكتاب والسنة على القياس والرأي ـ على اختلافهم في تفسيرها ـ ، والرأي لا يقصد به الرأي الشخصي، بل هو مقتبس من حديث معاذ (أجتهد رأيي) بمعنى: "قياس غير المنصوص على المنصوص"، ففي كتاب عمر إلى أبي موسى رضي الله عنهما: "... الفهم فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في القرآن والسنة، فتعرف الأمثال والأشباه، ثم قس الأمور عند ذلك"، فحاشا أصحاب الرأي أن يقدموا رأيهم الشخصي على الكتاب والسنة.
وعلم من هذا أن الحنفية ليسوا بمختصين باللقب، بل اللقب لجميع الفقهاء المتفرغين للاستنباط وتفريع الجزئيات، وقد سمّى ابن عبد البر المالكي كتابه(الاستذكار، لما تضمنّه الموطأ من معاني الرأي والآثار) وذكر ابنُ قتيبة ابنَ أبي ليلى وأبا حنيفة وربيعة الرأي والأوزاعي والثوري ومالك وأبا يوسف وزفر ومحمدا كلَّهم من أصحاب الرأي.
فاللقب ليس بخاص بالحنفية، وإن صار فيما بعدُ شبه خاص بهم لتوسُّعهم في التفريع، ولكن بعض من لم يتعمق في أدلة الأحناف ولم ينتبه لأحاديثهم زعموا أن آراءهم مبنية على الرأي المجرد، والحق ما قاله سليمان الطوفي الحنبلي رحمه الله: "أصحاب الرأي بحسب العلَميّة أبو حنيفة ومن تابعه، وبحسب الإضافة كل من تصرّف في الأحكام بالرأي، فيتناول جميع علماء الإسلام؛ لأن المجتهد لا يستغني عن نظر ورأي..." ثم ذكر الوجوه التي ترك الحنفية بها ظاهر الأحاديث، وما طُعنوا به لذلك، ثم قال: "والطاعنون عليه إما حُسّاد، أو جاهلون بمواقع الاجتهاد".
8 – ظهور المذاهب الفقهية
كان الفقهاء في زمن التابعين وأتباعهم يفتون في المسائل دون أن يقصدوا بيانها كقانون مدوّن شامل، وكان الناس يستفتون من تيسر لهم دون أن يلتزموا فقيها واحدا.
ومع مرور الأيام، احتاجت الأمة إلى أن يدوَّن الفقه كقانون شامل (1) لتكاثر حاجات الناس (2) ولكيلا تفسَّر الأحكام بطريق عشوائي حسب الأهواء. فشرحها الفقهاء المتبوعون بشمول، واجتهدوا واستنبطوا من القرآن والسنة الإجماع والقياس، ودُوِّنت في صورت كتب، مثل (المدوَّنة) على طريق الإمام مالك، وكتب محمد الشيباني على طريق الإمام أبي حنيفة، وكتاب (الأم) للشافعي، وروايات أحمد التي احتوت فقهَه.
وهناك فقهاء كبار غير هؤلاء الأربعة، لم تنتشر مذاهبهم مثل المذاهب الأربعة ولم تتكامل، فاقتصر الناس على هذه الأربعة. وانتشر المذهب الحنفي في العراق، ومن ثم إلى بلاد ما وراء النهر وتركية والهند والسند ومعظم البلاد الإسلامية. وانتشر المذهب المالكي في بلاد المغرب (الأندلس والجزيرة ومراكش وتونس وغيرها). وانتشر المذهب الشافعي في مصر والشام وماليزية وأندونيسية وغيرها، وانتشر المذهب الحنبلي في مناطق من جزيرة العرب وغيرها.
9 – مسألة التقليد والتمذهب
كان الناس يستفتون العلماء منذ القدم، ولا يطالبونهم بالدليل لكونهم موثوقين بالعلم والتقوى، وهذا هوا التقليد الاصطلاحي (العمل بقول الغير من غير معرفة دليله أو مطالبته به)، وكذا لم يكونوا يتقيدون بفقيه واحد دون غيره (وإن كان بعضهم يثق على علماء بلده أكثر من غيرهم للمناسبة المرتبطة بينهم، ومن ذلك ما روي أن أهل المدينة سألوا ابن عباس رضي الله عنهما عن مسألة فأجابهم بغير جواب زيد ثابت، فلم يرضوا بقوله ما دام يخالف زيدا، ولما رجع زيد عن قوله إلى قول ابن عباس، اقتنع أهل المدينة أيضا)، ولم يكن هناك خوف من أن يختار المرء من المذاهب ما وافق أهواءه؛ لصعوبة معرفة الأقوال لعدم تدوين المذاهب، فإتاحة انتقاء الأقوال عشوائيا يؤدي إلى اتباع الهوى دون اتباع الشريعة.
أما الفقهاء المجتهدون فاختاروا الأقوال على أساس قوة دليلهم، دون ما يهواه القلب، ولمجتهد آخر أن يختار أو يردّ قول مجتهد على أساس دليل أقوى يظهر له. ولكن لا يتاح ذلك للعامي غير القادر على المقارنة على أساس الأدلة الشرعية. وكذلك فإن كل مذهب مسائله مرتبطة بعضها ببعض في إطار خاص به، فلو أُخِذ حكم وتُرك حكم لاختل النظام، ولزم التلفيق الذي لم يقل بصحته أحد. لذا كان من الضروري التمذهب بمذهب معين لا لأن المقلد يعتقد أن إمامه المطاع بذاته؛ بل لأنه يثق عليه في علمه أكثر من غيره أو لأن معرفة مذهبه أيسر له دون غيره من المجتهدين.
وقد ذم العلماء انتقاء الأقوال بالتشهي، فقال الحافظ ابن تيمية رحمه الله: "ونظير هذا أن يعتقد الرجل ثبوت شفعة الجوار إذا كان طالبا لها، وعدم ثبوتها إذا كان مشتريا، فإن هذا لا يجوز بالإجماع..."
ويتلخص كلام العلماء فيما يلي:
- يجب على العامي أن يقلد أحد المذاهب الأربعة دون سواها.
- المقصود اتباع القرآن والسنة، وبما أن غير المجتهد لا يستطيع أن يستنبط الأحكام، إما لعدم فهمه للنصوص، أو أنها تحتمل أكثر من معنى، أو أن الأدلة متعارضة في الظاهر، فإنه يتبع قول مجتهد يثق بعلمه، أو مجتهد معروف في بلاده.
- يمكن للعالم المتبحر أن يأخذ في مسألة قولا من مذهب آخر، على أساس أدلة ظهرت له، لذا أفتى فقهاء الحنفية في مسائل كثيرة بقول مخالف للإمام، مثل مسألة المزارعة والاستئجار على تعليم القرآن، وخيار المغبون.
- التقليد ليس حكمًا شرعيا في نفسه، ولكنه فتوى أصدرت لتنظيم أمور الدين، فحيث وقع الأمن من اتباع الهوى، فلا بأس بالأخذ بما هو أرجح دليلا لعالم أهل للنظر في الأدلة.
- درجات التقليد:
- تقليد العامي (ويدخل فيهم المتخرجون من المدارس والجامعات الدينية ممن لم تحصل لهم ملكة المقارنة بين الأدلة)، وحكمهم التزام مذهب معين، فقول الإمام دليل في حقهم، وليس لهم أن يحكموا على الإمام بمجرد رأيهم بأن قوله معارض للكتاب والسنة.
- تقليد عالم متبحر: وهو الذي تحصلت له ملكة قوية في النظر في الدلائل، فإنه وإن لم يبلغ درجة الاجتهاد الكلي؛ إذا وجد نصا معارضا لقول إمامه ولم يجد ما يعارض النص مع طول بحثه؛ يجوز له أن يترك قول إمامه إلى ذلك النص الصريح، وكذا إذا وجد حرجا شديدا في مسألة، جاز له أن يفتي بقول مجتهد غير إمامه، كما فعله الحنفية في مسألة زوجة المفقود، ولكن الأحوط في مثل هذه المسائل أن يشاور غيره من العلماء، ولا يفتي فتوى عامة إلا بعد حصول اتفاق جماعة من العلماء الراسخين.
- تقليد مجتهد في المذهب: الذي حصل له نوع اجتهاد في الفروع والنوازل دون الأصول (وفيه أصحاب التخريج والترجيح والمجتهدون في المسائل).
- تقليد مجتهد مطلق: وهو أن ينظر في أقوال السلف من الصحابة والتابعين، ويتمسك بها في شرح أحكام القرآن والسنة، فيقدم قولهم على رأيه الخاص عند انعدام نص من الكتاب والسنة، فأبو حنيفة كان يأخذ بقول إبراهيم النخعي، والشافعي بقول ابن جريج، ومالك بقول أحد الفقهاء السبعة رحمهم الله تعالى.
______________
[1]- مستدرك الحاكم: 4/99
[2]- أخرجه أحمد في مسنده: 33/420، رقم (20305)
[3]- أخرجه الترمذي والنسائي والدارمي وأحمد، وأبوداود (3592) واللفظ له.
[4]- أخرجه مسلم (4745).