محاضرة في مؤتمر تعزيز السلم

بسم الله الرحمن الرحيم

هذه كلمة قيّمة ألقاها سماحة العلامة المفتی محمد تقی العثمانی حفظه الله تعالی ورعاه فى “مؤتمر تعزيز السلم” المنعقد بأبو ظبي فى شهرمارس من هذه السنة، باهتمام من سماحة الشيخ عبد الله بن بيّه ورعاية من صاحب السمو الملكيّ الأمير عبد الله بن زايد حفظهما الله تعالى ورعاهما. وبما أنها قد نالت بحمد الله قبولا بالغا في الأوساط العلميّة والثقافيّة وقد نشرت اقتباسات منها على نطاق واسع عبر الشبكة، نسعد بتقديمها كاملة للقارئين كي يعم نفعها، ويفوح طيبها. الإدارة.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد،
فسماحة الشيخ العلامة عبد الله بن بيّه، حفظه الله تعالى ورعاه، أصحاب المعالى والسماحة والفضيلة، الحضور الكرام
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

إنّى فى بداية حديثى بعد الشكر لله سبحانه وتعالى، أشكر سماحة الشيخ عبد الله بن بيّه حفظه الله تعالى، وسموّ الأمير الشيخ عبد الله بن زايد حفظه الله تعالى ورعاه، لتنظيم هذا المنتدى الطّيب، الّذى عُقد فى موضوع يهمّ الأمّة الإسلامية جمعاء، فى سائر البلاد الإسلاميّة.
والحمد لله قد تحدّثنا فى هذا المؤتمر عن عدّة موضوعات تتعلّق بهذا الموضوع، وإنّ موضوع اليوم فى هذه الجلسة، هو “الطّاعةُ نفيا وإثباتا، مفهومُها ومقاصدُها.” وجزى الله سبحانه وتعالى سماحة مفتى مصر، الشيخ أحمد شوقي علام حفظه الله تعالى، فإنه أغنانى عن كثير ممّا كنت أريد أن أقوله فى موضوع الطاعة، فإنّه قد كفى و وفى بموضوع إثبات الطاعة، وذكر نصوص القرآن والسنة الّتى تدلّ على وجوب طاعة وليّ الأمر، ولا أريد أن أعيدهذه النصوص، فإنّه قد بيّنها بوضوح وبصراحة، وإن هذا الحشد الكريم لا يحتاج إلى سرد تلك النصوص. ولكنى أريد فى هذا الوقت الموجز ، و كما ذكرت لسيادة الرئيس أنّ عندى ساعة، وأعدها فيما بين حديثي عدّا، فلذلك أقتصر فى كلامى على موضوع نفْي الطّاعة، لأنّ الموضوع هو “إثباتاً ونفْياً” ففضيلتُه قد تكلّم عن إثبات الطاعة. و المشكلة اليوم، إنّما حدثت فى موضوع نفي الطاعة، وقد يُستغلّ بعض النصوص القرآنيّة وبعض نصوص الحديث الشّريف لنفي الطاعة أصلاً، والواقع كما تفضّل به الدكتور أحمد شوقي علّام حفظه الله تعالى أن طاعة ولي الأمر واجبة، ولو كان فى أمر مباح، حتى ذكر الفقهاء أن ولى الأمر إذا أمر بصوم يوم، وجب على الشّعب أن يصوموا ذلك اليوم. ولكن جاء فى الحديث: “لا طاعة فى معصية”، وكذلك جاء فى الحديث: “إلّا أن تروا كفراً بواحاً لكم فيه من الله حجة وبرهان” أو كما قال صلى الله تعالى عليه وسلّم. وأذكر هنا كلمةً مُفيدةً لإمامنا الشيخ أشرف عليّ التهانوي رحمه الله تعالى، وكان من مقدّمة علماء الهند، و له تأليفات تتجاوز ألف كتاب، ويقول: حينما قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ” إلا أن تروا كفرا بواحا” فإنّ كلمة “تروا” هنا قد وقعت متعدّيةً بلا واسطة، متعدّ إلى مفعول واحد وليس إلى مفعولين، وهذا يدلّ على أنّ الرؤية هي رؤية العين، وليس رؤية اجتهاد، ولو كانت رؤية اجتهاد فكانت تتعدى إلى مفعولين، ولكنه يقول: إنه يتعدى إلى مفعول واحد، فهذه رؤية عين، يعنى إذا رأيتم بأعينكم بدون ريب وشكّ وأيّ اجتهاد أو وأيّ اختلاف أنّ هناك كفراً، فهذا هو الكفر البواح، أما إذا كان هناك الأمر محلّ اجتهاد ومحلّ تفكير فإنه ليس داخلاً فى الكفر البواح، ولذا قد اتّفق العلماء تقريبا أنّ الخروج المسلّح على الحكومات الإسلامية ليس جائزا، ويقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلّب و أنّ طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء، وقد أطال ابن تيمية رحمه الله تعالى فى الاستدلال على عدم جواز الخروج المسلّح على أئمّة الجور، وأن ما تولّد على وقاع الخروج فى تاريخ الإسلام من الشر أعظم مما تولّد من الخير.
ولكنّ المشكلة اليوم، الّتى نجدها فى كثير من البلاد الإسلاميّة أن طوائف متطرّفة حملوا أسلحة، وأيّدوا خروجهم المسلّح ببعض النصوص، ولا يمكن في مثل هذا المنتدى أن نخرج من هذه المشكلة بمجرّد كلمات نُلقيها، أو بمجرّد وعظ نعظ به، ولكن يجب للوصول إلى حلّ هذه المشكلة: كيف حدثت هذه المشكلة فيما بين شباب المسلمين؟ السبب الحقيقي الّذي من أجله اغترّ شبابُنا المسلمون، هو، أنّه الحمد لله، الآن فيهم صحوة حقيقية تجاه الإسلام، ويريدون أن يكوّنوا حياتهم على أسس الإسلام و أسس القرآن والسّنّة، ولكن حينما يخرجون من بيوتهم وحينما يذهبون إلى الشوارع ويرون الحياة العمليّة الّتى بين أيدينا، فإنهم يعرفون أنّ ما نقرؤه فى الكتاب والسنّة، وما نقرؤه فى الكتب الدينيّة هو مخالف تماماً عما نراه فى حياتنا العمليّة، وهم يخرجون، فربّما يقولون: إنّنا مجبورون على أن نعقد عقوداً ربوية مثلا، أو يخرجون فيرون أنّ هناك من مظاهر الفسق والفجور والخمور والخنازير وما إلى ذلك، فهذا الّذى يُحدِث فى أنفسهم حزازة شديدة، وإنّ هذه الحزازة هي الّتى يستغلّها بعض أئمة المتطرّفين، الّذين إمّا هم متطرّفون بنظرياتهم أو يمكن أن يكونوا مغروسين من قبل أعداء الإسلام لتفريق كلمة المسلمين، وتشتيت الإسلام والمسلمين، ولذا فإنّهم يستغلّون هؤلاء الشباب. وكيف يستغلّون؟ يقولون لهم: يا شباب! أنظر إلى قول الله سبحانه وتعالى: ” {مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون} [المائدة: 44] ، {مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]{مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا طاعة فى معصية”، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سيكونون بعدى أمراء، من صدّقهم على كذبهم،وأعانهم على ظلمهم، فليس منّى ولست منه”، فهذه النّصوص، الّتى تُسرد أمام هؤلاء الشباب السُذّج العاطفيّين، فإنهم يصيرون فريسة لهؤلاء. فما هو الحلّ؟ ينبغى أن نكون فى مثل هذه المؤتمرات صريحين وواقعيّين. فأنا أقول: ان حلّ هذه المشكلة ليس فقط أن نكون فى هذا المؤتمر ونقرأ النصوص الّتى تؤكّد على السّلم والّتى تؤكّد على الأمن والرخاء، والّتى تؤكّد على طاعة وليّ الأمر، بل يجب هناك أمران. عندى نقطتان. وهاتان النقطتان فى نظرى هما الأساسان لحلّ هذه القضيّة:
النقطة الأولى: وهي أن لا نقتصر فى مؤتمراتنا، و فى مجتعاتنا وفى اجتماعاتنا وفى مدارسنا على التأكيد على السّلم فقط، بل نحن نردّ على الأدلّة الّتى يتمسّك بها هؤلاء المتطرّفون. وحينما نقول: الحوار، الحوار، الحوار، الحوار مع غير المسلمين، الحوار مع طوائف شتّى من المسلمين، فلماذا لا يكون حوارُنا مع هؤلاء، الّذين نذمّهم، ينبغى أن يكون هناك حوار بين الوسطيّين وبين المتطرّفين على أُسس هادئة علميّة متينة، وينبغى أن نذكر ما هو محمل هذه النصوص الّتى يتمسّك بها هؤلاء، ما هو محمل قول الله سبحانه وتعالى: {مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون} [المائدة: 44] وما هو معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا طاعة فى معصية”. وهناك بما أن بعض الشباب وإن كانوا عاطفيّين، ولكنهم مخلصون لدينهم، فإذا وقع هناك حوار بين العلماء المتمكّنين وبين هؤلاء الشباب السُذّج، لا يبعد أن يقتنعوا بما هو حقّ. ولذلك ينبغى فى نظرى النقطة الأولى، هي الحوار، ليس الحوار مع غير المسلمين فقط، بل الحوار مع هؤلاء الشباب، وكذلك إحداث النظام التربويّ كما تفضّل به فضيلة الشيخ، يعنى فى مدارسنا وفى معاهدنا وفى مجتمعاتنا، وفى مساجدنا، ينبغى أن تُعرض هذه المواضيع بشكل إيجابيّ وبشكل علميّ ودقيق، بما يؤثّر قلوب المسلمين الشّباب السُذّج.
والنقطة الثانية -أنا أعتذر إن كنت صريحا فى الموضوع، ولكن بما أنّنا هنا فى هذا المؤتمر وفى مثل هذا المنتدى، ينبغى أن نكون صريحين، ينبغى أن نكون واقعيّين، وليس فقط أن نغالط أنفسنا فى بعض الأمور- الواقع الّذى لا يُشكّ فيه، أنّ البلاد الإسلاميّة بعد تحرُّرها من الاستعمار الغربيّ، كان يجب عليها أن تتوجّه توجُّها ملموسا نحو المشي إلى تطبيق الشّريعة الإسلاميّة، ان الاستعمار الغربيّ هو الّذى أمسك أيدينا، هو الّذى عطّلنا عن المسير إلى هذا المقصود، ولكن حينما تحرّرنا من الاستعمار الغربي، وكان بيدنا السلطة، كان بيدنا القوانين كلُّها، وكان بيدنا أن نحدث كيانا مجتمعا، رصينا متينا على أسس القرآن والسنة، ولكن التقصير ليس فى جانب واحد فقط، التقصير فينا نحن أيضا، التقصير فينا بأنّنا لم نربّ جيلنا الجديد على أسس إسلاميّة حقيقيّة سلميّة، وكذلك التقصير من أنّنا قد عجزنا عن إحداث كيان إسلاميّ حقيقيّ، منذ تحرُّرنا من الاستعمار الغربيّ لم نخط خطوة ملموسة إلى إحداث هذا الكيان، إحداث هذا المجتمع الإسلاميّ، ولكنّنا مع الأسف الشّديد مولعون بالأفكار والأعمال الغربيّة فى جميع نواحى الحياة، لا أقول: إنّ الغرب شرّ كلّه، ولا أقول: إنّ الغرب خير كلّه، ففيه خير وفيه شرّ، ونحن مدينون للغرب لعدّة علوم تكنولوجية الّتى استفدنا منه، ولكن هناك أشرار، ولكن أخذنا الحياة الغربيّة بجميع عجرها وبجرها، وهذه الحياة الغربيّة هي الّتى تُثير فى قلوب الشّباب المسلم العاطفية نحو الحكومات ونحو القادة، فالنقطة الثانية أنّنا لو اتّجهنا اتّجاها سليما نحو تطبيق الشريعة الإسلاميّة، ليس تطبيق الشريعة الإسلامية معناه قلب الحياة رأسا إلى قدم، تطبيق الشريعة الإسلامية على أسس القرآن والسنّة، ولو بتدرّج، ولو فعلنا ذلك، وشعر المسلمون والشباب أن الحكومات هي تتجه إلى هذه الناحية ولو بتدرُّج، فإنّى أعتقد أن بعد هذا الحوار، وبعد هذه الخطوات الإيجابية السليمة نحو الإسلام وتطبيق الشريعة الإسلامية، فإنّ مثل هذه الحركات الهدّامة تموت حتف أنفها إن شاء الله، ولكنّ الّذى يستغلّ الشباب هو عجْزُنا عن هذا الاتّجاه، ولو بتدرُّج.
فهذه النقطتان: الحوار مع هؤلاء الشّباب، هؤلاء المتطرّفين، الحوار الجادّ الهادئ، والثانى: هو الاجتهاد والمسير الحقيقيّ نحو تطبيق الشريعة الإسلاميّة، فى البلاد الإسلاميّة بأجمعها.
وأدعو الله سبحانه وتعالى أن يوفّقنا جميعا، وأن يكون هذا المؤتمر والمنتدى، فاتحة خير إلى هذا السّبيل، والله سبحانه وتعالى هو الموفّق، وأشكر على حسن استماعكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الشيخ محمد تقي العثماني حفظه الله

نائب رئيس مجمع الفقه الإسلامي بجدة
مجموع المواد : 43
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2024

التعليقات

يجب أن تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب

يستغرق التسجيل بضع ثوان فقط

سجل حسابا جديدا

تسجيل الدخول

تملك حسابا مسجّلا بالفعل؟

سجل دخولك الآن
المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2024