الشيخ مولانا المفتي المحدث نظام الدين شامزي

اسمه نظام الدين بن حبيب الرحمان بن خليل الرحمان أبصر النور في قرية من قرى مديرية "سوات" الموسومة بـ "سخرة" سنة ثلاث وخمسين وتسع مائة بعد الألف الميلادية.
مولد الشيخ المفتي المحدث ونسبه: اسمه نظام الدين بن حبيب الرحمان بن خليل الرحمان أبصر النور في قرية من قرى مديرية "سوات" الموسومة بـ "سخرة" سنة ثلاث وخمسين وتسع مائة بعد الألف الميلادية. أضواء إجمالية على مديرية سوات هذه البقعة من البقاع المباركة التي أودع الله فيها خيرا كثيرا وزينها بزينة ظاهرة وباطنة، جعل الله أرضها خصبة جديرة للانتفاع وجمّلها بمناظر جميلة أخاذة تتمتع بها الأنظار وتبتهج بها القلوب وتتنزه بها الخواطر، وكذلك هي مزدانة بجبال شاهقة وجنات لفيفة وأنهار جارية وعيون نابغة عذبة وسائغ ماءها. وهي من أجمل الأصقاع في الديار الباكستانية، تتباهي ببهجتها وروعتها وجمال مظاهرها على أصقاع أخرى، يتّجه كثير من السياحين من أقطار مختلفة إليها في أيام الصيف، لأنها مصيف من أحسن المصايف الباكستانية. وأما خيراتها الباطنية التي منحها الله فهي أن الله قد جعل الله فيها ينابيع العلم والفضل التي كانت تنبع منها المياه الخالصة ويرتوي بها المتعطشون الذين كانوا يأتون من البلاد البعيدة إلى هؤلاء العلماء الربانيين للأخذ والتلمذ عليهم. نشأة الشيخ نشأ الشيخ في قريته النشأة الأولى والنشأة الطيبة، وترعرع فيها تحت تربية والديه، وكان منذ صباه متحاشيا عن الملاهي والملاعب، شغوفا بالصلوات طوّاعا لوالديه. بدء المراحل الدراسية انتقل والده مع أسرته إلى كراتشي وألقى عصا التسيار فيها، فبدأ الشيخ الفقيد الابتدائية من هنا، التحق بمدرسة وطفق يحفظ القرآن لكن الظروف لم تساعده فتركه بعد أن حفظ أجزاء كثيرة منه. كانت أمه امرأة باسلة تحمل بين جوانحها غيرة دينية وحبا كبيرا للإسلام أرادت أن يتحصل ابنها على العلم الإلهي وأن تصير هي أمًّا لعالم ديني، فدعتها مكامنها الجميلة وحبها الصادق للدين الإسلامي الذي تغلغل في قلبها وأحشائها أن تأخذ ابنها تحت تربيتها وإشرافها وأن ترغّبه لتحصيل ما ينفعه وإياها في الدنيا والآخرة من الثقافة الدينية الإسلامية والعلوم الشرعية رغم أنها في حاجة ملحة إلى من يكسب المال لتقضي به حوائج بيتها؛ لأنهم كانوا آنذاك في شظف من العيش والبؤس والشقاء لكنها ورثت من سيدات هذه الأمة الصالحات إيثار الآخرة على الدنيا وإيثار حب الله ورسوله على حب ذاتها ورغائبها، فاحتمل كل ما لقيته في هذا السبيل من مصاعب جمة ومشاكل نازلة راضية مبتسمة متوكلة على الله واثقة به مطرحة على عتبه عبوديته، كانت تعمل بنفسها عمل الخياطة في بيتها لابتغاء فضل الله. فأخذت تُربّي الشيخ في كنفها وأمرته باللحوق بمدرسة وربط نفسه بالدراسة، فالتحق الشيخ بمدرسة "دار الخير" بكره بيرى كراتشي ودرس الكتب الابتدائية وأكّب على الدراسة كل الإكباب وانهمك فيها كل الانهماك وهنا تلمّذ على الشيخ العلامة أسفنديارخان والشيخ محمد صادق رحمه الله، وما زال يروي غليله العلمي من مناهل متعدّدة حتى اضطرته الملابسات غير المساعدة خلال العكوف على الدراسة إلى مغادرة الدراسة فتركها واتصل بمصنع يعمل فيه ويبتغي من فضل بكدّ اليمين وعرق الجبين، ثم بعد ذلك بقليل شرح صدره وأفاض عليه من فيضان كرمه، فوفّقه من جديد لإدامة سفره الذي بدأه بجهود أمه الحنونة، فشرع تكميل مهمته التي عزم عليها من قبل. إياب أهله إلى سوات ثم رجع أهل الشيخ أثناء دراسته إلى بلدهم الأصلي "سوات" وأقاموا هناك، فالتحق الشيخ بالجامعة الكبيرة المعروفة في هذا البلد "المدرسة العربية مظهر العلوم" التي تعد من أكبر مدارس العليا في هذه البقعة، وعكف على تكثيف نشاطاته الدراسية. والآن كان هو في الصف الثالث أو الرابع إذ ذاق مرارة اليتم وارتحل أبوه من دار الفناء إلى دار البقاء. ثم لم يزل يشتغل بالعلم لتحقيق أهدافه بعد رحيل أبيه كل الاشتغال وقد اعترضته خلال دراسته مشاق وحلّت به أرزاء أدته إلى التخلي عنها، لكن من أراد به الله خيراً وتشريفه بشرف العلم والقيام بما قام به أولئك السلف روّاد الأمة، أنقذه من ما يتعسّر عليه وقدّمه إلى ما قضى الله به. الشيخ في مظهر العلوم كم من عقبات اجتازها وكم من خطوب مُملة تجشمها، كلها كان لابتغاء مرضات الله في سبيل العلم، فأكمل جميع الفنون من النحو والصرف، والمنطق، والبلاغة، والفقه وغيرها في الجامعة مظهر العلوم سوات، وتبرّع فيها تبرّعا تاما حتى اعترف أساتذته بتبرعه فيها وجهوده العليا وصارَ مغتبطاً عند الكرام ومحسودا عند اللئام. ارتحاله لعلوم الحديث كان سمع حسن أحدوثة الشيخ الكبير المحدّث النيل العلامة سليم الله خان –دامت فيوضهم- في تدريس صحيح البخاري وعلوم الحديث فاشتاق إلى الورود على هذا المعين الصافي والتلمّذ عليه، فأخذ الطريق إلى كراتشي برغبة وحنين، فالتحق بالجامعة الفاروقية التي هي أكبر المدارس والجامعات في الديار الباكستانية، لما سمع درس المحدث النبيل الذي كان نموذجا رائعا لدروس المحدثين السابقين العظماء، هام به وشغفه حبا، لما أنّ الشيخ المحدث يتّصف بمهارة تامة في علوم الحديث إذا هو يدرّس فيثير ذكريات الشيخ الإمام النووي والإمام أنور شاه الكشميري ويناقش مع الإمام ابن حجر والإمام ابن تيمية –طيب الله ثراهما-في أمور خلافية فينة بعد فينة أوان الدرس. قرأ الشيخ صحيح البخاري على هذا المحدث النبيل وقرأ كتب الحديث البقية سنن الترمذي وأبي داود وصحيح مسلم وغيرها على أساتذة تلك الجامعة وتخرج على يد أستاذه الكريم الشيخ سليم الله خان وعلى أيدي أساتذته الأكابر الآخرين –رحمهم الله-. الشيخ في مضمار التدريس إن الشيخ سليم الله خان قد توسّم في تلميذه البارع البارّ الفائق في الأقران النجابة والجدارة وشاهد فيه الرغبة والنهامة التعليمية والمؤهلات الطيبة للتدريس من خلال إقامته في الجامعة وأحيان تعلمه، فأسند إليه التدريس والإفادة في جامعته فلبّاه الشيخ بطيب النفس وانخرط في سلك التدريس وبذل مجهوداته الحسنة في مجال التدريس، درّس وأفاد في مختلفة الفنون مثل النحو والصرف والتفسير والفقه والأدب والحديث يقول بنفسه: ما تركت كتابا داخلاً في منهج الدرس النظامي إلا درّسته. قد رزقه الله مهارة كاملة في التدريس، لذلك يُلقى الدرس بأعلى فصاحة وبلاغة، كان إذا خاض في مسألة ما تركها إلا وضّح جميع ناحيات المسئلة بكل وضوع، وكان لا يَذَرُ أيّ وهم أو شك في الدرس إلا ويشرحه ويكشف النقاب عن منطوياته حتى تنجلي المسألة ناصعة بادية، فيُحيّر العقول ويدهش البصائر بما يتّصف به من عمق في العلم وفصاحة في الكلام وحسن أسلوب المحاضرة وطريقة التفهيم الكاملة. طارت صيته في الآفاق الباكستانية وذاعت سمعته، واشتهرت أخبار تدريسه ومواهبه العالية في الأوساط العلمية، وثار الضجيج في أوساط المتعلمين فتهافت عليه الطلبة تهافت الفراش على النور، وشُدّت إليه الرحال من الأقطار البعيدة وظلّ محبا عند جميع الطلبة وأساتذة الجامعة. ولأجل رسوخه الكامل في علم الفقه أسند إليه الإشراف على دار الإفتاء وأصبح عميدا ومراقباً على المتخصصين في الفقه، انقطع إلى هذه الشعبة حتى صار من أبرع المفتيين وأكبرهم في هذه الديار وأصبح مرجَعا في المسائل المعضلة العويصة فكان يحلّها بأسلوب جيد وبنظر دقيق وبفكر ثاقب يقلّ نظره في هذا العصر. درّس وأفاد قريباً من عشرين سنة في نفس هذه الجامعة وتخرّج على يده مئات من العلماء الكرام المتخصصين في الفقه. اعتزل بعد عشرين سنة عن الجامعة الفاروقية لبعض أسباب ومكث في البيت حتى علم الشيخ المفتي أحمد الرحمان -رحمه الله- رئيس الجامعة العلوم الإسلامية بنوري تاؤن بمغادرته الجامعة الفاروقية، فانتهز هذه الفرصة لاستخدام كفاءاته العليا لجامعة بنوري تاؤن ودعاه إلى التدريس والإفادة في جامعة العلوم الإسلامية بنوري تاؤن وألحّ عليه؛ فرضي الشيخ ولبّاه إجابة لرغبته، وتولّى بالتدريس في هذه الجامعة، فالآن ازدانت هذه الجامعة بهذا العَلَم الكبير الفذ، واغتبطت به جامعات أخرى، وأخذ في سقى الطلبة المتعطّشين الواردين عليه بعيون علمه التي تنمهر منه، وانتشرت أشعة علمه واستفاد منه الخلائق حتى انتهت اليد الرئاسة في التدريس والتربية الحسنة. وبعد استشهاد الشيخ المحدّث الدكتور حبيب الله مختار أصبح محدثا للجامعة وتحمّل مسؤولية تدريس صحيح البخاري، فذاع نبأ تدريسه صحيح البخاري في نواحي باكستان في جوّ المتعلّمين فأكبّ عليه الطلبة وأتوا إليه من كل فجّ عميق، ومرمى سحيق حتى صار علماً مفرداً في هذه البلاد، وعرفت مهارته وحذاقته في علوم الحديث وصحيح البخاري حتى عدّ من كبار المحدثين في باكستان في هذا العصر. ارتباطه بالسلوك وانخراطه في سلك المشائخ لم يكتف الشيخ بتحصيل العلوم فحسب بل إنما كان مصطبغا بصبغة التصوف والسلوك معتنيا بتزكية نفسه، وهذه ميزة علماء ديوبند كلّهم من حيث أنّهم لم يقتصروا بجمع المعلومات غير عائبين بتهذيب أنفسهم من الرذائل التي تكمن في فؤاد كل بشر بل إنهم لما تخرجوا وفزعوا عن تحصيل العلوم بدأوا إصلاح باطنهم وتزكية قلوبهم، ولهذا العرض تشبّثوا بأهداب الأولياء الصالحين كي يرشدوهم إلى الانتهاج بمنهج مستقيم ويطهروهم من دنس المعاصي ومكائد الشيطان ويداووهم أمراض قلوبهم. ارتبط الشيخ بهذه الشعبة المهمّة في الدين وتعلّق بهذا الركب الصالح السامي، فبايع أوّلاً على يد المرشد الكبير المحدث الجليل العلامة محمد زكريا الكاندهلوي الذي كان من أكبر المشايخ أنذاك كما كان بحراً مائجاً في العلوم والمعارف ثم بايع الشيخ المرشد العلامة فقير محمد البشاوري، الذي كان خليفة حكيم الأمة الشيخ أشرف علي التهانوي –رحمه الله- ثم إذا استأثره الله تعالى فبايع الشهيد الإسلامي المفكر الكبير العلامة محمد يوسف اللدهيانوي –رحمه الله- وخلّفه الشيخ اللدهيانوي –رحمه الله-. نشاطاته وجهوده في السياسة الإسلامية ليس الشيخ منقطعا إلى مدرسة أو زاوية فحسب بل كان متسابقا إلى كل نا حية لها صلة بالدين، مصونا عن الجمود والقحولة الذان قلما لا تجد العلماء والصوفية خالين منهما، يملك نظراً عميقاً في السياسة الإسلامية التي حثّ الإسلام على أدائها، وله مواقف محمودة في إرشاد المجتمع الباكستاني إلى السياسة الإسلامية، ندّد دائما بمن يفصل السياسة عن الدين ويقول بقطع الدولة عن الإسلام، ونقد عليهم نقدا لاذعا وما زال يؤزِّر الجماعات التي تسلك مسلك السياسة الإسلامية وتمثِّل دورها في أداء رسالتها وتكميل أهدافها، ويساعدها الشيخ في كل مرحلة وعقبة بآراءه الحصيفة ومقترحاته النافعة، ويرأس حفلاتها ومجالسها الخاصة ويشرف على مناهجها التي تختارها. ويملك الشيخ خبرة تامة وإلماما كاملا بأحوال الجماعات السياسة العالمية وبأحوال الدول الإسلامية ويحمل عثورا عميقاً على مكائد الأقوام الكافرة، لذلك كان يكشف القناع حينا فحينا عن مؤامرات الأقوام الأجنبية من اليهود والنصارى ضدّ الأقطار الإسلامية ودسائسها، ويحلّل تحليلا جيدا قويا على أوضاع العصر، كانت حذاقته وثقوبة نظره في السياسة تضاهيان حذاقة شيخ الهند محمود الحسن وحذاقة الشيخ المجاهد الكبير العلامة حسين أحمد المدني –رحمهما الله-. مقتبس من مجلة الفاروق، كراتشي. الكاتب: غفران الحق السواتي.
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2024

التعليقات

يجب أن تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب

يستغرق التسجيل بضع ثوان فقط

سجل حسابا جديدا

تسجيل الدخول

تملك حسابا مسجّلا بالفعل؟

سجل دخولك الآن
المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2024