نبذة عن حياة فقيد الأمَّة الشيخ سميع الحق الشهيد رحمه الله (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله العلي العلام والصلاة والسلام على من بعث متمِّمًا للأنبياء الأعلام، وعلى آله وأصحابه ومن والاهم وتَبِعَهم إلى يوم البعث بالإحسان والإتقان، أما بعد!
لقد اشتدَّت الأيَّام وتأزَّمت الأوضاع وساءت الظروف الراهنة بأهل الإسلام، ولاسِيَّما على طلبة العلم والعلماء في ربوع البلد كله، وتتابعت الكوارث المفجعة والحوادث المفزعة منذ فترة طويلة على الصعيد الوطني بأشكال منوَّعة مِن قتل العديد من كبار أهل العلم واغتيالهم، وما دفعَني _إلى تحرير هذا المقال أسطر قلائل _ هو أنَّ عالمًا جليلا اُغتِيلَ في الأيام القريبة بطريقة عنيفة وقلوب قاسية، ومما يأخذنا الأسفُ في هذا الموقف المُحرِج هو أنَّ العلماء هم الذين قاوموا الاستعمار الغربيَّ وحاولوا الردَّ عليهم في سبيل تحرير الوطن العزيز واستقلاله، وسعَوا سعيَهم البليغ وضحَّوا بنفوسهم الطيبة ودمائهم الطاهرة، لكنَّ هذه الأرض ومن علا سطوتها في عصور مختلفة دانوهم بما لايدان به المحسن الصالح من سفك الدماء وصبغ الشوارع بها وقتْلِهم بطرق بشعة، فيا للأسف ولضيعة الأدب للعلم وأهله! هذا وصفحات تاريخ باكستان معروفة مسودَّةٌ وحافلة بمثل هذه الاغتيالات ومحاولات القتل ووقائعه والإبادة، والله المستعان وإليه المشتكى.
ومن جملة الحوادث اغتيال وقتل العالم الكبير العلامة الشيخ سميع الحق _طيَّب الله ثَرَاه_ في الأمس القريب بتاريخ 2 من تشرين الثاني (نوفمبر) المصادف للثالث والعشرين(23) مضى من صفر الخير، وذلك مساء يوم الجمعة.
والأعتى في الأمر أنَّ القاتل قتَله طعنًا بالحِراب في هجوم إذ كان الشيخ في منزله في راولبندي بالقرب من العاصمة إسلام آباد حيث آوى إليه قاصدًا الاستراحة وقتَ العصر، وعندها خرج حاميه الشخصي من عنده إلى السوق لشراء بعض الحوائج، فلمَّا رجع من السوق توجَّس كثيرًا بعد ما وجد الباب مفتوحًا فهرول إلى الداخل وفزع فزعا شديدًا فدخل الغرفة وإذا بالشيخ متلطخٌ بالدم قد جاد بنفسه وسلَّمها إلى الرفيق الأعلى.
ألا إنَّ موتَ العالِم موت العالَم؛ فإنَّ الله تعالى لا ينتزع العلم من صدور العلماء بل ينتزع العلم بقبض العلماء، وإنَّ العالم يكون السراج النيِّر الذي تستنير بأضوائه الأجواء المظلمة، والشيخ الشهيد _رحمه الله_ كان سراجًا نيِّرًا ونموذجًا عظيمًا للقيادة الصالحة، وكان جبلاً شاهقًا في الدفاع الفكري عن الاستعمار الغربي، وقد سبق في مجال العلم والتعليم والتصنيف والتأليف وكذا في باب السياسة والجهاد.
ومما زاد الطينَ بِلَّةً أنه قُتل بالخناجر والسكاكين حيث أثار الحادث شجونَ مقتلِ خليفة المسلمين عثمان بن عفان _رضي الله عنه_ فإنَّه كان مأساة عالم الإسلام، ويمكن التوافق بين الحادثتين بعدة اعتبارات كالآتي:
1: عاش الخليفة اثنين وثمانين عاما من حياته، والشيخ أدرك ثلاثة وثمانين عاما من العمر.
2: قُتِلَ كلٌّ من الخليفة عثمان بن عفان _رضي الله عنه_ والشيخ الشهيد بالحراب والسكاكين.
3: قد وقع قتلُ الخليفة _رضي الله عنه_ يوم الجمعة على الأرجح وفي نفس اليوم حَدَثَ قتلُ الشيخ الفقيد.
4: قُتل الخليفة وقتَ العصر، والشيخ الفقيد اُغتِيل ما بين العصر والمغرب، فيالها من سعادتَين اجتمعتا في شخصيته من نيل الشهادة والتشبه في المقتل بالصحابي الجليل _ رضي الله عنه وأرضاه _.
لقد فتح العلامة عينيه الكريمتين في عام: "1355 هـ " 12 رجب المرجب - "1936م"30 أيلول (سبتمبر) في أسرة عريقة عُرفَت بالعلم والعرفان والصلاح والخير في بيت الشيخ عبد الحق حيث وقع بمدينة "أكوره ختك" "خيبربختون خوا" (وكان يسمَّى سرحد قديمًا).
وسلالته المفصَّلة كالآتي: الشيخ سميع الحق بن الشيخ عبد الحق بن الشيخ محمد معروف گل بن الحاج مير آفتاب بن الشيخ عبد الحميد (وكان يُدعَى بـ"ملاحميد") بن الشيخ عبد الرحيم تغمَّدهم الله بالعفو والغفران جميعًا.
وابتدأ الشيخ مسيرتَه العلميَّة في بيته عند والده الجليل، وثانيًا في مدرسة تعليم القرآن، وتلقى شطرًا كافيًا من الدراسة الابتدائيَّة فيها، ثم انتقل بعدها إلى المدرسة التي أسَّسها والده وسمَّاها بـ"انجمن تعليم القرآن الإسلامي"، وأخذ حظًّا وافرًا فيها، ولم يكن الشيخ سميع الحق يرغَب في الألعاب الملهية والثياب القشيبة والأحذية الفاخرة ونحوها من الأهواء والهوايات كما كان لِدَاتُه وأقرانُه الآخرون يرغبون في أنواع من الملذات ويطالبون آباءهم بطلبات رفيعة في المناسبات وغيرها آنذاك، وإنَّما شُغِفَ بالقراءة والكتابة من صغر سنه إلى آخر لحظة حياته.
وبدأ الشيخ دراسة المنهج النظامي ـ السائد في شبه القارة الهنديَّة ـ من الصف الأول إلى أن أتمَّ المرحلة العالميَّة، وتخرَّج من دورة الحديث في عام 1959، ونال الشهادة العالميَّة، ونيطت به العمامة في حرم الجامعة الحقانيَّة العريقة التي علا صيتُها بـ"دارالعلوم ديوبند الثانية" حيث أسَّسها والدُه العظيم الشيخ عبد الحق ـ رحمه الله ـ ، وإلى جانب ذلك تلقى تفسير القرآن من الإمام الكبير شيخ التفسير الشيخ أحمد علي اللاهوري ـ رحمه الله ـ مدير مدرسة خدام الدين بـ"لاهور" في نفس سنة تخرج فيها من المنهج النظاميِّ، ونال شهادة الفضل والتفوُّق في التفسير، وفي آخر أيَّام حياته بدأ يجمع ما استقى من علوم الشيخ أحمد علي اللاهوري وأماليه بحُلة كتاب يحتوي على مجلدات كثيرة، وله عندي حظ كاف من الكلام في مقالي هذا وسوف أتحدث عنه في حينه إن شاء الله.
وكان ـ رحمه الله ـ بارزًا متميِّزًا في سائر أقرانه ومعاصريه ولست أبالغ لو أقول: إنَّه من نوادر الرجال في قوة الإرادة وشهامة النفس واقتحام المخاطر، والبعد في التخيل، والاعتماد على النفس، والعزوف عن الشهوات، وكان مفرِط الذكاء قويَّ المناسبة في العلوم، جيِّدَ النظر في طبقات العلماء، وتاريخ العلوم وتدوين الحديث، وكان فصيح اللسان، عارفاً بمواضع الكلام، حلو المنطق، دمث الخلق، بشوشاً، كثير الانبساط، قليل الاعتراض على الناس، كثير التواضع وكان مربوع القامة، أبيض اللون، زاهدًا في الملبس والمشرب والمطعم حسن الملامح، كثير الحياء، شديد المحافظة على أوقاته القيِّمة.
ولاشكَّ أنَّه صابر وثابر واجتهد وسعى، ولم أَعرفْ عالماً ولا داعياً من معاصريه أبلى بَلَاءَه وسعَى سعيَه وجَهَدَ جُهدَه وقدَّم تضحيتَه، فأنَّى يُدرِكُ الضالعُ شَأْوَ الضليع فإنَّه عاش حياةً علميَّة صافيةً سهلة بسيطة ساذجة، خالية عن التكلف والتصنع، مملوءةً بالتواضع والمجاملة والرفق واللين مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بينَهُمْ ﴾، وقد كان واسطة العقد بين العلماء وكان من عادته طول الصمت وقلة الكلام، وكان من أكمل من رأيتُ في أخلاقه وآدابه وشمائله، ولذلك حُبِّبَ إلى الناس وصار المرجع والمقصد بمدينته.
أساتذته الأجلاء: وممَّا لاريب فيه أنَّ الاستفادة العلميَّة والتربويَّة الدينيَّة من الشيوخ المهَرَة والعلماء الجهابذة في تخصُّصَاتهم، والصالحين المخلصين المجدِّين في خدماتهم، والمتشبِّثين بالآداب الإسلاميَّة في حياتهم الرهينة من أعظم مكوِّنات الشخصيَّة المتكاملة التي تستحقُّ أن تَسُوَد الأمَّة الإسلاميَّة في آفاق العالم في شؤونهم ومهامِّهم، فأذكر من أشهر أساتذته كالآتي:
الشيخ عبد الحق الحقاني:
إنَّ الشيخ عبد الحق والده المكرم وهو في نفس الوقت شيخه وأستاذه، وُلد الشيخ عبد الحق "1327هـ الموافق 1910م من كانون الثاني" في أكوره ختك عند الحاج معروف گل، وترعرع وتناول المبادئ بقريته، وكانت أجواء العلم تَسودها، فلمَّا بلغ الثامنة من عمره فوجَّهه أبوه إلى محافظة كيملفور في مسيرة طلب العلم، ثم تلقَّى العلوم العربيَّة عند العالم الشيخ الكوهستاني والشيخ عبد الجليل والشيخ عنايت الله، وقد ارتحل بعد ذلك إلى نواحي المدن المختلفة من الهند المتحدة واشتغل فيها بتلقي العلوم الشرعيَّة من الشيوخ الجهابذة المهرة كالشيخ حسين أحمد المدني، والشيخ محمد إبراهيم البلياوي وشيخ الأدب إعزاز علي والشيخ رسول خان والشيخ أصغر حسين الديوبندي والشيخ مرتضى حسن الچاندپوري والمفتي العام محمد شفيع العثماني ـ رحمهم الله جميعًا ـ وأمثالهم من الأعلام حتى تخرَّج منها سنة 1352هـ، وبعد ما أتمَّ الدراسة النهائيَّة متضلِّعًا من العلوم الشريفة والمعارف النبيلة وَلِيَ التدريسَ بالجامعة الإسلاميَّة دارالعلوم ديوبند، وفي عودته إلى باكستان بعد أربع سنوات تم استقلال الوطن العزيز (باكستان) فلم تتسنَّ له العودة إلى الهند ثانيًا واشتغل بمهنة التدريس في مدرسته التي عرفت في العالم الإسلامي بـ"الجامعة الحقانيَّة" واجتهد فيها ووجه كافة جهوده تلقاءها حتى قيل: إنَّها دارالعلوم ديوبند الثانية، وقد علا كعبُه وبدا نجمُه في فهمه العلوم والفنون، وإضافة إلى ذلك فإنَّ الله جلَّ وعلا رَزَقَه الخبرةَ الكبيرة والمهارةَ الكاملة والفهمَ الثاقب في باب إدراك أحوال السياسة الوطنيَّة حتى لقَّبه العلماء المعاصرون بـ"قائد الشريعة" لِمَا قدَّم من مجهود كبير وخدماتٍ علميَّة ووطنيَّة في سبيل تطبيق قوانين الإسلام في البلد، وقد غربت شمس حياة هذا الفذ العبقريِّ في المستشفى بعد معاناة المرض أيامًا كثيرة سنة 1408هـ الموافق: 1988م في السابع من أيلول (سبتمبر)، وترك الخلق يبكيه.
الشيخ عبد الغفور السواتي:
ولد الشيخ عبد الغفور في قرية "خوازه خيله" بولاية "سوات" وأخذ الدراسة الأولى في بيته، ثم درس بعض العلوم على علماء المنطقة إلى أن انتهى منها، ثم سافر إلى المدرسة الأمينيَّة بـ"دهلي" حتى تخرج منها على فقيه الهند الشيخ كفايت الله _رحمه الله_، ثمَّ اشتغل مدرِّسًا في المدرسة نفسها وبقي على ذلك إلى مدة، ولمَّا انقسمت ولاية سوات إلى كُتلتين فاشتغل بالتدريس في مدرسة حكوميَّة أنشأها والي سوات، وشاءت الأقدار أن يكون مدرِّسا في الجامعة الحقانيَّة، فأراد الشيخ عبد الحق تعيينه في مدرسته فذهب إلى والي سوات وطلب منه بعثته إلى الجامعة الحقانيَّة، فما كان إلا أن حلَّ هذا الطلب الملحُّ محلَّ القبول عند الوالي، وأذن له بالرحيل إلى الحقانيَّة حسْب ما تمَّ الوفاق عليه بينهما، فذهب إلى الجامعة وكان فيها مدرِّسًا إلى أن توفَّاه الله تعالى في 18 شوال 1376هـ الموافق 1957م، ـ أنزل الله عليه شآبيب رحمته ـ ، وقد دَرَسَ عليه الشيخ سميع الحق عدة كتب منها مير قطبي وشرح الجامي ونحوها من الكتب المهمَّة.
الشيخ عبد الحليم الزروبوي:
ولد الشيخ عبد الحليم الزوربي في أسرة عريقة علميَّة متديِّنة، ووالده الشيخ خليل الرحمن بن الشيخ الشاه غريب بن الشيخ سعد الدين، وآبائه وأجداده كانوا من كبار أهل العلم والفضل، وترعرع في أحضان والده الجليل وتلقَّى عنه وعن علماء قريته الدراسة الابتدائيَّة والعلوم الأخرى، وبعد ما تخرَّج في العلوم الآليَّة فقد انضمَّ إلى الجامعة الإسلاميَّة دارالعلوم ديوبند للدراسة العليا في الحديث النبويِّ الشريف، والتحق بها في عام 1351هـ ، وتلمَّذ على الشيخ حسين أحمد المدني، والشيخ محمد رسول الهزاروي، والشيخ محمد إبراهيم البلياوي، والشيخ إعزاز علي، والمفتي محمد شفيع _رحمهم الله جميعًا_ وتخرَّج منها سنة 1353هـ، ثم درَّس في مدارس مختلفة، منها: المدرسة الرحيميَّة، والمدرسة الجامعة الرحمانيَّة بـ"دهلي"(الهند)، وجامعة مظهر العلوم بـ"كراتشي"، ودارالعلوم الحقانيَّة بـ"نوشهرة" وبقي فيها مدرِّسًا إلى آخر حياته، وتلمَّذ عليه الشيخ الفقيد في علوم مختلفة وكتب عديدة في أيام دراسته، وقد سقطت هذه الدرة الثمينة من العقد النفيس 20 من ربيع الأول 1403هـ الموافق: 1983م طيَّب الله ثراه وتغمَّده بكامل عفوه.
الشيخ المفتي يوسف البونيري:
كان الشيخ يوسف البونيري عالمًا جليلاً ومدرِّسًا بارعًا ومفتيًا بالجامعة الحقانيَّة إلى فترة من الزمن، وقد
درس عليه الشيخ سميع الحق كتبا عديدة منها: كلام الملوك (وهو مجموعة من أبيات الصحابة واالأزواج المطهَّرات باللغة العربيَّة)، والمطول والمعلَّقات السبع ونحوها من الكتب المهمَّة، إلاَّ أنَّه كان يميل بنزوعه الفكريِّ إلى الجماعة الإسلاميَّة التي أنشأها المودودي، وكان يؤيدها بمناقشاته وكتاباته، ثم تفاقم الخلاف الفكريُّ بينه وبين العلماء الآخرين حتى بلغ به الحال إلى أن عُزِلَ من التدريس بالجامعة الحقانيَّة، وإنِّي حاولتُ جاهدًا في سبيل أن أجد ترجمة مفصَّلة عن حياته لكنَّني _للأسف الأسيف_ لم أظفَر بها فأستكفي بهذه الأسطر المعدودة.
شيخ التفسير أحمد علي اللاهوري:
لاشكَّ أنَّ الشيخ أحمد علي اللاهوري كان صاحبَ المكانة العالية المرموقة وليًّا من أولياء الله تعالى وياله من وليٍّ أيِّ وليٍّ، وبم أنَّه كان من أساتذة الفقيد والذين استفاد منهم في حياته العلميَّة، ولاسِيَّما أنَّه درس عليه تفسير القرآن الكريم فيطيب لي أن أذكر بعضًا من نفحات حياته الميمونة وهي كما يلي:
ولد الشيخ "أحمد علي" في الثاني من رمضان المبارك في عام 1304هـ في قرية "جلال" (گجرانواله) في بيت الشيخ حبيب الله وسمَّاه بـ"أحمد علي"، وخصَّه والده لخدمة الكتاب والسنة، وقرأ القرآن الكريم على والدته، ثم درَسَ العلوم الابتدائيَّة على الشيخ عبدالحق _رحمه الله_.
ولمَّا تخرَّج الشيخ عبيد الله السندي وجاء إلى گجرانواله لزيارة أقربائه وأحبَّائه _وكان والد الشيخ أحمد علي من أقربائه_ فنزل الشيخ السندي عنده فعرض عليه ابنَه أحمد علي ليُعلِّمه ويُدرِّسه العلوم الشرعيَّة فرضي به فأخذه في رعاية شيخه الشيخ غلام محمد الدينفوري، فالتمس منه أن يبايعه ويُدرِّسه فبقي عنده واستكمل جميعَ العلوم المهمَّة، وتخرَّج على يده سنة ألف وتسعمائة وسبع وعشرين للميلاد (1927م) الموافق سنة ألف وثلث مائة وتسع وعشرين (1329هـ)، ثم درَّسه الشيخ عبيد الله السندي بنفسه بعض العلوم اللازمة وعيَّنه مدرِّسًا بمدرسته التي أنشأها بنفسه، وشارك مع شيخه في جميع أنشطته السياسيَّة والجهاديَّة ومرَّت عليه ظروف عصيبة وأوضاع قاسية ولكنَّه تصبَّر وصمد أمام المصاعب والمشاق، حتى سُجن لذلك مرارًا.
وذُكِرَ أنَّه شارك في حركة المناديل الحريريَّة مع شيخه الجليل، وأخذته الشرطة مرة ـ وكان يُلقي درسًا من آي القرآن في مدرسة "نظارة المعارف القرآنيَّة"ـ وأُغلِقت المدرسة عند ذلك، والأمرُّ من ذلك أنَّ الحكومة فَرضَت الإقامة الجبريَّة عليه في دهلي ثم نُقل منها إلى السجن، ولم يلبث فيه أيامًا حتى نُقل إلى سجن "شملة" ثم حُوِّل إلى محبس آخر قربَ محطة القطار، وأُخرِجَ من هذا السجن أيضًا بعد خمسة وعشرين يومًا وأُدخِلَ سجنَ المدينة، ولم يَمضِ عليه الكثير حتى أطلقت الحكومة سراحه بشرط بقائه في لاهور وعدم الذهاب إلى السند، وطَلَبَتْ منه كفيلين لتثبيت هذا العهد بينه وبين الحكومة فلم يجد كفيلاً له في لاهور إلاَّ أنَّه وجد بعد بحث قريبًا له بلاهور كان مدرِّسا بالمدرسة العصريَّة الثانويَّة يسمَّى القاضي ضياء الدين فصار هو وصديقه الآخر "لال خان" كفيلين له، وبذلك تم إطلاقه من السجن، وبعدما استوطن لاهور وُلِّيَ الخطابة وحلقة تفسير القرآن في مسجد "لائن سبحان خان"، وتصدَّر للتدريس والإفادة، وبدأ يقدِّم جهودَه الحثيثة لنفع الإسلام والمسلمين، وأسَّس إدارة سُمِّيَتْ بـ"انجمن خدام الدين" وكان يُشرف عليها بنفسه، ومع ذلك أقام مدرسة عربيَّة ابتدائيَّة عُرِفت بـ"قاسم العلوم" فيما بعد، وكانت وفود طلبة العلم تأتي إليها من المناطق المختلفة الشاسعة لتلقّي علم التفسير، وقد وضع لهم دورة التفسير لثلاثة أشهر من بداية رمضان إلى نهاية ذي القعدة.
وقُصارَى المقال: أنَّ العلامة الكبير عاش حياته مفسِّرًا مؤلِّفًا داعيًا للقرآن إلى نصف قرن في خدمة القرآن والحديث وطلبة العلوم الشرعيَّة، وقد عاش في الغربة أيامًا في لاهور حتى لم يجد كفيلاً في كافة المدينة، وذلك إن دلَّ على شيء فإنَّما يدل على أنَّه قد بلغ من الإخلاص غايته، وكذلك قد دلَّ دلالة بيِّنةً على أنَّه قدَّم مجهودًا كبيرًا لخدمة الدين وأهله وحاول وصابر وثابر واجتهد وأبلى بلاءً حسنًا، وارتحل إلى جوار ربه بعد مرِّ خمسة وأربعين عامًا، وصلى عليه الملايين ودفنوه بعيون باكية، وذلك في السابع عشر من رمضان سنة 1381هـ ،. ويقال: إنَّه كان مرقده يَفوح برائحة طيبة إلى مدة كبيرة بعد موته.