المطالعة الجماعية

مقال يتحدث عن المطالعة الجماعية ويستعرض مزاياها وأهميتها

جاءني اليوم طالب مستشيرا إياي حول ما يسمى بالقراءة الجماعية أو المطالعة الجماعية، ومدى النفع العائد من هذا النوع من المطالعة، بناء على أنه شوق بعض الزملاء من الذين يحبون اللغة العربية في المطالعة الجماعية فاستعدوا، وهو الآن جاءني يستشيرني في هذا الباب، هل هي مفيدة لهم فعلا وما هو الكتاب الذي ينبغي أن يتناولوه كأول خطوة لهم في هذا المجال، وحول كيفية وكمية الجلسات التي تنعقد بينهم ؟

كنت راجعا من صلاة الظهرة وفي طريقي إلى المكتب لما اعترضني، فأيدت الفكرة في بداية الأمر، مشيدا بهمتهم وعزمهم و تفكيرهم البناء في مجال التنمية الذاتية وتطوير واستكشاف المواهب، وأكدت على التطبيق، وقد أعجبتني الفكرة لأني قديما كنت من هواة القراءة الجماعية الشيء الذي قد أصبح مع الأسف شبه معدوم في مدارسنا ومعاهدنا وبيئاتنا.

ثم لما رأيت الخطوة قيمة ومستحقة للإشادة فلم يكن لي إلا أن أخصص مقال اليوم لهذا الموضوع، محاولا فتح الملف أكثر برجاء أن يقع مفيدا.

 

المطالعة أو القراءة الجماعية نوع من أنواع المطالعة الكثيرة، ولها فوائد جمة من أبرزها:

1-حفظ الوقت من الضياع واستخدامه بنحو أحسن، فالكتاب الذي ربما ليس بمقدور الشخص أن ينهيه إلا في شهور، يمكن قراءته في أسبوع بهذا الأسلوب.

2-كثرة متعة القراءة، فالقراءة الفردية يملها المرء بينما هذا النوع منشط.

3-اختلاف وجهات النظر والنقاش والحوار كل يوجد متعة كبيرة في القراءة.

4-التوفيق لمطالعة الكتب المتنوعة وتوسيع محيط القراءة.

5-الاستمرار اليومي الهادف على المطالعة وهذا بحد ذاته محفز للتقدم.

6-إيجاد روح التنافس بين الطلاب الذين يمارسون هذا النشاط، فكل يستعد لتلقّي الإشكالات والطروح الصعبة والرد عليها بوجه مقنع.

7- تنمية الاعتداد بالنفس، لأن الذي ليس لديه الثقة بالنفس فهو لا رجاء فيه ولا مستقبل له منظور.

 

من العادة لدينا القراءة عند الأساتذة والشيوخ، والطلاب في مدارسنا تربوا على هذا المنهج، وبما أن بين الأستاذ والطالب برزخا لا يرتاحان ارتياح الصديق لصديقه والزميل لزميله والقِرن لقرنه، كأمر طبيعي لا مجال فيه للنقاش، فالطالب يخجل من الأستاذ بحكم الطبع، إلا أن هذا يجب ألا يصرفه عن تحصيل الفوائد الموجودة في القراءة الجماعية بعد ما رأى الأستاذ غير مناسب للخوض في العملية، بل عليه أن يتخذ من الزملاء والأقران وسيلة إلى نيل هذه الغاية، فيقرأ معهم ويتدارسون فيما بينهم، وبغضّ النظر عن هذا فالفائدة تكون أعم عند مدارسة الطلاب فيما بينهم فهم يتجرؤون لمناقشة الأصدقاء أكثر من مناقشة الأستاذ والمناقشة بنفسها كفيلة بفتق آفاق الفكر.

في عملية المطالعة الجماعية على الأغلب يختار كتاب يصعب فهمه على الشخص، وهو من حيث المستوى عال لا يفهمه لو طالعه بوحده في البيت أو في المكتبة أو أي مكان آخر دون الاستعانة بالآخرين، لحاجة الموضوع إلى المناقشة والحوار والمذاكرة والتبادل والأخذ والرد. ویکون ذلک بتوزيع أجزاء الكتاب بين الأعضاء ثم حينما يجتمعون لاحقا يقدم كل واحد منهم نصيبه، كما يسأل عنهم ما استشكل عليه من المسائل والفقرات والأفكار، ولعل شخصا يستطيع أن يرد عليه وإن لم يتمكن أحد من الرد المقنع والشافي يعرضون المسألة على شيخ أو أستاذ أو إخصائي في الفن أو في إطار الباب أو الكتاب، وهذا الأسلوب هو الذي يجعل الشخص محيطا بما في الكتاب في أسرع وقت، ونفس الطريق مرشح للاضطلاع في أي علم وفن.

المطالع يطالع الكتاب لكنه لا يهتدي إلى الفهم العميق والزوايا الخافية التي أودع الكاتب طيات الكتاب بالمطالعة السطحية والإلمام العابر بينما في القراءة الجماعية هذا يتصور شيئا وذلك يتصور شيئا آخر ثم تبدأ الأسئلة وكل شخص يذكر رأيه الذي هو عقله، وفيه روعة ومتعة لا تخفى. ففي هذا النوع من المطالعة يرى الإنسان عجب العجاب، فكم من المسائل والأفكار تتقاطر عليه حين المناقشة التي لم تأته قبل ذلك خلال المطالعة الفردية، أو تصورها لكن ليس كما حقها، وهذا مشهور ومجرب، فنحن أيضا كثيرا ما جربنا أن طالعنا كتابا مرتين أو ثلاث مرات وظننا أننا فهمنا الكتاب فهما وسبرنا غوره ثم بمجرد التحدث إلى زميل عن الكتاب ومعالجة الموضوع هكذا عفويا ودون أن تكون مطالعة جماعية، ففهمنا شيئا لم نكن فهمناه خلال المطالعة وتجشم الفكر في الخلوة ولا تسأل عن ثمالة الفهم في تلك الساعة.

والفائدة الكبرى بظني لهذا النوع من المطالعة هو الاستمرار والدوام، فالذي يطالع بوحده لا يعرف أحد غيره ماذا يطالع ومتى وكم يطالع ! وهو يملّ دون إنهاء الكتاب فيضعه على الرف من دون عودة إليه، كما هي عادتنا الفاشية، على خلاف ما في المطالعة الجماعية التي تتدفق بروح التنافس.

نحن ربما ناجحون في المطالعة ولكننا نواجه مشاكل في التكلم والإبانة ولا نحسن التبيين وإيصال الفكرة، إحساننا المطالعة، ولعل المطالعة الجماعية هي أفضل طريق لإحسان التكلم وإطلاق اللسان وفتق القريحة، كما يكون في ذات الوقت تمرينا على إلقاء محاضرات مفصحة ناحجة، إلا أن المطالعة الفردية أيضا لها إيجابياتها، والناجح هو الذي يجمع بين النوعين، ويستعمل منهما حسب مقتضى الحال.

أوصيت هذا الطالب ليجعل كتاب "إذا هبّت ريح الإيمان" للإمام أبي الحسن علي الحسني الندوي -رحمه الله- في جدول أعمالهم ويوزعوا صفحات الكتاب على أعضاء الجماعة، ثم بعد أسبوع يجلسون فيقوم كل عضو بعرض ما طالع وأعد، فيتناقشون ويتذاكرون.

لعلي اقترحت هذا الكتاب لأنه كان أول تجربة لي في المطالعة الجماعية مع بعض الزملاء، وبداية نحو الانطلاق إلى هذا الميدان، حصل بعد توصيات مكررة من سماحة الأستاذ المفتي محمد قاسم القاسمي -حفظه الله- أستاذنا في الأدب العربي فكان -وما زال- يعيره اهتماما بالغا، مبديا مدى تأثره بأدب هذا الكتاب وأسلوبه الرائعين، وهو كتاب موجز ومفيد بخاصة بالنسبة لمن يريد تعلم اللغة العربية وتعزيز مفراته، اشتمل على مقتطفات من تاريخ الدعوة والجهاد في الهند في القرن الثالث عشر الهجري، وأضواء على حياة قائد هذه الدعوة والحركة السيد الإمام أحمد بن عرفان الشهيد -رحمه الله- وسيرة أصحابه ورفاقه وأخلاقهم بما فيها الشجاعة واليقين، والعفة والأمانة، والإيثار وهضم النفس، وروح التطوع والاحتساب، والتواضع، والمحبة، والوفاء، والعدل، في أسلوب قصصي خلاب ونمط أدبي رائع. وكان لديّ اعتقاد راسخ لفترة طويلة أن القراءة متعة فردية بامتياز، ولكني تعلّمت من خلال هذه التجربة أن القراءة يمكن أن تكون متعة جماعية أيضاً، ثم اقترحت هذا الكتاب لأنه لم يعن باللغة والأدب فحسب بل جمع بين الأدب والفكر وبيان التراث الإسلامي، ثم أمرته ليأتيني بعد التطبيق ليقرر لدي. ولعل هذا المقال يبلغه فيفيده فيما يبغي.

السيد مسعود

مدرّس في قسم معهد اللغة العربية بجامعة دار العلوم زاهدان- إيران
مجموع المواد : 50
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2024

التعليقات

يجب أن تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب

يستغرق التسجيل بضع ثوان فقط

سجل حسابا جديدا

تسجيل الدخول

تملك حسابا مسجّلا بالفعل؟

سجل دخولك الآن
المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2024