اجمع غبار الذهب
في مصنع للذهب وضعت أرضية خشبية شبكية الطراز، ليتم رفعها عندما يكنس المصنع، وبذلك يجري الحفاظ على غبار الذهب الذي تبلغ قيمته ملايين الدولارات، وهكذا حياة الناجحين؛ فإنهم يمتلكون شبكات يلتقطون بها بقايا الأيام وأجزاء الساعات، وأبعاض الدقائق والثواني، ولا يقضون أية لحظة من لحظات حياتهم بلاطائل،ولا يضيعون نفسا من أنفاس حياتهم سدى وهملا في أمور تافهة من الثرثرة والحديث الفارغ واللهو الذي لا نفع منه، بل إنهم يستثمرون الساعات الضائعة وأنصاف الساعات والعطل المصادفة الغير المتوقعة، ويخرجون منها بنتائج تذهل غير المتمكنين من هذا السر الثمين.
ولنا في أسلافنا من فحول العلماء أسوة حسنة في استغلال العطلات وانتهاز الفرص واستراق الأوقات من خلال أشغالهم المتراكمة عليهم المحدقة بهم، فهذا إمام التفسير والتاريخ ابن جرير الطبري الذي حرص على كل لحظة من لحظات حياته كحرصنا على اكتساب الأحمرَيْن، فقد عزم أن يكتب كل يوم أربعين صفحة، فمكث أربعين سنة يكتب فيها كل يوم هذا العدد الهائل من الورق، وقد ذكر أحد تلامذته أن قوما جمعوا أيام حياته منذ أن بلغ الحلم إلى أن توفي وهو ابن ست وثمانين سنة، ثم قسموا عليها أوراق مصنفاته، فصار منها على كل يوم أربع عشرة ورقة. وهذا شيء لا يتهيأ لمخلوق إلا بحسن عناية الخالق، الله أكبر، ويا لله، ما أعظم حرصهم على أوقات حياتهم وغبار ذهبهم!
نعم، هكذا كان حرصهم على الأوقات، وسواء أكانوا علماء أوعبادا وزهادا، فإنهم كانوا يسابقون الساعات، ويبادرون اللحظات، ضنا منهم بالوقت، وحرصا على أن لا يذهب شيئ منه هدرا، كما نقل عن عامر بن عبد قيس أحد التابعين الزهاد: أن رجلا قال له: كلمني، فقال له: عامر بن عبد قيس: أمسك الشمس حتى أكلمك (يعني أوقف لي الشمس واحبسها عن المسير ثم أكلمك).
وفي جانب آخر لو قمنا بتلفيت أنظارنا إلى واقع الشباب والطلاب، لتضائلت حياتنا وجهودنا وأعمالنا وتلاشت بالنسبة لجهودهم المكثفة، كما يتلاشى السراب أمام معين الماء الصافي، فإن واقعنا تجاه الوقت لمؤلم ومؤسف للغاية، فبين الفوضوية واللامبالاة، والدردشة والثرثرة، وبين النوم المديد والاسترخاء الطويل، و الإخلاد إلى الدعة و الترصد للراحة، هكذا تضيع حياتنا، نتخلف من إنجاز الأعمال المرموقة في الأيام العادية بحجة تراكم الأشغال، وندخرها للعطلات القادمة، فإذا حانت العطلات ووجدنا فراغا واسعا، ضيعنا أغلى الفرص في الأمور التي لاتعنينا، وليست لنا تحتها طائلة، وهي لا تعود إلينا بفائدة عظيمة.
ولكن يا ترى، لا تقلق ولاتحزن، ولا تذهب نفسك على ضياع الوقت حسرات بل بإمكانك الآن استغلال فرص وعطلات التي حبستنا في البيوت - جرّاء تفشي فيروس كورونا في الأمور التي ترفع مستوانا اللغوي وتطور مهاراتنا الكتابية والخطابية والسماعية، وذلك بانتهاز الأوقات الفارغة الثمينة في رفع عجلة السيارة العلمية والعلمية إلى الأمام.
وأخيرا، فإنه لا يمكننا استثمار هذه العطلات في إنجاز الأعمال الكتابية والدراسية وما إلى ذلك إلا إذا حالفنا توفيق الله تعالى ومشيئته، فبالتالي علينا أن نستمد بالله العون، ونمضي قدما نحو الرقي والازدهار، والله ولي التوفيق.