عندما يفكر العالم في التجارة
إنني منذ أيام سارح في فكرة، كنت أعتقدها مثمرة، ولكنها فكرتي أنا، فأحببت أن أعلم فكرة الآخرين، وأعرضها على الآخرين، غير أن عرضها على الآخرين يحتاج إلى وساطة متينة، فلم أرى غير الكتابة وسيلة، أستخدمها لعرض فكرتي على الآخرين، فظللت بعرض فكرتي خلال كتابتي هذه، وهي أن العالم هل ينبغي أن يكون تاجرا مع التدريس أم أن يكون ماهرا في فن من الفنون؟!
إن العالم عند ما يتفكر في تجارة، فكل واحد من مجتمعنا يجعل تجارته منافية للدين، ومخالفته، فإن كان رأي الجميع هو رأي نفسه فلما ذا بقي العلماء في المدارس!؟ ثم إن أحدنا لو خطى هذه الخطوة، وبدأ تجارته فمعاصروه يطعنونه بأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ لم يقبله، فالمقبول عند الله هو يكون مدرسا في المدرسة، ويتأسفون على ما بدأ ذلك العالم تجارته...
لو قلبنا صفحات تاريخ الإسلام لوجدنا بأن التجارة بدأت من الإسلام، وصفحاتها تشهد بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اشتغل بالتجارة، والصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ أيضا قد شغلوا أنفسهم بالتجارة، فهذا يعني أن التجارة ليست منافية للإسلام، وليست مخالفة للدين، فأحدنا يمكن أن يكون تاجرا، وفي نفس الوقت يمكن أن يكون خادما لدين الله ـ سبحانه وتعالى ـ بل وأقول: إن العالم إذا كان له تجارة فهو يضاعف خدمة الدين، حيث إنه يمكن تقديم مساعدة علمية لطلاب العلم، وتقديم مساعدة مالية إليهم... فهنالك قائمة أسماء الصحابة الذين قد باشروا تجارتهم بأنفسهم، وأضرموا النار في مطابخهم، فها هو أبوبكر الصديق ـ رضي الله تعالى عنه ـ الذي قد شغل نفسه بتجارة بيع القماش، لأجل كفالة بيت، وها هو عمر ـ رضي الله عنه ـ الذي باع الإبل، وها هو عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ الذي تكفل بيته في بيع التمر، وأبو عبيده ـ رضي الله تعالى عنه ـ الذي قد تكفل بيته ببيع الأحجار، وها هو بلال الحبشي ـ رضي الله تعالى عنه ـ الذي لم يخلف نفسه في هذا المجال، بل تكفل بيته في بيع الحطب... وهذه السلسلة لم تتوقف هنا، بل تجري وتستمر حتى يجدها كل فاحص، وكل باحث في كل قرن بعد خير القرون الثلاثة، فالإمام الغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ لم تكن شخصيته عادية، بل كانت مرموقة، فإنه أيضا تكفل بيته بالكتابة بالأجرة، ومن لا يعرف الإمام البخاري الذي وفقه الله ـ سبحانه وتعالى ـ بتأليف كتاب صحيح البخاري، الذي اعتبره العلماء أصح الكتب بعد كتاب الله ـ سبحانه وتعالى ـ فإنه أيضا اعتمد على صنع القلانس في كفالة بيته، والإمام المسلم ـ رحمه الله تعالى ـ كان يبيع العطر ليتكفل بيته، والإمام القدوري ـ رحمه الله تعالى ـ كان يصنع الأواني من التراب، وكان يبيعها لأجل كفالة بيته...
أخذت عدة صفحات من تاريخ أكابرنا، وأسلافنا، لوجدت أن فكرتي كانت مثمرة، وهي مفيدة إن عمل بها أحد، وتلك الصفحات تشهد بأن أسلافنا من رغم أنها كانوا مشغولين في خدمة الدين، اشتغلوا بالتجارة، فهذه السلسلة بدأت من زمن النبوة، واستمرت إلى يومنا هذا، فلذا رأيي إذا كان العالم مدرسا في مدرسة ما، أو إماما في المسجد، أو خطيبا فيه، أو مؤلفا، فإنه بإمكانه مع هذه الأعمال أن يبدأ تجارته ليتكفل بيته، وليكون غنيا عن الناس...
إذا كان كل عالم مع دراسة العلوم الشرعية عارفا فنا من الفنون لما احتاج إلى أن يكون متواضعا أمام لجان المساجد، التي تكون فيها رجال من عامة الناس، والذين يظنون الأئمة أدنى شيء في الدنيا لديهم، ولا يقدرونهم كما حقهم، فيعتذرون كل إمام الذي يواجههم بكلام مباشرة، فذلك الإمام حينئذ يتفكر أين يذهب؟ وما ذا عليه أن يفعل ليتكفل بيته، لكن لو كان عارفا فنا من الفنون لما واجه هذه المشكلة...