رحيل العلامة الكبير ومحدث العصر مولانا الشيخ سليم الله خان [رحمه الله]
وما كان قيس هلكه هلك واحد*****ولكن بنيان قوم تهدما
فوجئنا في الشهر المنصرم بنبأ وفاة أستاذ العلماء وشيخ المشايخ العلامة المحدث مولانا سليم الله خان رحمه ...
بقلم: سماحة الأستاذ المفتي محمد قاسم القاسمي
أستاذ الحديث والفقه بجامعة دار العلوم زاهدان
وما كان قيس هلكه هلك واحد*****ولكن بنيان قوم تهدما
فوجئنا في الشهر المنصرم بنبأ وفاة أستاذ العلماء وشيخ المشايخ العلامة المحدث مولانا سليم الله خان رحمه الله مؤسس الجامعة الفاروقية ورئيس منظمة « وفاق المدارس العربية الإسلامية بباكستان» التي تضم زهاء عشرين ألف مدرسة. كان الشيخ سليم الله خان رحمه الله تعالى من أفذاذ الرجال الذي قلما يجود الزمان بمثله. بدأ دراسة العلوم الشرعية في دار العلوم ديوبند وتربى في حجر العلماء الكبار أمثال شيخ الإسلام مولانا السيد حسين أحمد المدني والأديب الفقيه مولانا إعزاز علي ومولانا الشيخ مسيح الله خان رحمهم الله.
كان الشيخ معجبا بمشايخه ويفتخر بهم وسيما بالمجاهد الكبير مولانا السيد أحمد المدني ولا يزال يذكره بخير ويترحم عليه ويدعو له ويذكر حكاياته لتلاميذه وأصحابه وجعله نبراسا لنشاطاته وبطولاته، يحث أصحابه على التأسي به ومواصلة طريقه، فلما تخرج الشيخ في دار العلوم ديوبند بدأ التدريس في مدرسة مفتاح العلوم للشيخ مسيح الله خان، خليفة الشيخ الأكبر وحكيم الأمة مولانا أشرف علي التهانوي، واغتنم الفرصة للاستفادة من معارفه وعلومه سيما في مجال التزكية والسلوك ثم هاجر إلى باكستان، واشتغل مدرسا بدار العلوم (تندو الله يار) بإشارة الشيخ شبير أحمد العثماني، صاحب «فتح الملهم» ثم دعي للتدريس في دارالعلوم كراتشي وهناك تلمذ عليه المفتي محمد رفيع العثماني وأخوه المفتي محمد تقي العثماني، ابنا المفتي الأكبر محمد شفيع، وخلق كثيرون.
تأسيس الجامعة الفاروقية
بعد أن درّس الشيخ عشر سنوات في دار العلوم كراتشي، قام بإنشاء الجامعة الفاروقية في ظروف قاسية وأوضاع متأزمة مقاسيا الشدائد ومتحملا المشاق، ولكنه استقام وثابر، حتى تحسنت الأوضاع. فلم تمض مدة قليلة إلا وقد تلألأت هذه الجامعة الجديدة في سماء العلم والمعرفة فنافست المعاهد والجامعات القديمة ثم سبقت الكثير منها، فقصدها الداني والقاصي من عطاش العلوم الدينية، من بلاد شتى وتخرجوا فيها ورجعوا إلى أوطانهم وينذرون قومهم، فبذلك عمّت فيوض الشيخ سليم الله رحمه الله في العالم، وقلما توجد بلدة إلا وقد وصل إليها أشعة علومه ومعارفه وفيوضه وبركاته، وقلما يوجد معهد ديني إلا وفيه تلاميذه أو تلاميذ تلاميذه.
منظمة وفاق المدارس العربية الإسلامية
إن وفاق المدارس التي تضم حاليا زهاء عشرين ألف مدرسة أو معهد ديني بما فيها من جامعات كبيرة، هي من أكبر المنظمات في العالم الإسلامي أسسها العلماء للتنسيق بين الجامعات الدينية والمعاهد الأهلية وتوحيد منهاجها وتطويرها فهي كانت في البداية منظمة صغيرة ولكن بعد أن تولى زعامتها وقيادتها وإدارتها سماحة الشيخ سليم الله، حوّلها إلى منظمة شاملة راقية ولم يأل جهدا في سبيل تطويرها ورقيها، فانضمت إلى هذه المنظمة مدارس وجامعات كثيرة فصارت أكبر منظمة تعليمية تربوية توعوية وثقافية. ولا شك أن هذا من أكبر إنجازات الشيخ سليم الله رحمه الله، إنه لم يكتف بالإشراف وإصدار الأحكام وتقديم التوصيات من بعيد بل كان يشرف على جميع النشاطات التي تمارسها المدارس ويتجسم مشاق الرحلة مستعرضا جميع شؤونها الفكرية والسلوكية والتعليمية، لم يترك مدينة ولا قرية قريبة أو بعيدة إلا وسافر إليها ورأى معاهدها عن كثب وجلس مع مديريها وأساتذتها وطلابها موصيا إياهم بالجد والنشاط واتباع السنة وإصلاح الأمة فلم يذق طعم الراحة طول عمره، وكان همه ودأبه وديدنه أن تصلح المدارس الدينية وينهض العلماء لنشر العلوم الدينية في أرجاء المعمورة، ويحاربوا البدع والخرافات والتقاليد المزعومة. تعرضت منظمة وفاق المدارس وبعض أعضائها من المدارس للأذى والضغوط من ناحية دولة باكستان بإشارة من الحكومات الأجنبية سيما أمريكا، فحاولت دولة باكستان التدخل في شؤون المدارس وتغيير مناهجها ومسارها وتوليتها ولكن الشيخ سليم الله لم يستسلم للضغوط ولم يخضع للطغاة فقاوم صارما، صامدا، حكيما، فلم يأذن ولم يرض بأي تدخل ينافي أهداف المدارس وغاياتها فدفع المؤامرات المدروسة بصموده وحنكته وحكمته.
زهده وتقشفه
عاش الشيخ سليم الله خان زاهدا، متقشفا، راغبا عن الدنيا وزخارفها، متأسيا بسلف الأمة وبكبار علماء ديوبند وبأساتذتها البررة لا يخاف في الله لومة لائم كان ينتقد العلماء الذين يبالغون في استخدام الإمكانيات الرفاهية، تاركين طريق السلف الصالح، فيوصيهم بالزهد والوسطية، والاهتمام باتباع السنة واختيار منهج الصالحين. والابتعاد عن لمعان المادية وبريقها.
محدثا ومؤلفا
قضى حياته في تدريس العلوم الإسلامية واشتغل بتدريس الحديث سبعين عاما ودرس صحيح البخاري أكثر من خمسين عاما فتجلت مواهبه في فن الحديث حتى لُقّب بأستاذ المحدثين في عصره وتشهد بذلك مؤلفاته في الحديث سيما كتابه « كشف الباري عما في صحيح البخاري» الذي قال عنه فضيلة مولانا عبدالحميد حفظه الله -مدير جامعة دار العلوم زاهدان وخطيب الجمعة لأهل السنة بها - وهو الذي درس البخاري أكثر من عشرين مرة: لم أجد شرحا آخر مثله في تبيين المذاهب وتوضيح الدلائل، وبيان المسائل.
شخصية مثالية وقدوة ربانية
إن للشيخ سليم الله خان رحمه الله ميزات وخصائص لا تسعها مقالة أو افتتاحية أو كلمة رثاء. كيف وإنه كان آية في المجاهدة والدعوة إلى الله والتمسك بالكتاب والسنة. والزهد والتواضع ونشر العلوم الدينية وتكوين الرجال وتربية الدعاة والعلماء. عرفته منذ أن بدأت الدراسة في دار العلوم كراتشي وسعدت بلقائه وشفقته ودعائه مرارا، فلله الحمد على ذلك. وبعد إقامتي في زاهدان كلما سافرت إلى كراتشي حاولت زيارته فكان يسأل عن أحوال المدارس والمشايخ ويستقبلنا بحفاوة وبشاشة. ولما جاء إلى إيران كان يرافقه رؤساء المنظمات التعليمية من الفرق الأخرى وكان رئيس الوفد، كل يعترف بزعامته وفضله. فأفاد العلماء والطلاب وأجاز أهل العلم بسنده المتصل، وقدّم نصائح وتوصيات غالية من أهمها التوصية بالتقوى والاهتمام بتعليم أولادهم تعليما دينيا وتأهيلهم لخدمة الدين، والتأسي بحياة المتقين. وكان آخر لقائي إياه في الحرم المكي حيث كنت جالسا مع فضيلة مولانا عبد الحميد فإذا بالشيخ أحمد الناروئي وكان من تلاميذه الأوفياء يبشّرنا بأن الشيخ سليم الله خان تشرف في حج هذا العام وسأبحث عنه فذهب ورجع بالبشرى فذهبنا جميعا إليه وتشرفنا بزيارته فسأل عن أحوالنا وأوضاع بلادنا بابتسامة وفرح ودعا لنا وأوصانا بما أوصى ولم نعلم أن هذا آخر لقاء معه.
ولما شاع نبأ مرضه دعا له الجميع بالصحة والعافية ولكن استأثرت به رحمة الله عزوجل فودّع الدنيا الفانية ولبّى نداء ربه « فإنا لله وإنا إليه رجعون».
وإننا إذ ننوّه بخدماته وجهوده وبطولاته، نعزّي أولاده وأسرته وتلاميذه وأصحابه سيما نجليه البارين سماحة الدكتور محمد عادل خان وشقيقه مولانا الشيخ عبيد الله خان الذي فوّضت إليه مسئولية إدارة الجامعة الفاروقية، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يتغمد الشيخ برحمته الواسعة ويسكنه فسيح جنانه ويلحقه بالملأ الأعلى والصالحين ويرزقنا جميعا الصبر والسلوان، ويوفق خلفاءه وتلاميذه لمواصلة طريقه والتأسي بأسوته، وهو المستعان وعليه التكلان.
اللهم اغفر له وارحمه وعافه وأكرم نزله ووسّع مدخله وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله. اللهم لا تفتنا بعده ولا تحرمنا أجره.