الصحابة رضي الله عنهم
بسم الله الرحمٰن الرحیم
1 – تعریف الصحابیّ :
عرف الأمام البخاری الصحابی فی أول کتاب فضائل أصحاب النبی ﷺ من صحیحه، فقال : «من صحب النبی أو رآه من المسلمین فهو من أصحابه» وهو التعریف الذی اختاره أکثر المحققین، وهو مبنی علیٰ أن الرؤیة کافیة لإثبات الصحبة، وهل یشترط فی الرائی أن یکون بحیث یمیز ما رآه، أو یکتفیٰ مجرد حصول الرؤیة؟ فیه کلام.
ومن صنف فی تراجم الصحابة مال إلیٰ الثانی، ولذلك ذکروا مثل محمد بن أبی بکر الصدیق فی الصحابة، مع أنه إنما ولد قبل وفاة النبی ﷺ بثلاثة أشهر وأیام کما ثبت فی الصحیح أن أسماء بنت عمیس ولدته فی حجة الوداع قبل أن یدخلوا مکة، ومع ذلك أحادیث هذا الضرب مراسیل، ولا یقبلها من لا یقبل مراسیل غیر الصحابة، وهذا مما یلغز به فیقال : صحابیّ حدیثه مرسل لا یقبله من یقبل مراسیل الصحابة.
وقد ذهب بعض العلماء إلیٰ أن الصحابیة لا تثبت مجرد الرؤیة، بل یجب أن تکون معها صحبة عرفیة، وهو مذهب عاصم الأحول فیما أخرجه أحمد فی مسنده أنه قال : «رأیٰ عبد الله بن سرجس رسول الله ﷺ غیر أنه لم یکن له صحبة»، وکذا روی عن سعید بن المسیب أنه کان لا یعد فی الصحابة إلا من أقام مع النبی ﷺ سنة فصاعداً، أو غزا معه غزوة فصاعداً، وعلیٰ هذین القولین یخرج من الصحابیة من له رؤیة أو من اجتمع به لکن فارقه عن قرب، ویؤیده ما جاء عن أسن رضی الله عنه أنه قیل له : هل بقی من أصحاب النبی ﷺ غیرك؟ قال : لا، مع أنه کان فی ذلك الوقت عدد کثیر ممن لقیه من الأعراب.
والذی جزم به البخاری من إثبات الصحابیة من الرؤیة فقط، هو قول أحمد وجمهور المحدثین، ویؤیده أنهم اتفقوا علیٰ عد جمع جم فی الصحابة لم یجتمعوا بالنبی ﷺ إلا فی حجة الوداع.
والذی یظهر لهذا العبد الضعیف ـ عفا الله عنه ـ أن هناك اصطلاحین مستقلین : الأول هو الصحابی الذی یصح أن یکون معدوداً فی الصحابة فی الجملة، فیکفی له ثبوت مجرد الرؤیة، والثانی أن یکون من أصحاب النبی ﷺ الذین ثبتت لهم الفضائل الجمة، والذین یعود إلیهم الفضل فی نصرة النبی ﷺ، فیشترط له أن یکون صحبه ﷺ صحبة عرفیة، فمن أنکر الصحابیة لمن ثبتت له رؤیة، إنما أنکرها بهذا المعنیٰ، والله سبحانه أعلم.
ثم یشترط فی الصحابی أن یکون رآه ﷺ فی حالة الإسلام، ثم مات علیٰ الإسلام، وإلیٰ هذا أشار البخاری بقوله “من المسلمین”، فمن رآه فی حالة الکفر، لیس صحابیاً، سواء کان قد أسلم بعده ﷺ، وهو المعتمد، وکذلك من أسلم فی عهده ﷺ، ثم ارتد ـ والعیاذ بالله ـ ومات علیٰ ارتداده، فإنه لیس صحابیاً بالاتفاق، وهذا مثل ربیعة بن أمیة بن خلف الجمحی، وهو ممن أسلم فی الفتح وشهد مع رسول الله ﷺ حجة الوداع، وحدث عنه بعد موته، ثم لحقه الخذلان فلحق فی خلافة عمر بالروم وتنصر بسسب شیئ أغضبه.
فلو ارتد أحد ثم عاد إلیٰ الإسلام ولکن لم یره ﷺ ثانیاً بعد عوده، فالصحیح أنه معدود فی الصحابة، لإطباق المحدثین علیٰ عد الأشعث بن قیس ونحوه ممن وقع له ذلك، وإخراجهم أحادیثهم فی المسانید.
وهل تختص الصحابیة ببنی آدم؟ فیه خلاف أیضاً، والراجح أن الصحابیة تثبت للجن کما أنها تثبت لبنی آدم، لأن النبی ﷺ بعث إلیهم قطعاً وهم مکلفون بالشرائع.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله فی فتح الباری 7 : 4 بعد نقل ما تقدم : «هذا کله فیمن رآه (ﷺ) وهو فی قید الحیاة الدنیویة، وأما من رآه بعد موته (ﷺ) وقبل دفنه، فالراجح أنه لیس بصحابی، وإلا لعد من اتفق أن یریٰ جسده المکرم، وهو فی قبره المعظم، ولو فی هذه الأعصار، وکذلك من کشف له عنه من الأولیاء فرآه کذلك علیٰ طریق الکرامة، إذ حجة من أثبت الصحبة لمن رآه قبل دفنه أنه مستمر الحیاة، وهذه الحیاة لیست دنیویة، وإنما هی أخروی لا تتعلق بها أحکام الدنیا[۱]، فإن الشهداء أحیاء، ومع ذلك فإن الأحکام المتعلقة بهم بعد القتل جاریة علیٰ أحکام غیرهم من الموتیٰ، والله أعلم»
2 – مکانة الصحابة فی الإسلام :
قد أجمع أهل السنة والجماعة علیٰ أن الصحابة أفضل الخلائق بعد الأنبیاء علیهم السلام، وعلیٰ أنه لا یبلغ أحد مرتبتهم فی الفضیلة أحد من الأولیاء، وقد شهدت بذلك نصوص الکتاب والسنة، قال الله تارك وتعالیٰ ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ﴾ وأی شهادة أکبر من هذه الشهادة؟ قد صرح القرآن الکریم لجمیع السابقین الأولین من المهاجرین والأنصار، ولجمیع من اتبعهم بإحسان، بأن رضا الله سبحانه وتعالیٰ حاصل لهم، ولا یوجد مثل هذه الشهادة لأحد من الأولیاء، مهما بلغ من العبادة والتقویٰ بمکان، ویقول الحافظ ابن کثیر رحمه الله تعالیٰ فی تفسیر هذه الآیة : «یا ویل من أبغضهم أو سبهم أو سب بعضهم …. فأین هؤلاء من الإیمان بالقرآن إذ یسبون من رضی الله عنهم»
وقد أبعدت هذه الآیة الکریمة کل شبهة من الشبهات التی یشیرها بعض الروافض من کون الصحابة انقلبت أحوالهم فیما بعد ـ والعیاذ بالله ـ فإن الآیة لا تشهد لهم بالعدالة وقت نزول الآیة فقط، بل یخبر عنهم بأن الله تعالیٰ رضی عنهم، وأنهم من أهل الجنة، وإن رضا الله سبحانه وتعالیٰ لا یثبت إلا لمن حسنت خاتمته، فإن العبرة بالخواتیم، فلا یمکن أن یخبر الله سبحانه وتعالیٰ عن أحد بهذه الصراحة أنه رضی عنه وأعد له الجنة، وإنه یعلم أنه لا یموت علیٰ الحق.
وأما حدیث الحوض الذی قال فیه النبی ﷺ : «لیردنّ علیّ أقوام أعرفهم ویعرفوننی، ثم یحال بینی وبینهم» وفی روایة «فأقول : أصحابی، فیقال : لا تدری ما أحدثوا بعدك» فقد بسطنا الکلام علیه فی باب حوض النبی ﷺ من کتاب الفضائل، وأن المراد منه الأعراب الذین ارتدوا بعد وفاته ﷺ، قال الخطابی رحمه الله : «لم یرتد من الصحابة أحد، إنما ارتد قوم من جفاة الأعراب ممن لا نصرة له فی الدین، وذلك لا یوجب قدحاً فی الصحابة المشهورین، ویدل قوله “أصیحابی” بالتصغیر علیٰ قلة عددهم» وقد صرح القرآن الکریم فی مثل هؤلاء الأعراب بأنه لم یدخل الإیمان فی قلوبهم قال الله تعالیٰ ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾
ولسنا بصدد استیعاب النصوص الواردة فی مدح الصحابة والثناء علیهم، فإنها کثیرة وقد ألف العلماء فی ذلك کتباً مستقلة، وإنما المقصود هنا بیان عقیدة أهل السنة والجماعة فی أن الصحابة أفضل الناس بعد الأنبیاء علیهم السلام، وأن هذه العقیدة مبنیة علیٰ نصوص صریحة من القرآن والسنة، فکیف یجوز لأحد أن یطیل لسانه فیهم أو فی أحد منهم علیٰ أساس بعض الروایات التاریخیة التی أولیٰ بالطعن من الصحابة الذین نطق بفضلهم القرآن الکریم، والواقع أن التشکیك فی عدالة الصحابة رضی الله عنهم لا ینتج إلا التشکیك فی الدین واصوله، لأن الدین کله، حتیٰ القرآن الکریم، لم یصل إلینا إلا بواسطة هؤلاء الصحابة، فلو ارتفع الثقة عنهم ـ والعیاذ بالله ـ لارتفع الأمان عن الںصوص، ولتزعزعت بنیان الدین، ولأصبح الدین لعبة بأیدی المتطفلین، یحرفونه کما یشاءون، ونسئل الله تعالیٰ أن یعصمنا نحن وجمیع المسلمین من مثل هذه الضلالات التی لیس منشؤها إلا إغواء النفس أو الشیطان، والفرار من أحکام شریعة الله المطهرة البیضاء.
3 – التفضیل بین الصحابة :
قال النووی رحمه الله : «قال الإمام أبو عبد الله المازریّ رحمه الله : اختلف الناس فی تفضیل بعض الصحابة علیٰ بعض، فقال طائفة : لا نفاضل، بل نمسك عن ذلك، وقال الجمهور بالتفضیل، ثم اختلفوا، فقال أهل السنة : أفضلهم أبو بکر الصدیق، وقال الخطابیة : أفضلهم عمر بن الخطاب، وقالت الراوندیة : أفضلهم العباس، وقالت الشیعة : علي، واتفق أهل السنة علیٰ أن أفضلهم أبو بکر، ثم عمر، قال جمهورهم : ثم عثمان، ثم علي، وقال بعض أهل السنة من أهل الکوفة بتقدیم علي علیٰ عثمان، والصحیح المشهور تقدیم عثمان، رضی الله عنهم».
«قال أبو منصور البغدادیّ : أصحابنا مجمعون علیٰ أن أفضلهم الخلفاء الأربعة علیٰ الترتیب المذکور، ثم تمام العشرة، ثم أهل بدر، ثم أحد، ثم بیعة رضوان، وممن له مزیة أهل العقبتین من الأنصار، وکذلك السابقون الأولون، وهم من صلیٰ إلیٰ القبلتین فی قول ابن المسیب وطائفة، وفی قول الشعبي أهل بیعة رضوان، وفی قول عطاء ومحمد بن کعب : أهل بدر»
«قال القاضی عیاض : وذهبت طائفة ـ منهم ابن عبد البر ـ إلیٰ أن من توفیٰ من الصحابة فی حیاة النبی ﷺ أفضل ممن بقی بعده، وهذا الإطلاق غیر مرضی ولا مقبول، واختلف العلماء فی أن التفضیل المذکور قطعی أم لا؟ وهل هو فی الظاهر والباطن؟ أم فی الظاهر خاصة؟ وممن قال بالقطع أبو الحسن الأشعری، قال : وهم فی الفضل علیٰ ترتیبهم فی الإمامة، وممن قال بأنه اجتهادیّ ظنیّ أبو بکر الباقلانیّ»
وأما ما شجر بین الصحابة من الخلافات والحروب، فقال فیها النووی رحمه الله : «وأما الحروب التی جرت فکانت لکل طائفة شبهة اعتقدت تصویب أنفسها بسببها، وکلهم عدول رضی الله عنهم ومتأولون فی حروبهم وغیرها، ولم یخرج شیئ من ذلك أحد منهم عن العدالة، لأنهم مجتهدون اختلفوا فی مسائل من محل الاجتاد کما یختلف المجتهدون بعدهم فی مسائل من الدماء وغیرها، ولا یلزم من ذلك نقص أحد منهم، واعلم أن سبب تلك الحروب أن القضایا کانت مشتبهة، فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم، وصاروا ثلثة أقسام، قسم ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق فی هذا الطرف ومخالفه باغ، فوجب علیهم مساعدته وقتال الباغی علیهم فیما اعتقدوه ففعلوا ذلك، ولم یکن یحل لم هذه صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل فی قتال البغاة فی اعتقاده، وقسم عکس هؤلاء ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق فی الطرف الآخر فوجب علیهم مساعدته وقتال الباغی علیه، وقسم ثالث اشتبهت علیهم القضیة وتحیروا فیها ولم یظهر لهم ترجیح أحد الطرفین فاعتزلوا الفریقین، وکان هذا الاعتزال هو الواجب فی حقهم، لأنه لا الإقدام علیٰ قتال مسلم حتیٰ یظهر أنه مستحق لذلک… فکلهم معذورون رضی الله عنهم، ولهذا اتفق أهل الحق ومن یعتد بهم فی الإجماع علیٰ قبول شهاداتهم وروایاتهم وکمال عدالتهم رضی الله تعالیٰ عنهم أجمعین»
________
[۱] یعنی جمیع أحکام الدنیا، وإلا فتثبت بعض الأحکام، من عدم قسمة المیراث، وعدم جواز نکاح أزواجهم وقد مرت مسئلة حیاة الأنبیاء مبسوطة فی باب فضائل موسیٰ علیه السلام.
المصدر: http://muftitaqiusmani.com/ur/?p=1227