المثابَرةُ تَفُلُّ الحديد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد-
أحبتي الطلبة، فهذه لحظة طيبة أَسعدُ فيها بلِقاء أحبابي الأعزَّة من طلبة العلم النبويّ الشريف، فأَبُثُّ إليهم بعضَ الكلماتِ التي طالما تَدُور حول قلبي، ولم أكُنْ أكتبها بقلمي، ولم أتحدّث بها- من قبلُ- إلى القرّاء، ففي هذا اللِّقاء أُقدِّم إليكم بعضاً من تلك الكلمات، كما أُبَشِّركم بأني أحببتُ أن ألقاكم- بإذن الله تعالى- في كلّ حلقة أو في حِينٍ لآخر بمثل هذه الكلمات والهدايا والطَّرائف.
أعِزَّائي القراء! إن الله تعالى امتنَّ علينا بهذه النعمة الجليلة نعمةِ طلب العلم، فإن طلب العلم من أجلّ النِّعم وأغلاها. ومن المعلوم لدى الجميع أنه ما من شيءٍ غالٍ وسامٍ لا يُنال براحة الجسد، ولا بالكسَل والتَّوَاني، ولا يُحصل الرُّسوخ في أمرٍ مهمٍّ رفيع القدر إلا بالْجِدِّ والجهد، والكَدّ والمثابرة؛ فكذلك طلب العلم لا بدّ له من المداومة على طلبه، ومن يبغي الرُّقِيَّ والتطوَّرَ في العلم، ينبغي له الإخلاص لوجه الله سبحانه أولاً، ثم المجاهدة، ثم المثابرة والمواظبة عليه.
رُوِي أنه كان رجل يطلب العلم، فلا يَقْدِر عليه، فعزم على تركه، فمرّ بماءٍ ينحدر من رأس جبلٍ على صَخْرةٍ قد أَثّر الماءُ فيها، فقال: الماءُ على لَطَافته قد أثَّر في صخرةٍ على كَثَافتها، والله لأطْلُبَنَّ العلم. فطلبَ فأدركَ. (معالم إرشادية لصِنَاعة طالب العلم، للشيخ محمد عوامة ص 249-250)
ولهذا قال الإمام الْجُنَيْدُ البَغْدادي رحمه الله تعالى كلمتين رائعتين –تُكْتبان بماء الذَّهب-: "ما طلبَ أحدٌ شيئاً بِجِدٍّ وصِدْقٍ إلا نالهَ، فإن لم يَنَلْه كلَّه نال بعضَه". و"بابُ كلِّ علمٍ نفيسٍ جليلٍ: مفتاحُه بَذْلُ المجهود". (جامع الخطيب البغدادي، ص: 1595)
فالمداومة على طلب العلم من الأمور التي ينبغي أن يلتزم بها كلُّ طالب علم، فمن واظب عليه وثابرَ يَتأتَّى له ما لم يَكُنْ في حُسْبَانه، كما يُحَدِّث الإمام الْمَرْغِيناني -صاحب الهداية- عن نفسه- حكاه لنا تلميذُه الإمام الزَّرْنُوجي-رحمهما الله تعالى قال الْمَرْغِيناني رحمه الله: "إنما غلبتُ على شُرَكائي بأن لم تَقَع لي الفَتْرَة في التحصيل". (تعليم المتعلم، ص: 80)
أحبتبي! إننا –للأسف الشديد- أُصِبْنا بالكسل والتواني، وابتُلِينا بالفُتُور والتقصير، كلُّنا نَشكو من عدم الرُّقيّ والتطور في الدراسة- حسبما نبغي-، كما نشتكي من هذا ونَعِيب ذلك؛ ولكني أرى أن الأمر ليس كذلك، بل إنه أصابنا لماّ تَقاعسْنا عن النَّهج القَويم الذي كان ينبغي لنا أن نسلُكَه، وتباعدنا عن هَدْي سلَفنا الصالح، فلقد غفَلنا كثيراً أو تغافلنا من سِيَرهم الراشدة المليئة بالعِبَر لأمثالنا. بالإضافة إلى أن هناك حواجز وعوائق في طريق طلبنا للعلم عَرقلتْ سَيْرَنا- أتحدَّث عنها بإذن الله تعالى في مناسبة أخرى في مقالة مستقلة_ ، وتلك العوائق تعمَل فينا كالأشواك فتمنعنا من مواصلة السير، حيث لا ينفعنا الحرص على الوقت تحصيل العلم إلا بالانقطاع والتفرُّغ، والتخلِّي عن كلِّ العوائق في طريق الطلب.
ولله درُّ الإمام القاضي أبي يوسف-رحمه الله تعالى- حيث قال: العلم شيء لا يعطيك بعضَه حتى تعطيه كلك، وأنت إذا أعطيته كلك، البعضَ على غَرَرٍ. (جامع الخطيب البغدادي: ص1570)
ثم إن هذا التفرغ للعلم –كما يبدو لي- إنما ينشأ في الطالب –لاسيما في العصر باللجوء إلى الله سبحانه، ومطالعة سِيَر العلماء الذين قضوا حياتهم في طلب العلم، والاعتبار من مُعاناتهم ومكابدتهم، وكذلك ينشأ في نفوسنا شوق المثابرة والمواظبة على الدراسة بصحبة أساتذة مُشْفِقين ومراجعتهم مِراَراً وتَكْراراً، كما يُساعد في زيادة الشوق تَخيُّرُ الزملاء الأذكياء النُّبَهاء المتطلِّعين إلى مزيد من العلم والمعرفة.
وفي هذه الفرصة يطيب لي أن أتمثل بقول الشاعر-
اطْـلُبِ العـلمَ ولاتَـضْـجَـرَنْ ** فـآفـَةُ الطـالب أن يَضْجَـرَا
ألم تـرَ الْـحَبـْل بـتَـكراره ** في الصَّـخْـرَة الصَّـمَّاء قد أثَّـرَا
فنسأل الله سبحانه أن يَرْزُقنا الرَّشاد والثَّبات، ويُوفقِّنا الصلاح والإخلاص والسداد في القول والعمل. آمين.