حكم الألعاب في الشريعة

بسم الله الرحمٰن الرحیم

وأما حکم الملاهی والالعاب عامةً، فقد ألف فیه شیخی ووالدی العلامة المفتی محمد شفیع رحمه الله تعالیٰ رسالةً مستقلةً طبعت فی کتاب “أحکام القرآن” له وألخص فیما یلی النتائج إلتی وصل إلیها بعد سرد النصوص الواردة فی الباب، وذلك بالاقتباس من عباراته المختلفة :
«اعلم أن الشریعة المصطفویة السمحة البیضاء، لا تمنع الارتفاقات والمصالح التی فُطرت علیها الطبیعة البشریة، ولا ترتضی الرهبانیة والتبتل، بل تقتضی المدنیة والمعاشرة الصالحة، نعم ! تمنع الغلوّ فی المسلِّیات والانهماك فیها بحیث یلهیٰ عن الضروریات الدینیة والمعاشیة، ومن المعلوم أن من الحاجة المفطور علیها الإنسان تمرین البدن وترویح القلب وتفریحه ساعة فساعة، ومن ههنا قال علیه الصلاة والسلام : “روّحوا القلوب ساعة فساعة” أخرجه أبو داود فی مراسیله عن ابن شهاب مرسلاً، وأبو بکر المقری فی فوائده، والقضاعی عنه عن أنس (الجامع الصغیر)، ومن ههنا جرت سنة المزاح فی أقواله علیه السلام وأفعاله، وروی عن النبی ﷺ أنه قال : «الهوا والعبوا، فإنی أکره أن أریٰ فی دینکم غلظة» رواه البیهقی، وعن عائشة رضی الله عنها أن النبی ﷺ قال : “هل کان معکم من لهو؟ فإن الأنصار یحبون اللهو” رواه الحاکم ومن ثَم جاء عن علي وابن مسعود رضی الله عنهما : “القلب یمل کما تمل الأبدان، فاطلبوا لها طرائق الحکمة” وعن ابن عباس رضی الله عنه أن کان إذا أکثر الکلام فی القرآن والسنن قال لمن عنده : احمضوا بنا ـ أی غوصوا فی الشعر والأخبار ـ وقال غیره : روّحوا القلوب مع الذکر، کذا فی کف الرعاع بهامش الزواجر 1 : 164»
« …. وحاصل الکلام أن ترویح القلب وتفریحه وکذا تمرین البدن من الارتفاقات المباحة والمصالح البشریة التی لا تمنعها الشریعة السمحة برأسها، نعم ! تمنع الغلوّ والانهماك فیها بحیث یضر بالمعاش أو المعاد، وهذا هو السر فی إباحة بعض الملاهی فی بعض الأحیان، فإن اللهو علیٰ هذه النیة والغرض لم یبق لهواً، بل عاد مصلحة وفائدة، کما سبق فی الأحادیث المذکورة من إباحة السّباحة والرمایة والانتضال بالقوس، والمسابقة بالإبل والبهائم، وإجراء الخیل، وملاعبة الأهل، فإنها وإن کانت فی صورة اللهو، ولکنها لما کان الاشتغال فیها علیٰ غرض صحیح ومصالح معاشیة أو معادیة، خرجت عن اللهویة حقیقةً، فأبیحت، وربما استحبت، نعم ! من فعلها بقصد التلهی والتلعب کان حراماً و مکروهاً فی حقه، صرح به الفقهاء»
«وکما أن اللهو قد یصیر مصلحة بالنیة، ویخرج عن اللهویة، کذلك قد تصیر الأعمال الصالحة بالنیة الفاسدة لهواً، أو تعود لسدها عن ذکر الله لهواً ومعصیةً، قال علیه الصلاۃ والسلام : کل شیئ لیس من ذکر الله فهو لهو ولعب، ذکره فی الجامع الصغیر برمز النسائی ووضع علیه علامة الحسن»
«…. وإذا عرفت أن اللهو قد یعود مصلحة بنیة صحیحة ومصلحة مقصودة،والمصالح قد تعود لهواً بنیة فاسدة أو انهماك فیها بحیث یشغل عن ذکر الله، فقد اتضح لك اختلاف الفقهاء فی بعض الملاهی، فإنه أحلها من أحلها إذا کانت لغرض صحیح بنیة صالحة…. وحرمها من حرمها لعدم اعتداده بتلك النیة الصالحة والغرض الصحیح فی جانب ما یلزمه من المفاسد، ولما رأیٰ بالتجربة أن إثمها أکثر من نفعها»
«…. فالضابط فی هذا الباب ـ عند مشائخنا الحنفیة ـ المستفاد من أصولهم وأقوالهم …. أن اللهو المجرد الذی لا طائل تحته، ولیس له غرض صحیح مقید فی المعاش ولا المعاد حرام، أو مکروه تحریماً، وهذا أمر مجمع علیه فی الأمة، وما کان فیه غرض ومصلحة دینیة أو دنیویة، فإن ورد النها عنه من الکتاب أو السنة (کما فی النرد شیر) کان حراماً، أو مکروهاً تحریماً، وألغیت تلك المصلحة والغرض لمعارضتها للنه المأثور، حکماً بأن ضرره أعظم من نفعه.
…. وهذا أیضاً متفق علیه بین الأئمة، غیر أنه لم یثبت النهی عند بعضهم فجوزه ورخص فیه، وثبت عند غیره فحرمه وکرهه، وذلك کالشطرنج، فإن النهی الوارد فیه متکلم فیه من جهة الروایة والنقل، فثبت عند الحنفیة وعامة الفقهاء، فکرهوه، ولم یثبت عند ابن المسیب وابن المغفل وفی روایة عند الشافعی أیضاً، فأباحوه»
«وأما ما لم یرد فیه النهی عن الشارع، وفیه فائدة ومصلحة للناس، فهو بالنظر الفقهی علیٰ نوعین :
«الأول : ما شهدت التجربة بأن ضرره أعظم من نفعه، ومفاسده أغلب علیٰ منافعه، وأنه من اشتغل به ألهاه عن ذکر الله وحده وعن الصلوات والمساجد، التحق ذلك بالمنهیّ عنه، لاشتراك العلة، فکان حراماً أو مکروهاً»
«والثانی : ما لیس کذلك، فهو أیضآً إن اشتغل به بنیة التلهی والتلاعب فهو مکروه، وإن اشتغل به لتحصیل تلك المنفعة، وبنیة استجلاب المصلحة فهو مباح، بل قد یرتقی إلیٰ درجة الاستحباب أو أعظم منه»
هذا خلاصة ما توصل إلیه والدی الشیخ المفتی محم شفیع فی أحکام القرآن 3 : 193- 201)
وعلیٰ هذا الأصل فالألعاب التی یقصد بها ریاضة الأبدان أو الأذهان جائزة فی نفسها، ما لم تشتمل علیٰ معصیة أخریٰ، وما لم یؤدّ الانهماك فیها إلیٰ الإخلال بواجب الإنسان فی دینه ودنیاه، والله سبحانه أعلم.

الشيخ محمد تقي العثماني حفظه الله

نائب رئيس مجمع الفقه الإسلامي بجدة
مجموع المواد : 43
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025

التعليقات

يجب أن تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب

يستغرق التسجيل بضع ثوان فقط

سجل حسابا جديدا

تسجيل الدخول

تملك حسابا مسجّلا بالفعل؟

سجل دخولك الآن
المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025