تغيير المناخ العالمي، والعلاقة بين (الداعي) و (المدعو)
غييـــــر المنــاخ العالـــمي
إن أول ما يجب أن يعرفه الداعي، قبل أن ينشط في دعوته، هو حقيقة الوضع الراهن في العالم الذي يعيشه. وخلاصة القول في هذا الشأن هو أن الدعوة الإسلامية، بالنسبة لأسلافنا، كانت تتمثل في القضاء على (الشرك). أما بالنسبة لنا فقد أصبحت الدعوة الإسلامية هي القضاء على (الإلحاد). لقد قضى أسلافنا على عصر الشرك وافتتحوا عصر التوحيد فكان ذلك ميلاد تاريخ وعصر جديدين في العالم استمرا ألف سنة. وظل عصر التوحيد يحكم العالم ويسيطر على عقول الناس ويستأثر باهتمامهم طوال هذه المدة حتى بدأ عصر العلم الغربي الحديث يظهر منذ القرن السادس عشر الميلادي فكان ذلك إيذانا ببدء عصر جديد، وبدأ تاريخ جديد للعالم وصل إلى درجة الكمال في القرن العشرين. واستدار الزمان كهيئته السابقة، وأصبح (الإلحاد) غالبا في كافة ميادين الفكر والعمل مثلما كان الشرك غالباً على كافة شعب الحياة الإنسانية قبل ظهور الإسلام، ووصل الأمر إلى أن (الدين) نفسه أصبح الآن ذيلاً للفكر الإلحادي، وليست له مكانة مستقلة بالذات. وتوضيحاً لهذا الأمر أذكر هنا واقعة ظريفة، تُبين مكانة الدّين في هذا العصر، ذكرها المفكر الألماني شُومَياخَرْ:
« سافرت في سنة 1968 (ألف وتسعمائة وثماني وستين) إلى مدين ليننغراد وذات يوم كنت أنظر في خريطة سياحية لأعرف أين كنت ولكن لم أتمكن من حسن الاطلاع. فقد كانت عيني تقع على كنائس كبيرة مختلفة حولي ولم أجد لها ذكرا في الخريطة، وأخيراً ساعدني مترجم قائلا : إننا لا نُظهر الكنائس على « الخرائط ».
E.F. Schumacher, A guide for the perplexed, London 1981, p.9.
إن هذه صورة مصغرة للوضع الذي نشاهده في هذا الزمان. إن الإنسان الحديث قد أبعد الذات الإلهية عن جميع خرائطه العلمية والفكرية، وقد تم في هذا العصر تدوين علوم الجغرافيا والتاريخ والفيزياء والنبات والحيوان والفلك وغيرها من العلوم، بمنتهى التفصيل والدقة، ولكن هذه العلوم تتجاهل ذكر (الله). إن الإنسان الذي آتاه الله البصيرة والعقل يشاهد آيات الله في كل مكان من هذا الكون. ولكن الذات الإلهية مجهولة تماما لدى العلوم الحديثة المدونة، ولا يجد دارس هذه العلوم ذكر الله في المكتبة الضخمة التي أوجدها خبراء هذه العلوم الحديثة.
إن التصدي لأمر الدعوة في ظل هذه الحالة يتطلب تسجيل اسم (الله) من جديد على خريطة الفكر العالمي. وهذا يتطلب تفجير ثورة فكرية تمكن الأنسان نت جديد من أن يفكر بالمصطلحات الإلهية ويصبغ فكرته بصبغة دينية. وبعد قيام هذه الثورة الفكرية فحسب يمكن لإنسان العصر الحديث أن يفهم معاني التوحيد والآخرة ويتقبلها كحقائق.
لقد تصدى أسلافنا بنجاح لتحطيم سيطرة الشرك في عهدهم وأقاموا على أنقاضه سيطرة التوحيد. ويجب علينا أن نقوم لتمزيق سيطرة الإلحاد ولصياغة الفكر الإنساني على شاكلة التوحيد، من جديد. إن الظن بان مسئولية الدعوة مهمة تقل عن هذا المستوى إنما هو عدم إدراك هذه المسئولية على وجهها الكامل. والدعوة الناقصة التي لا تدرك هذا المستوى لا تُجدي عند الله ولا تنفع عند البشر.
....................
العــلاقة بين الــداعـي والمــدعـو
وهناك قضية أخرى هامة، وهي إعادة علاقة بين (الداعي) و(المدعو) بين المسلمين وغير المسلمين. إن المسلمين، كأفراد ينتمون إلى الأمة الإسلامية، وهم (دعاة) إلى الدين الحق وما عداهم من الأمم (مدعوة) إليه. و أكبر خطا ارتكبه المسلمون في هذا الزمان هو أنهم جعلوا الأمم الأخرى خصوماً وأعداء في المجالات السياسية والقومية والاقتصادية، مع أن شعار (الداعي) في القرآن هو: ﴿لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾. وفي هذه الحالة تعتبر المظاهرات والمطالبات الاحتجاجية، طلباً للحقوق، نفيا لمسئوليتهم إزاء الدعوة.
فإذا كنا نريد أن نتبوأ مكانة (الشهداء) عند الله فليس لنا إلا أن نضحي بمطالبنا، ولو كانت مبنية على العدل في ظاهر الأمر، ويجب علينا أن نُنهي الصراع من طرف واحد، لكي تقوم علاقة الدعوة من جديد بين المسلمين وغير المسلمين. وبعد ذلك فقط يُمكن أن يتوفر المناخ الذي يَسمح بعرض دعوة التوحيد والآخرة أمام غير المسلمين لكي ينظروا فيها بترو وجدية.
أن صلح الحديبية (سنة6هـ) يقدم مثالاً واضحاً، حيث قبل المسلمون كافة المطالب الاقتصادية والقومية لأعداء الإسلام، حين وقع النبي على وثيقة التنازل عن الحقوق. ولم يكد المسلمون يعودون بعد الصلح حتى نزلت فيهم الآية:﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ (1: الفتح). لماذا وصف الله هذه المعاهدة بأنها «فتح مبين» مع كونها هزيمة وخسارة في ظاهر الأمر؟
والجواب هو أن هذه المعاهدة غيرت مجال الصراع بين المسلمين والكفار. فبعد هذه المعاهدة انتقل الصراع بين الإسلام وغير المسلمين إلى ميدان جديد كان الإسلام فيه في موقف أفضل. وكان الصراع حتى هذا الوقت بين المسلمين والكفار يدور في ميادين القتال، وبسبب في الأمر لم يُحسم لصالح المسلمين بالرغم من الغزوات والسرايا الكثيرة التي وقعت بعد الهجرة. والآن، مقابل الاعتراف بمطالب الكفار القومية، حصل المسلمون على عهد منهم بالهدنة الحربية لمدة عشر سنين.
إننا نحتاج إلى « حديبية » أخرى في هذا العصر. إن الحروب المادية الدنيوية تشغل المسلمين في كلّ مكان. و بسبب غفلتهم، قد تخلّف المسلمون كثيرا عن الشعوب الأخرى في الميادين المادية. ونتج عن هذا أن الشعوب الأخرى تهزمهم على كل جبهة. والذي نحتاج إليه الآن هو التضحية من جانب واحد لتحويل الصراع عن الجبهات المادية وتوجيه الصراع إلى جبهة الفكر. وقد تحقق هذا الأمر في قديم الزمان بانتهاء الحرب من جانب واحد. أما الآن فسوف يتحقق هذا التحول بانتهاء حرب الحقوق القومية من جانب واحد، كذلك.
وكان نشاط الدعوة الإسلامية متوقفاً بسبب استمرار حالة الحرب والاقتتال. وما أن هدأ ميدان الحرب حتى نشط ميدان الدعوة بكل قوة. وكان الإسلام أضعف في ميدان الحرب. أمّا حين انتقل الصراع إلى ميدان الدعوة السلمية فلم يكن لدى الشرك ما يواجه به سلاح التوحيد. وكانت النتيجة أن دخلت القبائل العربية إلى حظيرة الإسلام «أفواجا»، فانهارت قوى الكفر ولم يمض على الهدنة سنتان حتى فتحت مكة.
إن التضحية بالمصالح القومية من أصعب الأمور. ولكن في هذه «الخسارة» يكمن سر الفوز والغلبة. وما أن يقدم المسلمون على هذا حتى يبدأ عصر انتصار الإسلام. إن المسلمين يملكون الأسلحة "التقليدية" في ميدان الحرب بينما يملك أعداؤهم الأسلحة «الحديثة». أمّا في ميدان الفكر فلدى المسلمين حقيقة إلهية، ولدى الشعوب الأخرى التعصّب ليس إلّا، ولا يصمد التعصب أمام الحقيقة إلا قليلاً.