مصطلح "الدعوة" ومصطلح "الجهاد" مترادفان أم متناقضان؟
إن الـدارس للنصوص الإسلاميـة المقدسـة قرآنـاً وسنّـة يـرى نوعاً من التداخل بين الأمرين "الدعـوة" و "الجهاد" فإذا كان الله يأمر نبيه بدعوة من أرسل إليهم، حيناً: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنـة وجادلهم بالتي هي أحسن" ، فإنه تعالى يطلب إليه في الحين ذاته أن يجاهد المرسل إليهم جهادا كبيراً:
{ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ} [النحل: 125] {وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: ٥٢]
تُرى ماذا كانت مهمة النبي صلى الله عليه وسلم أهي الجهاد أم الدعوة، أم كلاهما معاً، أم أن هناك درجـــة من الترادف بين هاتين اللفظتين بحيث يجوز إطلاق إحداهما محل الأخرى.
إن هذا التشابك قد قاد الكثير من المفكرين المسلمين إلى اتخاذ مواقف بعيدة عن الصواب تجاه كلا المصطلحين. فقد ذهب بعضهم بسبب عدم وضوح الرؤية التوفيقية بينهما إلى نسخ الدعوة وما ترافقها من معاملات العفو والصفح والصبر على أذى غير المسلمين "المدعوين" والبعض الآخر قالوا بنسخ الجهاد وما يرافقه من بذل الغالي والرخيص في سبيل الله والبعض الثالث رأوا أن بين المصطلحين طلاقا بائنا لا يتلاقيان أبدا . وقد سببت هذه المواقف المتباينة في اختلال الموازين في محيط من يدعون التزام هذا المصطلح أو ذاك. لذلك أراد الباحث تناول الموضوع تناولاً مقارناً من حيث الدلالات والوظائف حتى يزول الغموض وتتبين الحقيقة في نطاق كلا المصطلحين.
فالجهاد في اللغة يعني: المبالغة واستفراغ الوسع في الحرب أو اللسان أو ما أطاق من شئ " جهد الرجل في كذا أي جد فيه وبالغ " فيكون استخدام مادة(ج هـ د) في تلك المواضع التي تستفرغ فيها الجهود تجاه شيء ما، يقول تعالى: "وأقسموا بالله جهد أيمانهم" أي بالغوا في اليمين واجتهدوا فيها . "وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون " أي وإن بذل كل ما في وسعهما لإخراجك من الإيمان وحملك على الشرك." والذين لا يجدون إلا جهدهم " قال الفراء: الجهد في هذه الآية الطاقة، تقول هذا جهدي أي طاقتي .
على ضوء هذه الإطلاقات والاستخدامات القرآنية لو تلونا الآية المكية التالية: "فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً " فإننا نفهم بكل وضوح بأن المقصود بالجهاد في هذه الآية هو استفراغ الوسع وغاية الجهد في تبليغ رسالة القرآن وسط المشركين والكافرين بمقارعة قلوبهم بآياته البينات وحججه القاطعات بالغا بهذا الجهاد الكبير بالقرآن نهايته لا يُصاحبه فيه أي فتور .
وقد وردت هذه المطالبة بالجهاد إلى رسوله في العهد المكي الذي كان يواجه فيه صلى الله عليه وسلم أعاصير وزلازل من المعارضات العنيفة والدؤوبة، التي لا قبل لأحد بالاستمرار فيها على بلاغ الآيات البينات إلا إذا استفرغ جهده وبذل غاية وسعه ولهذا جاء إطلاق قرآني على هذا المجهود الشاق الذي يدأب الرسول في بذله "الجهاد الكبير"، وليس الأمر يتعلق بتلك الظروف المكية فقط، بل إن داعي الحق ربما يلاقي أنواعاً من الشتائم والاستهزاء، والتشهير والسخرية في أي زمانٍ ومكانٍ، ولكن عليه أن يستفرغ وسعه في الصبر عليها مستمراً في الدعوة والتبليغ . حتى وإن خلت الظروف من العسر والصعاب وسهلت الأوضاع فإنه رغم ذلك يستحيل علينا نشر رسالة القرآن وآياته البينات وسط جميع أمم الأرض وشعوبها الذين سيأتون إلى يوم القيامة بعدد مئات الملايين، وصولاً بهم إلى مرحلة البلاغ المبين، وقيام الحجة القاطعة، يستحيل علينا ذلك إلا إذا استفرغنا لذلك غاية وسعنا، وبذلنا في سبيله قصارى مجهودنا. فإذا كان نوح عليه السلام، المرسل إلى قومه خاصةً، احتاج لتقوم الحجة على قومه ويكتمل البلاغ إلى ألف إلا خمسين سنة من الدعوة المستمرة ليلاً ونهاراً. سراً وعلانية، فكيف بمحمد صلى الله عليه وسلم ـ ثم أمته بتبعيته ـ المبعوث إلى ملايين البشر في كل صقع من أصقاع المعمورة وإلى يوم القيامة، كيف به وبأمته إذا أرادوا تبيين الرشد من الغي أمام كل كائنٍ بشري أياً كان وفي أي زمانٍ ومكانٍ كان. إنه، والله، يحتاج إلى أعظم الجهود وأقصى المساعي والمحاولات. إلى هذا يشير قوله تعالى: "ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً. فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً " (أي لو أردنا لخففنا عنك أعباء النبوة فبعثنا في كل أهل قرية نبيا ينذرهم ولكنا خصصناك بالبعثة إلى جميع أهل الأرض إجلالاً لك وتعظيماً لشأنك} وكذلك رحمة بالبشرية{ فقابل هذا الإجلال بالثبات والاجتهاد في الدعوة وإظهار الحق، فلا تطع الكفار فيما يدعونك إليه من الكف عن آلهتهم، وجاهدهم بالقرآن جهاداً كبيراً بالغاً نهايته لايصاحبه فتور ). فالجهاد، إذاً من منطوق هذه الآية هو الدعوة نفسها، ومن هنا عرف الجرجاني الجهاد قائلاً: "هو الدعاء إلى الدين الحق " وهذا المعنى هو ما أيده أحدث معجم تحليلي لألفاظ القرآن الكريم قائلاً: "وأكثر ما ورد الجهاد في القرآن الكريم ورد مراداً به بذل الوسع في نشر الدعوة الإسلامية والدفاع عنها ".
وثمة نوع آخر للجهاد يرتبط بصلة وثيقة بالدعوة. وذلك ما يتعلق بالشخـص المدعو. فالمدعو حين ينشرح قلبه للإيمان فيأخذ قراره الحاسم لقبول الحق فإنه يواجه مواقف تتطلب منه استفراغ جهده لمواجهتهـا، فأبواه ربما جاهداه لإبقائه على الشرك، والإلحاد، لكن عليه استفراغ وسعه لمواجهة هذا الموقـف، ومواصلـة سيره إلى الحـق والبيئة التي يعيش وسطهـا ربـما أنزلـت به أنواعاً من التعذيـب والتنكيل ولكن عليـه أن لا يقطع المسير قبـل بلوغ غايته، أو ربمـا يفرض قبوله للحق فقـدان المكانـة والعـزة اللتـان تكونتا له في أيام حياته الماضية، ولكنه يبذل وسعه لمواجهة هذه الظروف. أي أن المدعو حين يتحمل كافـة أنواع المعاناة الجسدية والروحيـة، المادية والمعنوية في سبيل قبوله الـحق، فإنه يجاهـد أيما جهاد. حتى إذا تذلّلت له هذه الصعوبات التي تعترض أول طريقه وأراد أن يظل مستقيماً على الحـق فإنه يضطر أيضاً لأن يستفرغ وسعه لمكافحـة نزوات نفسه وشهواتها. ويضطر إلى الصبر على المعانات التي قد تفرض عليه ظروفه الزمانية والمكانية، وهو في كل هذا يجاهد أيما جهاد.
وهذا النوع من الجهاد يشير إليه قوله تعالى: "من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت، وهو السميع العليم، ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه، إن الله لغني عن العالمين. والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرنَّ عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون ".
غير أن ثمة نمطا ثالثا من الجهاد يتصل بالدعوة اتصالاً مؤقتاً لضرورة مؤقتة تتطلب من المؤمنين أن يبلغوا في استفراغ وسعهم وجهدهم إلى مستوى بذل الأرواح والأنفس وهذا النمط من الجهاد سماه الله "قتالاً".
وقبل أن أتناول طبيعة هذا الجهاد وسياقه الظرفي أرى من اللازم الإشارة ـ حتى لا يساء الفهم ـ إلى أنني لست بصدد الحديث عن القتال الدفاعي الذي يتوجب على المسلمين إذا ما هوجمت دولتهم من قبل الأعداء، فثمة إجماع بين فقهاء الأمة وعلمائهم على وجوب مثل هذا القتال إذا توفرت له شروطه ومستلزماته. وإنما الذي نحن بصدده هو ذلك الذي سمي جهاداً في أحد إطلاقاته وهو جهاد يتصل بالدعوة اتصالاً عرضياً، يساعدها في ظروف خاصة، ولكنه يتوقف بعد تحقيق الغاية التي ينشب من أجله.
وقبل الحديث عن طبيعة هذا الجهاد أرى من المناسب أن أتحدث عما هنالك من التباين بين مصطلحي "الدعوة إلى الدين" و "إظهار الدين".
الفرق بين مصطلحي "الدعوة إلى الدين" و "إظهار الدين"
الدعوة إلى الدين تعني ببساطة بلاغ رسالة الله شفاها إلى المرسلين إليهم وصولاً بهم إلى مرحلة البلاغ المبين التي تنقطع عندها الحجة، وذلك بغض النظر عما إذا كان الداعي يؤمن به أحد أو لا يؤمن، أو عما إذا كانت أديان الشرك والوثنية تظل على غلبته على طول الأرض وعرضها أو يصبح التوحيد هو الغالب والظاهر على الأديان كلها.
فالدعوة إلى الدين، إذن لا تستلزم إظهار الدين وأن المكلف بها ينجز مهمته كاملة حين يبلغ رسالة الله شفاهاً وإن لم يظهر دين الله بدعوته على الدين كله. بينما "إظهار الدين" يقتضي جعل دين الله ظاهراً وغالباً على الدين كله رغم أنوف الجاحدين والمعارضين. وفي هذا ورد قوله تعالى: "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون" وهذا يعني أن المكلف بإظهار الدين لاينتهي من مهمته بمجرد بلاغ الناس رسالة الله بلاغاً شفهياً بل ينبغي عليه سلوك كل تلك المسالك التي تؤدي إلى غلبة دين الله وإظهاره على الدين كله رغم أنوف المعارضين والكارهين. وحتى يتضح الفرق بين الدعوة إلى الدين وإظهار الدين لابد لنا من الوقوف ولو يسيراً مع تاريخ التوحيد في القديم.
فآدم ـ أبو البشر ـ الذي هبط من الجنة إلى أرض الاختبار، كان قد هبط وهو يحمل بين جنباته هدى الله الذي منبعه التوحيد الذي عض عليه بالنواجذ وأمر أبناءه وبناته بالدأب عليه. فكانت الأجيال الأولى من أولاد آدم وأحفاده أمة واحدة قوامة بدين التوحيد .
ولكن كلما كان يطول الأمد بين آدم وأحفاده كانت الشقة تتسع بينهم وبين التوحيد، إلى أن نسوه نسياناً، فاختلفوا وشرعوا يعبدون مظاهر الطبيعة على أنها آلهة وأرباب من دون الله، فبعث الله النبيين يذكرونهم بالتوحيد ويدعونهم إلى اعتناقه، مبشرين لهم بالجنة إذا قبلوا ومنذرينهم عذاب النار إذا رفضوا. غير أن الشرك كان قد أحاط بالنفوس وضرب بجذوره في كل زوايا التجمعات البشرية حتى صار الوجود البشري كله توزعه تكتلات شركية والتي تمثلت في البيئات التي تكونت بروافد شركية وفي الحكومات التي اتخذت المعتقدات الشركية أساسها من بعد أن أيقن ساستها أن الشعب تتغلغل فيهم نزعات شركية مما جعلهم يتأكدون بأنهم لو أرادوا لملكهم الديمومة والتواصل فما عليهم إلا إطلاق دعوة الألوهية والربوبية فتصبح الشعوب يقدسونهم ويخرون لهم سجداً. فقال فرعون لشعبه: "أنا ربكم الأعلى" "ما علمت لكم من إله غيري" كذلك فعل نمرود، ملك بابل، بل جميع الملوك في القديم، وكان آخرهم عهداً هيروهيتو إمبراطور اليابان. وكان الناس، فعلاً يصدقونهم ويتخذونهم آلهة .
في مثل هذا الجو المفعم بالشرك والمتشرب بالوثنية حين كان يأتي الأنبياء بدعوة التوحيد فإن الناس كانوا يتخذونهـم هزءاً وسخرية وإن كانـوا فيهـم قبل هذا رجالاً مرجوين وكان الأنبيـاء يتعرضـون لأنـواع من التعذيب والتنكيل والتقتيل إما من قبل البيئات الطافحة بالشرك . وإما من قبل الحكومات التي كانت ترى في دعوة التوحيد تضعضعا لأركانها لأنها تأسست على معتقدات شركية. فما كان يؤمن بالآنبياء إلا أناس قليلون .
ثم إن هذا النفر القليل أبداً كانوا ينصهـرون في بوتقة الشـرك بعد وفاة نبيهم بمدة يسيرة، أما الكتب التي كانت تنزل على الأنبياء فما قدرت على الصمود على آصالتها بل إن حملتها كانوا يحرفون كلمها عن مواضعه ليتواءم مع منازعهم الشركية . وبما أن سلسلة إرسال الأنبياء لم تكن قد قطعت بعد فلم تكن هناك أية مشكلة إذا ما حرفت الكتب أو نسي حظاً منها، لأن الأنبياء سيأتون تباعاً لتجديد الدعوة إليها.
إلى هذا ـ أي تواصل رسالة السماء إلى الأرض ـ يرجع أن الأنبياء في السابق كلفوا فقط بتبليغ الرسالة، فكانت مهمتهم تنتهي عند البلاغ المبين ولم يؤمر أي منهم بإظهار دين الله على الدين كله ليبقى غالباً مستحكما إلى يوم القيامة يقتبس من نوره من يشاء.
ولكن محمداً صلى الله عليه وسلم بما أنه آخر الأنبياء الذي به ينقطع وحي السماء، لذا ستكون هناك معضلة مستعصية إذا ما توفي هذا النبي بمجرد البلاغ والدعوة إلى الدين سواء آمن به أحد أم لم يؤمن، و سواء أبقى الشرك على سطوته العالمية يمحو التوحيد من بعد وفاة النبي أم كان غير ذلك. إذ أن التوحيد لو غمره الشرك من بعد هذا النبي، فانمحى من وجه الأرض فإنه لن يأتي نبي آخر لانتشاله واستئناف الدعوة إليه، حسب وعد إلهي ، فتبقى البشرية إلى يوم القيامة في متاهات الضلال والضياع. ومن هنا كانت الحاجة ملحة أن يصبح دين الله ظاهراً مستحكماً مع ختم النبوة بحيث لا يضيع بعده إلى قيام الساعة، ومن هنا قضت حكمة الله أن تقرن إلى النبي الخاتم مهمة إضافية إلى مهمته النبوية الأصلية المشتركة ـ البلاغ وإقامة الحجة ـ وتلك المهمة هي إظهار دين الله على الأديان كلها، الذي يعني إيصاله إلى مرحلة الثورة الفكرية العالمية بحيث تزول بعدها أية خشية من ضياعه أو درجه إلى مسالك التحريف، فقال تعالى له ولم يقل لنبي آخر مثله: "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون " وعُبِّر عن الأمر نفسه في نبوءةٍ توراتية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول: "لن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله، فيفتح بها أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غُلْفاً ".
أما المحجة إلى تحقق هذا الأمر هو أن يبلغ عدد الداخلين في الإسلام من الكثرة الكاثرة بمكان بحيث تصبح قوة الشرك في يأس من أمر دينهم لن تكون بمقدورها أبداً أن تقهر التوحيد وتمسحه من الوجود.
غير أن هذا الطريق ـ تجمُعُ جمٍ غفيرٍ من الناس على عاتق التوحيد ـ كان مسدوداً، إذ أن الناس في موطن بعثة النبي الأخير وضواحيه، بل في المسكونة كلها آنئذٍ كانوا مقهورين للبقاء على دين الشرك من غير أن يكون لأحد وسع ولا طاقة لاعتناق دين التوحيد، فإذا تجاسر أحد لنبذ الشرك وقبول التوحيد فإنه حتماً كان يلاقي أنواعاً من العنت وألواناً من التعذيب التي لا طاقة لأحد عليها إلا من كان له صبر وجأش رابط مثل الحديد. وفي ظلمة تلك المعانات القاسية إذا كان واحدهم يريد الفرار بدينه إلى حيث يأمل شيئاً من القرار والحرية، فإن المشركين كانوا يمنعونه ويجبرونه على البقاء بينهم ليفتنوه ويعذبوه، ويردوه إلى دين الشرك إن استطاعوا. يقول ابن إسحاق تصويراً لتلك المعانات البالغة في الشدة والقسوة: "فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر من استضعفوا منهم، يفتنونهم عن دينهم، فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبه ومنهم من يصلب لهم " وفي حالة ما إذا تمكن بعضهم من الفرار من قبضتهم فإنهم كانوا يلاحقونه في مهجره لإرجاعه إليهم يجوعوه ويعطشوه حتى يقولوا له اللات والعزى إلهك من دون الله . حتى أن النبي نفسه قد مورس عليه أنواع من الضغوط والأذى وبوسائل مختلفة متفاوتة حتى يمتنع عن الدعوة، إلى أن أخرجوه أخيراً من موطنه ومسقط رأسه ثم لاحقوه في مهجره ليصدوه من مواصلة مهمته.
في مثل هذا الجو القاهر والبيئة غير الديمقراطية في مسألة التدين إن لم يكن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء وخاتم المرسلين لكان قد اكتفى بالبلاغ والصبر على كافة أنواع العدوان عليه وعلى أتباعه منتظراً ميعاد اكتمال الحجة، ولكان الله أنقذه هو وأتباعه من قبضة الشرك واضطهاده بإهلاك الكفرة والمنكرين بقلب الأرض أو بريح صرصرٍ عاتية أو بأي نوع من العذاب. ولكنه خاتم النبيين لا نبي بعده، فلا بد ـ قبل وفاته ـ من أن يظهر دين الله بواسطته بالإضافة إلى تبليغه وإقامة الحجة به.
ومن هنا أذِن الله له ولأصحابه بعد أن تكوَّن لهم كيان خاص ومركز مستقل أن يدفعوا عن التوحيد هجمات الشرك بالقتال، وأن ينهوا بجهاد مستميت تلك البيئة القاهرة التي تسلب من الناس حرية التفكيروالعقيدة. ليكون الناس بعد ذلك أحراراً في اعتناق أي دين يريدون أو التمسك بأي دين يرغبون. كل ذلك بمحض مشيئتهم "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" وعندما يصبح الجو على هذا القدر من الحرية والتسامح فإن دين الله التوحيد يجد طريقه إلى الظهور عبر اختراقه ملايين القلوب وحشده أكبر قدر من الناس على عاتقه. هكذا أمر الله رسوله والمؤمنين بالقتال دفعاً للناس بعضهم ببعض حتى يكونوا متسامحين تجاه المعتقدات وما تنبني عليها من الطقوس والعبادات. فلا عدوان ولا تعصب لطرف ضد طرف ولا جبر ولا إكراه في مسألة الدين. وفي هذا يقول تعالى: "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره. إن الله لقوي عزيز" .
ويقول تعالى في آية أخرى تحديداً لغاية مثل هذا القتال: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين" أي قاتلوهم حتى ينتهي الشرك القاهر المعتدي على التوحيد وتصبح البيئة متسامحة يتمكن فيها المرء من تحديد علاقته مع ربه بإرادته الحرة دونما خوف من أي طرف بشري ولا جبرٍ من قبل بيئة معينة وإلى هذا يرجع كل ما خاضه النبي وصحابته من القتال ضد أعداء الدين وإن كنا نلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يلجأ إليه إلا في حالة الاضطرار محاولاً جعل الأعداء ملتزمين بمبدأ التسامح سلماً قبل أن يجبروا عليه حرباً. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرب عن رغبته هذه قائلاً: "ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين وإن لم يفعلوا وقاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش، فو الله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة" .
وقد استطاع النبي بتوفيق من عند الله وإرشاده أن يلزم المشركين بمبدأ التسامح، سلماً، وذلك حين أصرَّ صلى الله عليه وسلم على قبول مشروع الصلح الذي تقدم به المشركون في موقعة الحديبية، وقد كانوا يقرون في أحد بنوده بمبدأ التسامح الديني، وهذا البند هو "من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه " فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البند انتهاءً للفتنة في حدود الجزيرة العربية على الأقل، وعندما تنتهي الفتنة يجد دين الله طريقه إلى القلوب في جو ديني متسامح فيدخل الناس في دين الله أفواجاً فيظهر دين الله على الأديان كلها. وقد حدث كذلك، ولذا سمى الله هذا العهد "فتحاً مبيناً" فقد كان عدد المسلمين وقت الصلح، وبعد سبع عشرة سنة من بدء الدعوة، ألفاً وأربعمائة شخص ، بينما بلغ عددهم بعد سنتين فقط من إعلان الصلح عشرة آلاف نفر حين فتح مكة. ومع فتحها تحطمت قوة الشرك القاهر في الجزيرة العربية، فأصبح الناس في أطرافها في مأمن من أذى قريش ونظرائهم من المشركين إذا قبلوا التوحيد ودخلوا في دين الله أفواجاً، وظهر بذلك دين الله الذي كان ينبغي أن يظهر مع ختم النبوة، فأصبح التوحيد في مأمن من أن تقدر قوة الشرك والكفر على أن تزيله من الوجود وتمحو آثاره أو تلحق بنصوصه تحريفات بشرية، فقد يئس دين الشرك من أن يغمر دين التوحيد ويزلزل أركانه.وفي هذا يقول الله تعالى: "اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون. اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ". يقول أبو البركات النسفي في تفسير هذه الآية :(اليوم يئس الذين كفروا) يئسوا منه أن يبطلوه أو يئسوا من دينكم أن يغلبوه، لأن الله وفى بوعده من إظهاره على الدين كله (فلا تخشوهم) بعد إظهار الدين وزوال الخوف من الكفار، وانقلابهم مغلوبين بعد ما كانوا غالبين (واخشونِ) أي أخلصوا لي الخشية (اليوم أكملت لكم دينكم) بأن كفيتكم خوف عدوكم، وأظهرتكم عليهم، كما يقول الملوك: "اليوم كمل لنا الملك، أي كفينا من كنا نخافه ". نعم لقد زالت الفتنة بفضل كفاح النبي وصحابته وأتباعهم، الذين لم يكتفوا بإنجاز العملية الجراحية في حدود الجزيرة العربية فقط بل إنهم تغلغلوا في الامبراطوريتين الفارسية والرومانية إمعاناً في إزالة فتنة القهر الديني وتأكيداً على إظهار دين الله، حتى تزول المخافات من قبل القوى الشركية عن آخرها.
لقد انقلب الشرك مغلوباً بعد أن كان غالباً وأصبح دين الله ظاهراً محفوظاً بصورة القرآن الذي حفظه الله بواسطة أولئك الجم الغفير الذين احتشدوا على ظهر دينه يذودون عنه كيد الكائدين، إلى أن دخل التاريخ العصر الحديث الذي طبع فيه القرآن بمطابع حديثه بعدد ملايين النسخ انتشرت إلى ربوع العالم من أقصاه إلى أقصاه فزالت خشية زوال دين الله والتحريف فيه إلى الأبد.
هذا هو معنى مصطلح "إظهار الدين" على الدين كله رغم أنف الكارهين والمعاندين، وقد رأينا أن هذا المصطلح يحمل دلالة خاصة حُمِّل به محمد صلى الله عليه وسلم كمهمة إضافية اقتضتها مسألة ختم النبوة وانقطاع وحي السماء. فهذا المصطلح في دلالته ومضمونه يختلف عن مصطلح "الدعوة إلى الدين" التي ظلت المهمة الأصلية للأنبياء جميعاً.
وإذا عُدْنا، بعد هذا البيان المتعلق بمصطلحي "الدعوة إلى الدين" و "إظهار الدين"، إلى مصطلح الجهاد بمعناه الثالث أي القتال، فإننا لا نواجه صعوبة في إدراك دلالته وتقارب ماهيته من حقيقة الدعوة والبلاغ. فهو قتال ينشب من أجل إفساح المجال أمام ظهور الدين عن طريق إزالة المتاريس التي تعرقل سبيل دخول الناس في دين الله أفواجاً، وعندما تنزاح المتاريس تجد الدعوة فسحة للتحرك والانفعال. فالرابطة إذن وثيقة بين الدعوة وبين هذا النوع من الجهاد أيضاً.
خلاصة القول إن الجهاد بأنواعه الثلاثة وطيدة الصلة بنشر كلمة التوحيد، فمنه ما يرادف مصطلح "الدعوة" مرادفة تامة في جميع الإعتبارات والحيثيات، وهو الذي ورد في قوله تعالى :"وجاهدهم به جهاداً كبيراً " ومنه ما لا يرادفها ولكن يرافقها في حلها وترحالها وهو الذي ورد في قوله تعالى :"ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه" وقوله تعالى :"والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" ومن الجهاد ما لا يرادف الدعوة ولا يرافقها في كل أطوارها بل يساعدها في بعض مراحلها وهو الذي ورد بلفظة القتال في قوله تعالى: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله" .