قصة: شبح الماضي
قال لي صديق : لدي أمانة حملتها من إنسان مضطر، وأريد أن أؤديها إلى أصحابها، هل لك أن تكون لي عونا على أدائها إلى أهلها؟
قلت: خير مقدم، لكل عمل خير.. تجدني عند ظنك.
قال: عندي أمانة شيخ عجوز، وهي حفنة من المعاني، وأريد أن ألبسها لباس الألفاظ، وأريدك أن تفعله أنت، قلت، أحاول، والنتيجة نصيبك، وها هي معاني صديقي، ألبستها كلماتي:
كنت أراه كل يوم جالسا أمام باب منزله، فاتحا خلفه نصف المصراع، شريد البصر، كأنما فقد حبيبا قديما، أو أضاع متاعا قيما، واجما هادئا، كتمثال منصب على شارع عام، وكنت ألقي نظرة عليه وأمضي، ولكن تظل صورته عالقة بخيالي لا تفارقني إلى أن أصل مدرستي، وأمر عليه مساء فأجده كصباحه لم يتغير في بيئته سوى ملابسه وضوء النهار والساعات..
فأوحى إلي دأبه هذا أن الشيخ يضمر قصة يجب أن تحكى، وجرحا قديما يجب أن يباح.. فبدأت أتودد إليه بإلقاء سلامي عليه كل يوم مع وقفة لحظية عنده، ثم أواصل طريقي لأسلم عليه في اليوم القادم، واستمر بي وبه الحال إلى أسبوع، وبدأت أشعر أن الشيخ قد استأنس بي، وأصبح يبادرني أحيانا بالسلام قبل أن أتفوه بسلامي.
ذات يوم أوقفت عنده الدراجة، وقربت إليه، وصافحته، فهشّ إلي، ومد يده للمصافحة، ثم مضت بيننا هنيهات صمت، كل منا كانت لديه للآخر تساؤلات، فبدأ:
"مرحبا بك أيها الشاب، مرحبا.."
ومضى يسألني عني وعن نفسي، وعن شغلي هل أنا لم أزل طالبا أم دخلت المرحلة العملية من الحياة، وهل لدي طموحات؟ وهل لدي هدف محدد؟
وبقيت أجيب عن كل أسئلته واحدا تلو الآخر طامعا أن أجد بعد إجابتي نقطة أبدأ بها أسئلتي، ولكن كان يصوغ كل سؤال بحيث يكون جزءا من السؤال السابق فأقول: علي أن أكمل، وأجيبه، إلى أن عبّأ مخه بكل ما كان يريد أن يعرف. فنظرت إلى الساعة، فإذا الشيخ قد استنفد الوقت، فقمت عنه مستأذنا وواعدا بأن أرجع إليه، فلقد لمست عنده صديقا كريما، وجليسا أنيسا، يتفجر منه كلام منسق، وقول حكيم، فابتسم ابتسامة أنبأني بها أنه لا يوافقني.. فقلت له: راجع ذكرياتك، فسأرجع إليك غدا لكي أنقب عن أسرارك وما تكتمه في صمتك. فرأيت عندئذ موجة من الأسى والألم مسحت وجهه ثم تضاءلت، فمضيتُ إلى شغلي.
* * *
وغدوت إليه صباح اليوم التالي وقد صممت على استخراج مكنون صدره، وهو جالس على هيئته مطرقا إلى الأرض، فبادرته مداعبا:
ياشيخ، هل الأشياء تنطق؟
فنظر نظرة المستفهم وقال: مالي ولنطق الأشياء؟
فصغت سؤالي صياغة أخرى بروح شعرية: أراك تناجي الأشياء.. إما الأرض وإما السماء.. علام السكوتُ..علام البكاء؟
فأجابني دون اكتراث بسجعي: أي بني، إن الأشياء لا تنطق، ولكنها أفكارنا وأحاسيسنا تكلمنا بلسان الأشياء من حولنا.
قلت: الأشياء من حولنا؟
قال: إي ونعم، فإن هذه السماء التي تُظِلُّنا، وهذه الأرض التي تُقِلُّنا، وهذه الأشجار التي تفيّئُنا، وهذا الجو المحيط بنا، كلها ناطقات، إن هذا القمر الطالع ليلا في بهائه وتمامه.. إذا نظر إليه الطفل، أعاد إلى سمعه الحكايات الجميلة التي حكتها له جدته بأمتع العبارات، وإذا شَخَص إليه الغريب عن وطنه؛ أنعش له ذكريات أهله وداره ومغاني عيشه، وإذا أبصره طالب علم؛ روى له مشاهد كدِّ أسلافه في طلب العلم، واجتهادهم في إحكام أحكامه، وإذا تأمله الشاعر، أوحى إليه أعذبَ القوافي وأعمق المعاني، وصبّ له من خيوط ضيائه كؤوسا من السحر المبين.. وإذا تأمله العجوز الشيخ؛ أنشد القمرُ له أناشيد الماضي الجميل، وحكى له سيرته وحياته منذ أن قدر على المشي إلى آخر لحظة يعيشها من الدهر...
كان الشيخ ينطق، ويصف لي نطقَ الأشياء، ولكني لم أكن أحس إلا بإنصات الأشياء من حوله، فلم يك حينئذ ينطق إلا الشيخ و واهاً لما كان ينطق به!
كان يقول: أفلا تعذر الشيخ المسكين ـ أيها الشاب ـ إن استنطق الأشياء وخلا بها يشاطرها دفائن قلبه ومآسي حياته..!
قلت: ليت الشيخ شاطرنيها كما يشاطر الأشياء الجامدة الصّمّاء البكماء آهاته وحسراته، فسماؤك وأرضك وقمرك وعالمك الخيالي بأسره لا يغني عنك شيئا.. قال: وماذا يغني عني إن أفرغت لك صدري؟ قلت: لعلّ الله يجعل في يدي دمل جروحك، وشفاء قروحك، أو لعلّ كلمةً مني تصيبك بلسما فتزيل عنك ما تحس به وتكابد كل أيامك، أو أتألم لك ونتقاسم الآلام قلبين بدل قلب واحد..
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة ** يواسيك، أو يسليك، أو يتفجّعُ!
فابتسم ابتسامة أليمة عميقة، كابتسامة سجين المَلِك للطفل الصغير المتحمس إذا قال إنه سيخلصه من قيده..
وأنشأ يقول:
إني شبح أسلفه الماضي الذي عشته، ليس لدي منه سوى ذكريات تؤرّقني، ويا لحسنها لو اكتفت مني بالأرق، قد بلغت الثمانين، وإن كتفي ناءٍ بعبئها، وأكاد أعجز عن تحمل لسعات الذكريات، إنها تقتلني قتلا كلَّ عشيَّة حين تسلمني الخلوة إليها، وكلَّ ضحًى حين ألمح بريقَ شخصي الذاهب في وجوه الشباب الطامحين!
كانت لي هويَّة، وهي طموحاتي التي كنتُ أُعرَفُ بها، ومهاراتي التي كنت أرفُل فيها، ونجاحاتي المنتظَرة، وإنجازاتي الموعودة، وتنوّع شخصيتي مع تنوّع كل ميدان، كنت أريد أن أصبح عظيما من العظماء، شأنَ كلِّ شابٍّ طموح، كنت أريد أن أرتقي إلى أعلى المعالي، حيثُ السدَّة العليا والكرامة العظمى، مثلَ كلِّ فتى حديثِ عهدٍ بالحياة..
ولكن.. كما أن النور يستلزم الظلمة، والنار يطفيها الماء، والحياةَ يخلفها الفناء، والخيرَ يتبعه الشر، أصابت طموحاتي آفاتٌ صدّأتها، وسكّرتني بمغرياتها؛ فبقيت أسيرا لها، شريدا في طرقات الحياة أتسكع فيها من هباء إلى هباء، خالدا إلى الغفلة والضياع، لاهثا وراء الشهوات، أضعتُ أحلامي، وهدمت صرح آمالي بمَعَاوِل الكسل والهوى، وشريت الملذات البخيسة بأثمان باهضةٍ هي نفسي وسعادتي، وعبرت سوق الحياة وأنا صفر اليدين، لا أملك سوى الآهات، ولم أربح سوى الحسرات.
آه! تطاردني نصائح الناصحين كابوسا مخيفا، وليتني أصغيتُ لها، أيتها الأعوام، ليتك ترجعين القهقرى فيرجع إليَّ عهدي الذاهب! وأيتها الأيام، ليتك تعودين فيعود إلي الماضي الذي أكاد أُزهَقُ حسرة عليه..
ثمَّ ركّز الشيخ بصره على نقطة في الفضاء.. وسكت، وكأن سدّا وقف دون فيضان صدره.. فقلت: هيه! يا شيخ، ماذا بعدُ؟ لم تقضِ شيئا، ولم تكمل المقدمة بعد.. قال: مالك ولقصة الماضي الغابر الذي لا يصلح من حاضرك شيئا.. قلت: عسى أن لا أقع فيما وقعتَ فيه أنت! فتأملني تأمُّل المعجَب، وقال: إنك فتى لَسِنٌ، قلتُ: وفتى فطِنٌ كذلك، فلا تعبأ بشيء سوى صبِّ الآلام في مسمعي، ودعني بعدها أصنع منها بلسما لجروحك، وغذاءً لروحي..! قال: أحس بإرهاق وتعب في جسدي، وأريد أن أقف من قصتي ها هنا، عد إلي غدوةً لكي أكمل لك ما بقي، لتقر عينا بالألم، وتشفي غليلا بالقصة.. فقمت من عنده على رغم، مسلما عليه وطالبا الدعاء منه.
* * *
وأسرعت إليه في اليوم التالي و قد رابني منه قطعه لكلامه ، وعزمت أن لا أقوم عنه قبل أن يفرغ ما يضمره في ضميره كل الإفراغ، فالشيخ أصبح يشغل جزءا كبيرا من تفكيري في أيامي، وصلت إلى بابه فإذا الباب مغلق، فلم أصدق عيني، واستغربت المشهد.. فإنني لم أعهد بابه مغلقا قط إلا خلفه، وهو جالس خارجه أمام العتبة..
طرقت الباب، فطلع شاب في مثل عمري، ودقق فيّ لحظة، ثم أقبل، فعانقني عناق المعارف، ولم أكن أعرفه من قبل.. وأجهش باكيا، وبدا لي أنْ حدث أمر فاجع، وهذا ابنُه، طرقت الباب، فطلع شاب في مثل عمري، ودقق فيّ لحظة، ثم أقبل، فعانقني عناق المعارف، ولم أكن أعرفه من قبل.. وأجهش باكيا، وبدا لي أن حدث أمر فاجع، وهذا ابنُه، ولم أكن أتوقع ما كان يحدث..!