الإمام الطحاوي

بسم الله الرحمن الرحيم الإمامُ الطحاويّ رحمه الله 239هـ - 321 هـ نسبه: أبو جعفر أحمدُ بنُ محمّدِ بنِ سلامةَ بنِ سلمةَ بنِ عبدِ المَلِكِ الأزدِيِّ الحَجْرِيِّ المِصْرِيِّ الطَّحَاوي. الأزد: مِن أعظمِ قبائل العرب وأشهَرِها بُطونًا وأمَدِّها فروعًا، وهي من القبائل القَحْطانيَّة، تَنْتَسِبُ إلى أزد بن الغوث بن ثبت بن مالك بن زيد بن كهلان، فهو قحطانيٌّ من جهة أبيه، وعدنانيٌّ من جهة أمّه؛ لأن أمَّه مِن مزينة، وهي أخت الإمام المزني صاحبِ الشافعي رحمهما الله. الحَجْر: فخِذٌ من أفخاذ الأزد، وهي قبيلة من قبائل اليمن المعروفة، ويقال لها: "الأزد الحجر" تمييزًا لها من أزدِ شَنوءة. المصري: قد سكن أجدادُه بمصرَ بعد فتح الإسلام، فنُسب إليها. الطَّحَاوي: نسبةٌ إلى قريةٍ تُسمَّى طحا. ولادته: ذكر العلّامةُ الذَّهَبيُّ رحمه الله في ((تذكرة الحفاظ))، والعلّامةُ ابنُ خَلِّكان في ((وفيات الأعيان)) ، والعلّامةُ السَّمعانِيُّ في ((إتحاف السلامة))، والعلّامةُ أبو إسحاق الشيرازي في ((طبقات الفقهاء))، والعلّامةُ ابن التغري في ((النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة )) ، والعلامة اليافعي في ((مرآة الجنان))، والعلامة السيوطي في ((حسن المحاضرة)) ، والعلامة الحموي في ((معجم البلدان)): أربعة أقوال في ولادته: 1. سنة 229 هـ 2. سنة 237 هـ 3. سنة 238 هـ 4. سنة 239 هـ رجَّح الحافظُ ابن حجر والعلّامُة العينيُّ القولَ الأخيرَ، وذكره العينيُّ في ((نخب الأفكار))، وتابع من ترجموا له القولَ الأخير وخاصةً تلميذُهُ ابنُ يونُس. وفاته: اتفق العلماء على أن وفاتَه كانت في سنة 321 هـ غير ابنِ النَّديم، فقد أرّخ وفاتَه سنةَ 322 هـ ، وعلى القول المتَّفَقِ عليه: عاش الإمامُ اثنتينِ وثمانينَ سنةً. معاصرته: عاصر الإمامُ الطحاويُّ رحمه الله أصحابَ الكتبِ الستَّةِ ومَن كان في طَبَقتهم، فكان عمرُه عند وفاةِ البُخارِيّ (المتوفّى سنة 256 هـ ) 17 سنةً، وحين ماتَ الإمامُ مسلمٌ (المتوفّى سنة 261 هـ ) 22 سنةً، وحين وفاةِ السِّجستانيِّ صاحبِ السُّنَن (المتوفّى سنة 373 هـ) 34 سنةً، وحين وفاةِ الترمذي (المتوفّى سنة 279 هـ ) 40 سنةً، وحين ماتَ النَّسائيُّ (المتوفّى سنة 303 هـ ) 64 سنة، وقد أكثر الروايةَ عن النَّسائيُّ في شرح معاني الآثار، وحين مات ابنُ ماجه القَزْوِينيُّ (المتوفّى سنة 274 هـ ) 34 سنة. نشأته وثقافته: لقد نشأ الطحاويُّ رحمه الله في بيت علمٍ وفضلٍ في مصرَ، مَحَطِّ الصحابةِ والتابعين وكبارِ العلماء والمحدَّثينَ، فأبوه محمَّدُ بنُ سَلامَةَ كان من أهل العلم والبصَر بالشعر ورِوايتِه، وأمُّه مَعدودةٌ في أصحاب الشافعي، الذين كانوا يَحضُرون مجلسَه، وخالُه هو الإمامُ المزنيُّ، وسمع منه المختصرَ الذي اسْتَمدَّه مِن علمِ الشافعي  ، وهو أوّل من تَفَقّهَ به وكتبَ عنه الحديثَ، وسمِع منه مرويّاتِه عن الشافعي في سنة 252 هـ، وقد أدرك معظمَ طبقةِ المزنيّ، وروى عن أكثرِه، فلَحِق يونسَ بنَ عبد الأعلى سنة 261 هـ، وهارونَ بنَ سعيد قبل سنة 253 هـ ، ومحمدَ بنَ عبدِ الله بن عبد الحكم سنة 268 هـ ، وبحرَ بنَ نصرٍ سنة 267 هـ ، وغيرَهم من أصحابِ ابنِ عيينةَ وابنِ وهبٍ وهذه الطبقة. تحوّله من مذهب الشافعي إلى مذهب أبي حنيفة رحمهما الله: نشأ الطحاويُّ على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله، فلما بلغ سنَّ العشرين، ترك مذهبَه الأوّلَ وتحوَّل إلى مذهب أبي حنيفة رحمه الله في الفقه، وذَهب مُترجِموه في تعْليلِ تحوُّلِه مذاهبَ مختلفَةٍ، ويُمكن أن يكون السببُ في هذا التحوّل جملةَ أسبابٍ: الأوّل: أنه كان يُشاهِدُ خالَه يُطالِعُ كتبَ أبي حنيفةَ ويُديمُ النَّظرَ فيها ويتأثَّرُ بها، فقد قال الخليليُّ في كتابه ((الإرشاد)): سمعتُ عبدَ اللهِ بنَ محمدٍ الحافظَ يقول: سمعتُ محمدَ بنَ أحمدَ الشرطيَّ يقول: قلتُ للطحاويِّ: لِمَ خالفتَ مذهبَ خالِكَ، واخترتَ مذهبَ أبي حنيفةَ؟ فقال: لأنِّي كنتُ أرى خالي يُديمُ النظرَ في كتب أبي حنيفةَ، فلِذلكَ تحوَّلتُ إليه. الثاني: المُساجَلاتُ العِلْميَّةُ التي كانت تقَعُ بمَرْأى منه ومَسمَعٍ بين كبار أصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة. الثالث: التصانيفُ التي أُلِّفَتْ في كلا المَذْهَبَيْنِ، وفيها رَدُّ كلِّ طَرَفٍ على الآخَر في المسائل المختلفة، فقد ألَّف المُزَنِيُّ كتابَه ((المختصر)) وردَّ فيه على مذهب أبي حنيفة في المسائلِ المختلفة، فانبَرَى له القاضي بكّارُ بنُ قتيبةَ، فألّف كتابًا على الردّ عليه، ثم لم يستطع المزنيُّ أن يؤلّف كتابًا في ردّه. الرابع: حَلَقاتُ العلمِ المُخْتلفةُ المشاربِ التي كانت تُقامُ في الجامع عمرو بن العاص رضي الله عنه ، فاستفاد الطحاوي رحمه الله منها جميعًا، ووقف على طريقِ المُناقشةِ والبحث والاستدلالِ عند أصحابها. الخامس: الشيوخُ الذين كانوا يَنْتَحِلون مذهبَ أبي حنيفةَ مِمَّنْ وَرد إلى مصرَ والشامِ لِتولِّي مَنصِبِ القضاء، كالقاضي أحمدَ بنِ أبي عمرانَ – وهو أجلّ أساتذته – وأبي خازِم، وابن قتيبة، فقد روى ابنُ عساكر في ((تاريخ دمشق)) من طريق عليِّ بنِ موسى بن الحسينِ النيسابوريِّ السمسارِ قال: قال لنا أبو سليمانَ ابنُ زبْرٍ: قال لي أبو جعفر الطحاويُّ: أوَّلُ مَن كتبتُ عنه الحديثَ المُزَنِيُّ، وأخذتُ بقول الشافعيِّ، فلمّا كان بعد سنينَ قدِم أحمدُ بنُ أبي عمرانَ قاضيًا على مصرَ فصحِبتُه وأخذتُ بقوله - وكان يَتَفَقَّهُ للكُوفيِّيْنَ - وتركتُ قولي الأوَّلَ، فرأيتُ خالي المُزَنِيَّ في المنام وهو يقول لي: "يا أبا جعفر، اغْتَصَبَك!!". فهذه الأسبابُ التي كانت سببًا لِتحَوُّلِه من مذهبِ الشافعي إلى مذهب أبي حنيفة رحمه الله .

شيوخ الطحاوي: 1. الإمامُ العلّامة، فقيهُ المِلَّة، عَلَمُ الزُّهّاد، إسماعيلُ بنُ يحيىَ بنِ إسماعيلَ بنِ عمرو بنِ مسلمٍ المُزَنِيُّ المصريُّ، صاحبُ الإمام الشافعي، المتوفى سنة 264 هـ . للمُزَنِيُّ مصنفات كثيرة: المختصر، والجامع الصغير، والجامع الكبير، والمنثور، المسائل المعتبرة. 2. الإمامُ العلّامة، شيخُ الحَنَفِيَّةِ، أبو جعفر أحمدُ بنُ أبي عمرانَ موسى بن عيسى البغداديُّ، الفقيهُ المحدِّثُ الحافظُ المتوفَّى سنةَ 280 هـ ، تفقّه مع أصحاب أبي يوسفَ ومحمد بنِ الحسنِ الشيبانيِّ رحمهما الله، وقد قدِم إلى مصرَ مع أبي أيوبَ صاحبِ الخراج حوالي سنة 260 هـ ، فلازمه أبو جعفر، وتفقّه به مدّةَ عشرين سنةً، مكّنتْه من الإحاطة بمذهب أبي حنيفة، ومعرفةِ دقائقِه، واختلافِ رواياته، وكان ابنُ أبي عمرانَ من بحور العلم، يُوصَفُ بحفظٍ وذَكاءٍ مُفْرِط، وروى الطحاويُّ شيئًا كثيرًا من حفظه، وكان له تأثيرٌ كبيرٌ في تحوّل الطحاوي إلى مذهب أبي حنيفة، كما صرّحه هو في قصّةٍ رواها عنه أبو سليمانَ ابنُ زَبْرٍ، وكان أبو جعفر يَفتخِرُ به، ويُكثرُ الروايةَ عنه، إذ كانتْ جُلُّ رواياتِ الفقه عن طريقه. 3. الفَقِيْهُ العَلاَّمَةُ، قَاضِي القُضَاة، أَبُو خَازِمٍ عَبْدُ الحَمِيْدِ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ السَّكُوْنِيُّ البَصْرِيُّ، ثُمَّ البَغْدَادِيُّ الحَنَفِيّ المتوفَّى سنةَ 392 هـ . 4. القاضي الكبيرُ، العلّامةُ المحدِّثُ، أبو بكرةَ بكّارُ بنُ قتيبةَ المِصْرِيُّ، قاضي القضاة بمصر، وُلِد سنة 270 هـ ، وتُوُفِّي سنة 346 هـ . 5. القاضي العلامة، المحدِّث الثبت، قاضي القضاة، أبو عُبيدٍ عليُّ بنُ الحسينِ بنِ حربِ بنِ عيسى البَغْدادِيُّ، من أصحابِ الشافِعِيِّرجمهم الله المولودُ سنة 219 هـ . 6. الإمامُ الحافظُ الثَّبْتُ، أبو عبدِ الرَّحْمنِ أحمدُ بنُ شُعيبِ بنِ عليِّ بنِ سِنانِ بنِ بحرٍ الخُراسانيُّ النَّسائيُّ. 7. الإمام الحافظ، شيخ الإسلام أبو موسى يونُسُ بنُ عبدِ الأعلى بنِ ميسرةَ الصَّدَفِيُّ المِصْرِيُّ. 8. الإمام المحدّث، الفقيهُ الكبيرُ العظيمُ الجليلُ، عارِفٌ بالقرآنِ والحديثِ، عالمٌ بالاختلافِ والمعاني والقياس، فصيحٌ عاقِلٌ عفيفٌ، قوَّالٌ بالحقِّ، أبو مُحَمَّدٍ الرَّبيعُ بنُ سليمانَ المُرَادِيُّ مَوْلَاهُم، المِصْرِيُّ. 9. الشيخ الإمام، محدِّثُ الشام، أبو زُرْعةَ عبدُ الرحمنِ بنُ عمرِو بنِ عبدِ اللهِ بنِ صفوانَ بنِ عمرٍو الدِّمَشْقِيُّ. 10. الإمامُ الحافظُ المُتْقِنُ، أبو إسحاقَ إبراهيمُ بنُ أبي داودَ سليمانَ بنِ داودَ الأسديُّ الكوفيُّ. وغيرُهُمْ مِنَ الأئمَّةِ المُجْتَهِدِين. مكانته في المجتهدين: قسَّم عُلماءُ المذهبِ العلماءَ الفقهاءَ إلى سبعِ طبقاتٍ، وجعَلَهُ ابنُ كمال باشا في بعض رسائلِه في الطبقةِ الثالثة، وقدْ ردَّه الإمامُ عبدُ الحيِّ اللَّكنويُّ في ((الفوائد البهيَّة))، وقال: إنَّ الإمامَ الطحاويَّ له درجةٌ عاليةٌ، ورُتبةٌ شامخةٌ، قد خالَفَ بها صاحبَ المذهبِ في كثيرٍ من الأُصول والفروع، ومَن طالَعَ شرْحَ معاني الآثارِ وغيرَه مِن مُصَنَّفَاتِه يَجِدْه يَختارُ خلافَ ما اختارَهُ صاحبُ المذهبِ، فالحقُّ أنَّه في المُجتهدينَ المُنْتَسبينَ إلى إمامٍ مُعيَّنٍ من المجتهدينَ، لكن لا يُقلِّدونه لا في الأصول ولا فی الفروع، إنْ حَطّ عن ذلك فَهو مِن المُجتهدينَ في المذهب، القادرينَ على اسْتِخراجِ الأحكامِ من القواعد التي قرَّرَها الإمامُ، ولا تنحطُّ مرْتَبَتُهُ عن هذه المَرتَبةِ أبَدًا علَى رَغْمِ أنفِ مَن جعَلَه مُنْحَطًّا، وما أحْسَنَ كلامَ الشيخِ عبدِ العزيزِ المحدّثِ الدَّهلوي في ((بستان المحدثين)) حيثُ قالَ: إن مختصرَ الطحاويِّ يدُلُّ على أنَّه كان مُجتهدًا، ولم يكن مُقلِّدًا للمذهبِ الحنَفيِّ تقليدًا مَحضًا، فإنه اختارَ فيه أشياءَ تُخالِفُ مذهبَ أبي حنيفةَ، لِمَا لاحَ له من الأدِلَّة القويّة، وبالجملة فهو في طبقةِ أبي يوسفَ ومحمدٍ رحمهما الله، لا يَنحَطُّ عن مرتَبتِهما في القول المُسَدَّد.

مزايا شرح معاني الآثار: لِكتابِ شرح معاني الآثار مزايا كثيرةٌ يجِدُها مَن يُمْعِنُ النظرَ فيه، ونَذْكُرُ بعضَها: 1. أنه يَشتملُ على أحاديثَ كثيرةٍ لا تُوجد في غيره. 2. أنه يُكثِرُ في سرْدِ أسانيدِ الحديث، فكَثيرٌ من الأحاديثِ المرويَّةِ في غيره تُوجدُ فيه بزياداتٍ مُهِمَّةٍ، كتعدُّدِ الأسانيدِ التي تَزيدُ الحديثَ قُوّةً، وقد يكون الحديثُ في غيرِه بسندٍ ضعيفٍ ويوجدُ فيه من طُرُقٍ أُخرى، وبِتعدُّد الأسانيد يَظْهَرُ للمُحدِّث نُكَتٌ وفوائدُ مُهمَّةٌ، وقد يكون الحديثُ في غيره من طريقِ مدلِّسٍ لم يُصرِّح بالسَّماعِ ويوجَدُ فيه مصرَّحًا بالسَّماع. 3. توجد في كتابه فوائدُ كثيرةٌ في المتون، فيقعُ فيه مُطَوَّلًا ما وقع في غيره مختَصَرًا، أو مُفصَّلًا ما وقع عند غيره مُجْمَلًا، أو مُقَيَّدًا ما كان في غيره مُطلَقًا، وغيرُ ذلك من مُهِمَّاتِ الفوائد. 4. أنَّ كتابَه يشتملُ على كثيرٍ من آثارِ الصحابة والتابعينَ، والأئمّةِ المَتْبُوعين بعدَهم، ما لا توجد في كتبِ غيرِه. 5. أنَّ كتابَه يوجد فيه كثيرٌ من كلام الأئمة في الأحاديثِ والرجالِ من تَصحيحٍ أو تَرْجيحٍ أو تَضعيفٍ. 6. أنه يُترجِمُ على مسائلِ الفقه، ثم يُورِدُ الأحاديثَ ويُنَبِّهُ على استنباطاتٍ غزيرةٍ من الأحاديث. 7. أنه رَتَّبَ الكتابَ على ترتيبِ كتبِ الفقه، ويورِدُ فيها الأحاديثَ المتعلِّقَةَ بالأمورِ التي يتبادَرُ الذهنُ أنَّها ليستْ مُتعلِّقَةً بتلك المسألةِ التي عَقَدَ لها البابَ، كأنَّه أوردَ الحديثَ: "الُمسْلِمُ لا يَنجَس" و "بول الأعرابيِّ في الْمَسجد" في بابِ المياه. 8. أنه مع إثباتِه مذهبَ الأحنافِ وبيانِ أدِلَّتِهِمْ يَذْكُرُ أدِلَّة المُخالفين. 9. قال العلّامَة زاهدٌ الكوثريُّ في كتابِه ((الحاوي)): مِن مُصَنَّفاتِ الطَّحاوي المُمْتعةِ كتابُ معاني الآثار في المُحاكَمةِ بين أدلَّة المسائل الخِلافِيَّة، يَسوقُ بسندِه الأخبارَ التي يَتمسَّكُ بها أهلُ الخلافِ في تلك المسائل، ويُخَرِّجُ مِن بَحثِهِ بعدَ نقدِها إسْناداً ومَتناً، رِوايةً ونَظَراً بما يَقتَنِعُ به الباحثُ المُنْصِفُ المتبرِّئُ مِن التقليدِ الأعمى، وليس لهذا الكتاب نظيرٌ في التفَقُّهِ وتعلُّم طُرقِ التفَقُّهِ وتَنْمِيَةِ مَلَكَةِ الفقه. ترجيح كتاب الطحاوي على كتب السنن ومكانته بينها: قال العَينيُّ في ((نخب الأفكار)): وأمّا تصانيفُه فتصانيف حسَنَةٌ كثيرةُ الفوائد، ولا سِيَّما كتابُ معاني الآثار، فإنَّ الناظرَ فيه المُنْصِفَ إذا تأمَّله يَجِدُه رَاجِحًا على كثيرٍ مِّن كُتُبِ الحديثِ المشهورةِ المقبولةِ، ويَظهرُ له رُجحانُه بالتأمُّل في كلامِه وترتيبه، ولا يَشُكُّ في هذا إلّا جاهلٌ أو مُتَعصِّبٌ، وأمّا رُجْحانُه على نحوِ سُننِ أبي داود وجامعِ الترمذي وسننِ ابنِ ماجة ونحوِها: فظاهرٌ، لا يَشكُّ فيه عاقلٌ ولا يَرتابُ فيه إلّا جاهلٌ، وذلك لِزيادةِ ما فيه مِن بيانِ وُجوهِ الاستنباطاتِ وإظهارِ وجوهِ المعارَضات وتمييزِ النَّواسخ مِن المنسوخات ونحوِ ذلك، فهذه هي الأصل وعليها العُمدةُ في مَعرفة الحديث، والكتبُ المذكورةُ غيرُ مَشحُونةٍ كما ينبغي، كما تَرى ذلكَ وتُعانيْه، فإنِ ادَّعَى المُدَّعِي كونَه مرجوحًا بوُجود بعضِ الضُّعفاء والأسقاط في رِجاله، فيُجابُ: بأنَّ السننَ المذكورةَ ملأى بمِثلِ ذلك، بل وقد قيل: إنه لا تخلو عن بعضِ أحاديثَ باطلةٍ وأحاديثَ موضوعةٍ، وأمّا الأحاديثُ الضعيفةُ فكثيرةٌ جِدًّا، وأما سننُ الدارَقطنيِّ أو الدارِميِّ أو البيهقيِّ ونحوُها فلا تُقارِبُ خَطوةً ولا تُداني حَقوةً، ولا هي مِمَّا تجري معه في المَيْدان، ولا مِمَّا تُعادِلُ معه في كِفَّتَيِ الميزانِ، ولم يَظْهَرْ رُجحانُ هذا الكتابِ عندَ كثيرٍ من الناسِ لكونه كنزًا مَخفيًّا، ومعدِنًا مَخبيًّا، لم يُصادِفْهُ مَن يَستخرجُ فيه مِن العجائب، ولم يَعثُر عليه من يَستنبطُ ما فيه من الغرائب، فلم يَبرَحِ الكُمونُ والاختفاء، ولم يبرُزْ على مِنَصَّةِ الاجتلاء، حتى كاد أن تُضيفَ شمسُه إلى الأُفول، وبَدْرُه إلى النُّحول، وذلك لِقُصورِ فهمِ المتأخرين وترْكِهم هذا الكتابَ واشتغالِهم بما لا يُفيدُ شيئًا في هذا الباب مع استيلاء المُخالِفينَ المُتعصِّبةِ على بِقَاعِ منارِه، وتحامُلِ الخُصوم المُعاديةِ على اندِراسِ معالِمِه وآثارِه، ولكِنَّ اللهَ يُحِقُّ الحقَّ ويُبطِلُ الباطلَ حيث خَلق أُناسًا قاموا بحُقوقه وأحْيَوْا مَوَاتَه، وقضَوا على محاسِنِ معالِمَه ما فاتَه، فظهر له الترجيحُ على أمثالِه، والتفوُّقُ على أشكالِه. انتهى كلامُ العَيْنِيِّ. وقدْ رَجَّحَ ابنُ حزمٍ مُصنَّفَ الطحاويِّ على مُوَطَّأ الإمامِ مالكٍ  في كتابِه ((مراتب الديانة)) كما لُخِّصَ كلامُه في ((تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي)) وقال: أما ابنُ حزْمٍ فإنَّه قال: أولى الكُتُبِ الصّحيحانِ، ثمَّ صحيحُ سعيدِ بنِ السَّكَن، والمنتقى لابن الجارود، والمنتقى لقاسمِ بنِ أَصْبَغ، ثم بعد هذه الكُتُب: كتابُ أبي داودَ، وكتابُ النَّسائيِّ، ومُصنَّفُ قاسمِ بنِ أَصْبَغ وغيرُ ذلك.

شروحات الطحاوي: قد اعتنى كثيرٌ من العلماء بشرح معاني الآثار والتعليقِ عليه وتَخْرِيجِ رجالِ الأسانيدِ فيه، ومِن أهَمِّ شُروحِ شرحِ معاني الآثار: ((نخبُ الأفكار في تنقيح مباني الأخبارِ في شرْحِ شرْحِ معاني الآثار)) للعلّامة بدرِ الدين، وإن هذا الشرح أكبر الشروح قيمةً علميّة، وهو في ثماني مجلَّدات، ويتضمَّنُ تَرْجَمَةَ رِجالِ الأسانيد وبيانَ مَنزِلتِهِم، ثُمَّ تَخريْجَ الأحاديثِ مِن كُتُبِ الصِّحاحِ والمَسانيدِ، ثُمَّ شرْحَ ألفاظِ الحديثِ والتعليقِ عليه، ثمَّ تخريجَ ما في الباب من الأحاديثِ التي لم يَذْكُرْها الإمامُ الطَّحاويُّ، وإيرادَ مذاهبِ الأئمة وآرائِهم وأقوالِ العلماء حيثُ قال الإمامُ الطحاويُّ: "قال قوم" و "ذهب آخرون": صرَّح العَيْنِيُّ مِصداقَ "قوم" و "آخرون"، وهُما يَدُلُّ على قيمَتِه العِلميَّةِ ما قاله الإمامُ الكوثَرِيُّ في كتابه ((الحاوي)) – ما خلاصته - : "خدمة البدرِ العينيِّ لشرح معاني الآثارِ لا تَقِلُّ عن خِدمتِه لِصحيح البخاريِّ، واللهُ تعالَى يُكافِئُه على تلكَ الخِدْماتِ الجَليلة، ولَا سِيَّما في تحقيقِ أحاديثِ الأحكام. انتهى بفضل الله تعالى.

شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2024

التعليقات

    • جهد مشكور، ومقال مفيد، يا حبذا لو ذكرت المصادر أيضا، ليمكن لنا الاقتباس من مقالتك القيمة.

يجب أن تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب

يستغرق التسجيل بضع ثوان فقط

سجل حسابا جديدا

تسجيل الدخول

تملك حسابا مسجّلا بالفعل؟

سجل دخولك الآن
المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2024