الدعاية والإعلان في الشعر العربي
الدعاية والإعلان في الشعر العربي ناصر عبود قاسم البريد الإلكتروني: naser_altameme@yahoo.com عرّفَ هارولد لاسويل (H.Lasswell) الدعاية بأنها: (الاحتيال عن طريق الرموز)، وعرفها (معهد تحليل الدعاية الأمريكية) قائلاً: (الدعاية الإعلامية هي تعبير عن رأي أو فعل يقوم بإعداده بصورة متعمدة وواعية، أفراد أو مجموعة من الناس، بقصد التأثير على آراء وأفعال أفراد أو مجموعات أخرى لأغراض وأهداف تم تحديدها مسبقاً). إما الإعلان فقد عرفته (الموسوعة الفرنسية الكبرى): (على انه مجموعة الوسائل المستخدمة لتعريف الجمهور بمنشأة تجارية أو اجتماعية وإقناعه بمميزات منتجاتها والإيحاء له باقتنائها). من خلال هذه التعاريف تبين لنا بأن الإعلان يختلف عن الدعاية فالأول يعني تسويق سلعة معينة بهدف حث الجمهور على الإقبال عليها، إما الدعاية فيعني ترويج فكرة سياسية أو اجتماعية أو عقائدية أو حرب نفسية أو غيرها بهدف أقناع الجمهور المستقبل للوقوف بجانب المرسل للدعاية. ولم تكن الدعاية والإعلان وليدة اليوم أو تزامنت مع ظهور وسائل الإعلام الحديثة بل هي قديمة قدم الإنسان على وجه الأرض، وتم إيجاد أول إعلان كُتبَ على ورق البردي يعود تاريخه إلى الألف الثالث قبل الميلاد في مصر يُذْكَر فيه تقديم مكافأة مالية لكل من يعثر على عبد فار، كما وجد الإعلان في حضارة السومريين ببلاد ما بين النهرين، ودلت الدراسات التاريخية على أن اليونان والرومان استخدموا هذه الوسائل لإعلام الناس بالانتصارات والمباريات الرياضية. أما العرب فلم يعرفوا شيئاً عن الدعاية والإعلان إلا في وقت متأخر مقارنة بالأمم السابقة، ظهرت بوادره على شكل أبيات شعرية كالفخر والمديح والحث على القتال وغيرها، والمعلقات السبع خير دليل على ذلك، فقد قام العرب بكتابة هذه المعلقات بماء الذهب وعلقوها بين أستار الكعبة وسميت مذهبة فلان ومذهبة فلان. ويبدو إن الدعاية عند العرب كانت أقدم من الإعلان بسبب المعارك والحروب والنزاعات التي تحدث بين القبائل والتي كانت سائدة في المجتمع العربي آنذاك، وبالتالي يحتاجون إلى الإعلاء من شأنهم وبث الخوف والرعب في نفوس الآخرين، فالبعض يحاول أن يحطّ من قدر الخصوم، ويضع نفسه وقومه بالمنزلة الرفيعة والمكانة الجليلة، ويبرز كل ما من شأنه أن يهابه الناس كالكثرة والشجاعة والفروسية وغيرها، ومنهم الشاعر حسان بن ثابت حيث يقول: [أولَئِكَ قَومي إِن دَعَوتُ أَجابَني *** ثَمانونَ أَلفاً في الحَديدِ المَظاهِرِ] إن هذا البيت هو دعاية من نوع الحرب النفسية لإظهار مدى قوة قبيلة الشاعر وافتخاره بهم، ويصرح بأنه إذ ما دعا فأن وراءه الآلاف من الفرسان مدججين بالسلاح، كما أن الدعاية في الشعر لم تقف عند حد الحروب والغزوات والمبالغة في الرفعة والسؤدد كما هو قول الشاعر عمرو بن كلثوم في معلقته: [إذا بَلَغَ الفِطَامَ لَنا رَضيعٌ *** تَخِرُّ لَهُ الجَبابرُ ساجِدينَا] بل تعدى إلى الترويج للمصاهرة وحث الناس على الزواج من قبل بيوتات وضيعة وخاملة الذكر والنسب، حتى أن أبا الفرج الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني أورد باباً كاملاً سماه (الشعر واسطة للزواج). وذكر البطليوسي صاحب كتاب (الحلل في شرح أبيات الجمل): (أن المُحلّق الكِلابي كان خامل الذكر لا صيت له، وكانت له بنات لا يخطبهن أحد: رغبةً عنهن، فمر به (الأعشى)، فنحر له ناقة، لم يكن له غيرها، وأطعمه وسقاه، فلما أصبح الأعشى قال له: ألك حاجة؟ قال: نعم! - تشيد ذكري، فلعلني أشهر، ويرغب في بناتي، فنهض الأعشى إلى سوق عكاظ وأنشد قصيدة منها: [لَعَمْرِي لَقْد لاَحَتْ عيونٌ كَثيرةٌ *** إلى ضوء نار باليَفَاع تَحرَّقُ] [تشب لمقْرُرَيْن يصْطَليَانِها *** وباتَ على النّار النّدى (والمحلَّقُ)] فلم يمسِ (المحلّق) حتى خطبت إليه جميع بناته). من خلال الأبيات التي انشدها الأعشى تزوجت ثمان من بنات (المُحلّق الكِلابي) وقد قام بمصاهرته خيرة بيوتات العرب، وأكثرهم عزة ومنعة، ومن خلال هذه القصص والأبيات أدرك العرب ما للدعاية من أهمية للترويج لكل ما يمكن ترويجه. وقد تعدى الشعراء العرب مرحلة الدعاية للترويج عن الزواج أو أثارة الخوف في قلوب الخصوم، بل وصل بهم الحال إلى الترويج إلى سلعة تجارية كاسدة بقصد إيجاد سوق رائجة لتلك البضاعة فقد أورد صاحب كتاب الأغاني: (أن تاجراً من أهل الكوفة قدم المدينة المنورة بخمر (حجاب) فباعها كلها وبقيت السود منها فلم تنفق وكان صديقاً للشاعر (مسكين الدارمي) فشكا ذاك إليه وقد كان نسك وترك الغناء وقول الشعر فقال له لا تهتم بذلك فإني سأنفقها لك حتى تبيعها أجمع ثم قال: [قُلْ للمليحةِ في الخِمَارِ الأسودِ *** ماذا صَنَعتِ براهبٍ متعبِّدِ] [قد كان شَمِّر للصلاة ثيابَه *** حتى وقَفتِ له ببابِ المسجدِ] وقالوا فلم تبقَ في المدينة ظريفة إلا ابتاعت خماراً أسود حتى نفد ما كان مع العراقي منها). تُعَدُّ هذه الأبيات أول أبيات إعلانية للترويج لسلعة تجارية بائرة في السوق، كما سمي مسكين الدارمي بأنه أول شاعر للإعلان في التاريخ. فمن خلال هذه السطور استطعت أن أُسلط الضوء عن الدعاية والإعلان وبداية نشوئهما في الأدب العربي التي أولاهما الناس مكانة خاصة بعد أن أدركوا الأهمية التي تحضى بها تلك الرسائل الاتصالية.