اللغة العربية وأثرها الإسلامي في شبه القارة الهندية

 يقصد من شبه القارة الهندية جزءا أرضيا وسيعا في جنوب آسيا, وإن كانت بصورة دولة واحدة كبيرة في قديم الزمان قبل استقلالها من الإنجليز بصفة خاصة, فإنه يشتمل حاليا على الهند وباكستان وبنغلاديش. من حيث عدد السكان والناحية ...

بسم الله الرحمن الرحيم

 يقصد من شبه القارة الهندية جزءا أرضيا وسيعا في جنوب آسيا، وإن كانت بصورة دولة واحدة كبيرة في قديم الزمان قبل استقلالها من الإنجليز بصفة خاصة، فإنه يشتمل حاليا على الهند وباكستان وبنغلاديش. من حيث عدد السكان والناحية الجغرافية فإن شبه القارة الهندية بلاد واسعة بلغ عدد سكانها اليوم إلى أكثر من مليار ومائة مليون، ونحو الثلث من هؤلاء السكان هم المسلمون الذين بلغ عددهم اليوم في الهند وباكستان وبنغلاديش إلى نحو أربعمائة مليون نسمة. [1] أما نسبة المسلمين في هذه الدول الثلاث المستقلة فإنهم أكثر سكان البلد في باكستان وبنغلاديش، بل تعد بنغلاديش أكبر دولة مسلمة ثانية في العالم من حيث عدد السكان، غير أن المسلمين في الهند يعيشون كأقلية في بلدهم، وهم أصحاب لغات محلية، غير أن اللغة العربية كلغة الكتاب والسنة تحتل مكانة مرموقة بين سكانها المسلمين. ولسكان هذه البلاد واقع جغرافي تاريخي سياسي، أفاد المسلمين بصفة عامة، الشعراء والأدباء منهم بصفة خاصة مميزات نفسية عميقة، ما أعطتهم قريحة شعرية ومقدرة أدبية بيانية، ومن هنا انخرطوا في سلك الأدب الإسلامي ومارسوه ممارسة فعالة بلغاتهم المحلية من الأوردية والبنغالية وغيرها، غير أنهم لم يتخلفوا عن ذلك باللغة العربية أيضا، حيث اعتبروها لغة مصدر الأدب الإسلامي الأصيل: لغة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، فلم يزالوا في مسيرة الأدب العربي الإسلامي مع ركب الأدباء والشعراء الإسلاميين في البلاد العربية خاصة والعالم الإسلامي عامة.

          يجدر بالذكر أن شبه القارة الهندية موقعها الجغرافي بعيد جدا من جزيرة العرب ولغتها العربية طبعا، بينهما مسافة ساحقة، لا تمت إليها بصلة ما في العصور القديمة ولا يربط إحداهما بالأخرى قبل مجيئ الإسلام إلا تجارة أو مغامرة بحرية وذلك أيضا في بعض الأحيان، وبشكل جماعي أن القائد العربي محمد بن قاسم أول من اجتاحت جحافله إقليم السند من شبه القارة الهندية، وإن لم يكن أول من قدمه من العرب فقد قدمها قبله القائد الأموي المهلب بن أبي صفرة، وانساقت جيوشه فيها حتى بلغت مدينة لاهور. ولكن قيل إن محمد بن قاسم هو الذي أتم فتح هذا الإقليم وضمه إلى الدولة الإسلامية بعد إذ لحقت الهزيمة براجا داهر، وذلك في عام 712م، وعلى ذلك ارتحل العرب المسلمون إلى هذا الإقليم، وتوطدت لهم الإقامة في إقليم السند، وترتب على ذلك اختلاط اللغة العربية باللغة السندية، وكان للخط العربي تأثيره الملحوظ في الخط السندي.

          لكنه من الباحثين من يعود إلى ماض أبعد بشكل عام في هذا الصدد، فيقول إن العلاقات انعقدت بين العرب المسلمين وأهل شبه القارة الهندية قبل فتح المسلمين للسند بزمان طويل، ذلك أن العرب حتى قبل البعثة النبوية كانت تربطهم علاقات تجارية بالمناطق الساحلية في غرب شبه القارة الهندية، كما أن بعض القبائل العربية كانت تستوطن مالابور على الدوام، كما يذكر أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- أنفذ نفرا من أصحابه إلى ملك من ملوك الهند هو راجا سرهانك حاملين معهم دعوته إلى الدخول في دين الله، فأسلم وحسن إسلامه، وكان ذلك في العام السادس للهجرة، وكما ذكر بعض المؤرخين أن جالية عربية كانت تقيم في كليان على مقربة من مدينة بومباي قبل الإسلام.

          وفي القرن السادس الميلادي قطن عديد من تجار العرب والفرس في مناطق على الساحل الغربي للهند وأصهروا إلى أهل الهند، وراجت تجارتهم واتسعت ثروتهم وقوى نفوذهم واستمسكوا بدينهم. كما أسلم ملك مالابور مع أسرته، وكان ملوك الهند يحضون رعيتهم على اعتناق الدين الحنيف. ويؤيد هذا ما قال ابن بطوطة في رحلته من أنه ارتحل من كمهمبات إلى ساحل مالابور فشاهد المسلمين في كل الأرجاء وحالهم أحسن حال.

          ويستدل من هذا بما لا ريب فيه على أهل جنوب الهند تلقوا كثيرا من الألفاظ العربية عن العرب بفضل الدين القويم، وعليه فكان سكان الدكن في الأوردية بمعنى جنوب قد تأثروا بلغة العرب قبل فتح المسلمين لشمال الهند بدهر طويل. [2]

          ومن هنا انعقدت علاقة متينة بين العرب ولغتهم العربية وأهل السواحل في شبه القارة الهندية، وفي مقدمتهم كانت بومبائ ومالابور وشيتاغونغ وأركان وغيرها من المناطق المتجاورة لمحيط الهند وخليج البنغال، حيث تأثر سكانها بالعرب وثقافتهم الإسلامية ولغتهم العربية تأثرا عميقا.

وانطلاقا من مسيرة الفن والأدب لقد شهد تاريخ شبه القارة الهندية عوامل ثقافية، وعنصرية، وحضارية، وسياسية تفاعلت في ربوعها تفاعلا كبيرا عبر العصور، حيث أنها تعتبر مهد اللغات والثقافات والفلسفات القديمة. لكن صلة هذه القارة باللغة العربية وفنونها وآدابها عميقة وقديمة منذ قدوم الإسلام والمسلمين فيها. فإنهم لا يزالون يقرأون القرآن باللغة العربية، وهي لغة صلواتهم وعباداتهم، وهم يتعاملون اللغة العربية وآدابها تعاملا قلبيا دائما. ونتيجة لهذا التفاعل والتعامل تكونت مدرسة مستقلة ذات نفسية خاصة وطابع خاص في الأدب الإسلامي عامة وفي الأدب العربي الإسلامي خاصة، تمتاز بقوة العاطفة، ورقة الشعور، والدفق والعمق والقدرة على الضرب على أوتار القلب، وإثارة الحب والحنان، والتفنن في الأنغام والألحان، والحماس الإسلامي، وشدة التعلق بشخص النبي –صلى الله عليه وسلم- وبلديه المشرفين: مكة والمدينة، والجزيرة العربية الحبيبة، وابتكار معان وأخيلة وتعبيرات لم تسبق إليها. وقد أفاد هذه المدرسة الأدبية كون المسلمين في هذه البلاد في قلة دائما، وكونهم قد حكموا هذه البلاد ثمانية قرون على الرغم من كثرة عدد المحكومين من غير دينهم، واعتزاز هؤلاء المحكومين الزايد بفلسفاتهم وعلومهم التي لا يعدلون بها علما وفلسفة. [3]

كذلك شهدت بلاد شبه القارة الهندية جهودا كبيرة ملموسة في مختلف المواضيع باللغة العربية ولغات شعوبها المحلية خلال القرون والعصور، حيث نشأت نواة الأدب الطبيعي السلسال بمسحة إسلامية أو الأدب الإسلامي على حد المصطلح المعاصر، وإن كانت أكثرها تحت عنواوين غير أدبية صريحة وضمن مواضيع علمية وثقافية مختلفة، لكنها تحتوي على أدب طبيعي وكلام مرسل، وتعبير بليغ يحرك النفوس ويثير الإعجاب ويوسع آفاق الفكر، ويغري بالتقليد، ويبعث في النفس الثقة، ولا عيب فيه إلا أنه صدر عن رجال لم ينقطعوا إلى الأدب والإنشاء ولم يتخذوه حرفة ومكسبا، ولم يشتهروا بالصناعة الأدبية، ولم يكن لهذا النتاج الأدبي الجميل الرائع عنوان أدبي، ولم يكن في سياق أدبي، وإنما جاء في بحث ديني، أو كتاب علمي، أو موضوع فلسفي أو اجتماعي.

يقول العلامة أبو الحسن علي الندوي: " إن هذا الأدب الطبيعي الجميل القوي كثير وقديم في المكتبة العربية، بل هو أكثر سنا وأسبق زمنا من الأدب الصناعي، فقد دوّن هذا الأدب في كتب الحديث والسيرة قبل أن يدوّن الأدب الصناعي في كتب الرسائل والمقامات، ولكنه لم يحظ من دراسة الأدباء والباحثين وعنايتهم ما حظي به الأدب الصناعي، مع أنه هو الأدب الذي تجلت به عبقرية اللغة العربية وأسرارها وبراعة أهل اللغة ولباقتهم، وهو مدرسة الأدب الأصيلة الأولى." [4]

 ___________

[1] محمد الرابع الندوي، الملتقى الدولي الأول للأدب الإسلامي في موضوع رسالة الأدب والشهود الحضاري، (عدد خاص لمجلة المشكاة، 7-8-9 ستمبر1994م، الطبعة الأولى، عام 1998م)، ص/240.

[2] راجع: الأدب الإسلامي في شبه القارة الهندية الباكستانية، لجراهام بيلي، ترجمة وتعليق: د. حسين مجيب المصري، ص: 12-13.

[3] نظرات في الأدب، السيد أبو الحسن علي الندوي، ص: 77.

[4] مقدمة مختارات من أدب العرب، السيد أبو الحسن علي الندوي

شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2024

التعليقات

يجب أن تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب

يستغرق التسجيل بضع ثوان فقط

سجل حسابا جديدا

تسجيل الدخول

تملك حسابا مسجّلا بالفعل؟

سجل دخولك الآن
المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2024