نموذج في الصدق والأمانة
كانت الساعات والدقائق والثواني تنقضي بسرعة فائقة من غير عودة، وكادت تزول من غير رجعة، وكنت أتهيب أن تفوتني صلوة الظهر في مسجد عثمانية؛ فإني خرجت متوجها إلى بهادرآباد لأسقي عروقي وأعصابي، وأمعائي وأحشائي بشرب عصير السكر البارد، كما هي عادتي كل يوم بعد الخروج من المدرسة؛ لما نصحني والدي أن أواظب على شربه يوميا بعد ما أصابني من مرض الصفراء ما أصابني؛ إذ إنه مفيد لقوة معدتي وصلاح كبدي، فركبت دراجتي ووصلت إلى دكانه في بضع دقائق، فما إن شاهدني إلا وحمل قصب السكر، وأخذ يدخلها في ماكينة صينية متطورة لتخرج عصيرا حلوا صافيا من السكر، فما هي إلا كلمح البصر إلا وعصرت الماكينة القصب بكامله في وعاء مستطيل مثل البرنس، ثم عمد إلى الكأس، فصبه فيه، وجعل فيه المصصاصة، وتقدم إلي قائلا: ذق هذا العصير، كيف طعمه؟ فما إن شربته بالمصاصة إلا وشعرت بأن طعمه غير الذي أستمتع به سابقا، كما أن لونه كذلك مال إلى السواد، فأجبته: ليس طعمه اليوم كما كان في سالف الزمن، وكذلك اللون، فتوجس ما هجس في نفسه، ونبتت في نفسه فكرة، فاسترد مني الكأس قائلا: اصبر، حتى أعصر لك قصبا آخر في عدة دقائق، فعمد إلى قصب جديد، وعاينه أولا، فوجده مجوفا، ورمى به في السلة، ثم عمد إلى آخر، وقطعه ووجده طازجا، فعصره قائلا: لعنة الله على كسب قارن الغش والكذب والخديعة، وصبه في الكأس، وقدمه إلي قائلا: الآن فاشرب وتمتع! فعندما وضعته على شدقي وأفرغته في فمي أحسست به حلاوة وطلاوة وبرودة خالط لحمي ودمي وقلبي، وحمدت الله حمدا بصميم فؤادي وسويداء قلبي، وأثنيت على ذلك البائع العجوز، الذي فتح قلبي بصدقه وأمانته، والذي ترك أثرا جميلا لصفاته الطيبة، وقلما نجد مثل هذا الصدق والأمانة الذي وصلت منه بمثابة أنه صب العصير الأول وهو كأس مليئ بالعصير على الأرض بدون أي توقف وتردد، عندئذ تبين لي ماورد من فضل عظيم للتاجر الصدوق الأمين كما أخرجه الترمذي بسند حسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء.
فيالعظمة الأجر! ويالفخامة الفضل! فإن التاجر الصدوق يؤمن بربه ويثق بخالقه ورازقه وهو يبين عن غوامض العيوب في السلعة، ويكشف الستار عن مخبآت لم يظهر على المشتري في المبيع، فدفعت له الثمن وهو خمسون روبية، ودعوت لذلك التاجر من أعماق قلبي، وسلمت عليه وانصرفت إلى المسجد من حيث أتيت، سائلا المولى عزوجل أن يجعل تجارة المسلمين اليوم مليئة بالعدل والقسط، والصدق والأمانة، ولا يجعل أسواقنا يسودها الغش والخيانة، إنه على كل شيئ قدير، وبالإجابة حري وجدير.