الوداع! أيها المسافر
الوداع! الوداع! إن كلمة الوداع هي كلمة مختصرة غير أنها تضم في كنفها أكبر معانات، فإنها تحتوي على الحزن والهم والدموع والبكاء، حيث أنها في النطق سهلة إلا أنها تخلف وراء النطق ذكريات يذكرها الإنسان طوال حياته، ولا سيما استعمالها عند فراق من له علاقة لأجل الدين...
والجدير بالذكر إن استعمالها عامة إلى درجة أن كل واحد من الأكبر إلى الأصغر ومن الأصغر إلى الأكبر يستعملها حين يفارق من يعرفه أو من له علاقة لأجل الأخوة ولأجل الدين، فإن العلاقة التي تنشأ لأجل الدين هي أقوى بالنسبة إلى العلاقة لأجل الدنيا، ثم تسمع هذه الكلمة كل عام ولا سيما في نهاية الدراسة، وتترك أثرا قويا في القلوب حتى تتألم وفي العيون حتى تسيل بالدموع...
لكن لو نطقت خلال الدراسة فإن لها أيضا أثرا قويا حيث تجعل الناطق بالبكاء والسامع بالبكاء، بل قد يكون أثرها قويا، والإنسان لا يفرح بنطقه إلا إذا كان هنالك أمر اضطراري، فحينئذ يضطر إلى النطق بها، وتحمل المشاق التي تختفي في طي تلك الكلمة...
فأنا والإخوة الآخرون اليوم اضطررنا إلى استخدام هذه الكلمة المؤلمة، والتي تركت لنا ذكريات كثيرة، فإن بدأنا بتدوينها فعلى حد علمي الناقص إنها لا تنتهي والصفحات تسود من الحبر، والأمر من ذلك أنها أبكتنا جميعا، وإن لم تسقط قطرات الدموع على الأرض، بل نشفناها بمنشفة وبمنديل ورقي، أو اخترنا وسيلة من الوسائل لحماية الدموع من سقوطها على الأرض...
إنه جاء لعدة أيام، ثم سافر اليوم، وكأنه لم يكن معنا في صفنا، إنه طالب علم الذي قطع مسافة بعيدة لحصول العلوم الشرعية، ولم يبال بما عاناه من الصعوبات والمشاكل في سبيل حصول العلوم الشرعية، وبما أنه قد جاء في وسط السنة فالإدارة لم ترفض طلب قبوله، بل قبلته كدارس فيها، ثم من حسن الحظ إنه انضم إلى جماعتنا، فما كنا في بالنا أنه يسافر ويفارقنا بهذه السرعة، لكن قدر الله ما شاء، فإن له أيضا كانت مشاكل، قد أجبرته على المغادرة والمفارقة...
وأزيد على ذلك أن العلاقة التي كانت بيننا وبينه هي علاقة دينية وعلاقة طالب كطالب، فإنها ظاهرا لا تدوم إلا أنها لا تنسى طوال الحياة، فوالله إن هذه العلاقة لا يتأثر من بعد مسافة وقربها، بل تبقى تلك العلاقة حية بين الطلاب إلى أن نترك دنيانا، فحينئذ تتأثر...
وبما أنه قضى معنا مدة شهرين، فصار واحدا منا ومن بيننا، فعاملناه وكأنه أخونا، وحاول الجميع في سبيل راحته وسعادته، ولم يشعره أي واحد منا أنه يقدم له سعادة وراحة، ثم إنه كان بمنزلة الضيف الذي يستظل تحت سقف بيت ليلة وليلتين ثم يرحل إلى منزله، فمثل ذاك المسافر كيف يعامل؟ هذا الأمر واضح كوضوح الشمس، فالمعاملة تكون محتاطة مع مثل هذا الضيف.
فلما ودعناه اليوم، واستخدمنا كلمة الوداع! فإن الله يشهد أننا كنا باكين من داخل، لكن لم يسقط أي واحد منا قطرات الدموع أمامه حتى لا يتألم من أجلنا، وشعرنا وكأننا فقدنا من حياتنا أحد أفراد الأسرة، مثل الأخ، ثم هل نوفق مرة أخرى للقائه أم لا، لكنه أيضا كان مضطرا للذهاب، فسافر ...
فأنا شخصية والجماعة بأكملها نقدم إليه اعتذارا عن ما صدر منا، ونرجو منه جميعا أن يعفو عنا كل ما سبب له من سوء المعاملة، يذكرنا في دعواته ونحن لن ننساه ما دمنا أحياء، ونتمنى أن يكون اعتذارنا جميعا مقبولا لديه...