جائحة كورونا وواجب الساعة
مضت شهور والعالم مازال يجتاحه كورونا، وتعطلت المدارس والمعاهد الشرعية لدينا وقد كانت في مثل هذا الموسم مكتظّة بالطلاب، وتوقفت النشاطات العلمية والدراسية، وتأثرت شُعب الحياة الاجتماعية إلى حد كبير، وابتلي الناس بما لم يعهدوه منذ قرن أو أكثر، ولا يدري أحد ولا يقدر أن يتنبّأ إلى متى يدوم الابتلاء، ومتى ينتهي، ومتى سوف تستأنف عجلات النشاطات الاجتماعية حركتها الطبيعية من جديد كما كان قبل ظهور الجائحة.
لو كانت الجائحة تصيب بلدة واحدة لفزعت واضطربت كثيرا، لكنها عمّت وضربت البلاد الراقية ومهود الحضارة الغربية قبل البلاد النامية، مما سبّب تهوينها إلى حد كبير، وقديما قالوا: إذا عمّت البلية سهُلت.
ولقائل: ماذا ينبغي أن نفعل في هذه الأوضاع، سواء قصُرت مدة المعاناة أو طالت؛ هل نفزع ونعطّل أمورنا إلى أن ينجلي الأمر وينكشف البلاء، أو نأخذ في ممارسة جميع الأعمال والنشاطات، غير مبالين بما سيحدث، أم ماذا غير ذلك؟ حينما نراجع سيرة النبي الهادي إلى الخير والداعي إلى الحق، نجد أنه -صلى الله عليه وسلم- "لكل حال عنده عتاد"، فكان مستعدا لكل حالة تعتريه. وقد عاش في مكّة المكرمة ثلاثة عشر عاما وقاسى خلالها هو وأصحابه أنواع الشدائد من جوع وخوف وعسر واستهزاء وضيق، فلم يضعف ولم يستكن ولم يتهاون في أداء أي واجب.
إننا نرى كثيرا من الناس عندما يمرضون أو يبتلون بحالة غير عادية، يتركون كل شيء حتى الصلاة المفروضة ويعطلون كثيرا من نشاطاتهم، ويضيعون أغلى أوقاتهم في انتظار الحالة المطلوبة.
سأل ابن الكواء عليّا (كرم الله وجهه) هل تركتَ ليلة الصفّين الورد الذي أوصاك به النبي -صلى الله عليه وسلم- وكنت تواظب عليه كل ليلة، فقال: ثكلتْك أمُّك! لم أدعه حتى في تلك الليلة! بينما كانت الحرب على قدم وساق والسيوف تتقاطع والرؤوس تُقطع والدماء تُراق.
نعم، هكذا الرجال ذوو الاستقامة والمثابرة، وهكذا ذوو الهمم العالية وأصحاب العزائم الشامخة؛ يستعدون لكل حالة؛ ولهم عدّة لكل غُمّة وشدّة، وهكذا الناجحون، يغتنمون كل فرصة ولا يضيعون الأوقات واللحظات في ترقّب حالة مطلوبة لا يعرفون هل ينالونها أم يحرمونها.
سمعتُ بعض المشايخ أنّ رجلا إنجليزيا معروفا ركب سفينة وكان فيها مسلمون وغيرهم فواجهت السفينة عاصفة وكادت أن تغرق وارتفع الضجيج والعويل من الركّاب وحدث الاضطراب وفزع الناس كل ينتظر الموت. اللهم إلا ذلك الرجل الإنجليزي، فقد كان جالسا في زاوية من السفينة يطالع كتابا بهدوء؛ فجاءه رجل من المسلمين قائلا، ماذا تفعل يا رجل؟ هل هذا وقت المطالعة؟ أجاب الرجل الإنجليزي: ماذا حدث وماذا ينبغي أن أفعل؟ قال الرجل: ألا ترى السفينة تغرق والناس في فزع واضطراب! فأجاب: ولكنها لما تغرق؛ فلماذا أفوّت عليّ هذه اللحظات الباقية من الحياة؟ ولماذا لا أستغلها في عمل مفيد؟
ففي ضوء هذه القصّة وما في معناها، أقول للزملاء وإخوتي الطلبة وكل من تهمّه لحظات الحياة الغالية:
هل عندنا أهبة لهذه الحالة الطارئة؟
وهل برمجنا لأوقاتنا الفارغة؟
ألا يجدر بنا أن نخطط لاستغلال هذه الفرصة التي لا ندري ماذا حادث بعدها؟
ويحلو لي أن أنقل هنا للقراء الكرام كلمة لشيخنا العلامة المفتي محمد تقي العثماني (حفظه الله) عندما استنصتحه طائفة من علماء الهند من جامعة إشاعة العلوم، بشأن هذه الأيام فقال:
"إننا مشغولون طيلة العام الدراسي بالتدريس وإلقاء المحاضرات؛ وقلما نجد فرصة للمطالعات الحرة والنشاطات العلمية خارج المقررات الدراسية، فجائحة "كورونا" وإن كانت مصيبة ولكن الله سبحانه وتعالى قد يجعل في المصائب الدنيوية خيرا بحكمته، فجعل الربّ سبحانه في هذه الجائحة أيضا خيرا وهو أنه تيسرّت لنا فرص وفراغ لإنجاز أعمال ما كنا نقدر عليه في عامة الأحوال". ثم حدّث سماحته عن نفسه قائلا: "إنني أشكر الله سبحانه وتعالى على أنني وُفّقت لإنجاز أعمال كثيرة في زمن الحجر الصحي، ولولا هذه الفرصة لتأخرت وما اكتملت". (إلا ما شاء الله).
ثم نقل شيخنا كلمة عن والده المفتي محمد شفيع (رحمه الله) كبير المفتين بباكستان سابقا:
"يجب على المرء أن يصرف كل لحظة من لحظات حياته في عمل مفيد؛ سواء كان يفيده في الدنيا أو في الآخرة، ولا ريب أن تضييع الفرص والأوقات شيء مستنكر وضلال".
وعليه أيها الأعزة، يجب علينا الاهتمام بالأمور التالية:
- نفكر ونتشاور كيف نقضي أوقاتنا الراهنة حتى استئناف النشاطات المدرسية المعهودة. إن شاء الله
- نحاول إنجاز ما يجب علينا إنجازه من الأعمال المهمة.
- نطالع الكتب المفيدة في التاريخ، والسيرة، والفكرة الإسلامية؛ وقد أوصى شيخنا محمد تقي العثماني (حفظه الله) بمطالعة مؤلفات سيدنا الإمام أبي الحسن الندوي (رحمه الله) سيما كتابَيه" ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" و"الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية"؛ قائلا: إنّ مطالعة هذه الكتب تزيد الدعاة وشباب العلماء حماسا وبصيرة في مجال الدعوة، وتؤهلهم لمكافحة الأفكار الزائغة المعاصرة، وإعداد الجيل الجديد، ومخاطبة المثقّفين المعاصرين.
- يمكننا تشكيل مجموعات للمطالعة والمذاكرة الجماعية عبر وسائل التواصل الجديدة، وتبادل الآراء والمعلومات، ومشاركة حصيلة الدراسات.
- بإمكاننا تشكيل دورات تدريبية نشترك فيها ونتعلم ما نحتاج إليه من تنمية المهارات اللازمة.
- نخصص قسطا من أوقاتنا للعبادة والذكر والدعاء والاستغفار والتلاوة والتدبّر في الكتاب والسنّة.
- نهتمّ بإصلاح شباب الأسرة والعشيرة والجيران، ونتّصل بهم ونحثّهم على الأعمال المفيدة، محذّرين إياهم من الغفلة وسوء العمل.
- نمارس كل هذا ولا ننسى اتّباع وصايا الوقاية من كورونا، وكل ما يساعد على احتوائه.
ولنعلم أنه ما جاء كورونا لنتكاسل ونفزع ونستكين ونخضع أمامه، وإنما لنأخذ العبرة منه ونستعد لظروف أكثر صعوبة ومرارة من هذه؛ فالأيام حُبلى بالمفاجئات، وقد قال الشاعر العربي:
ستُبدي لكَ الأيامُ ما كنتَ جاهلاً ** ويأتيكَ بالأخبار مَن لم تُزوّدِ
حسبنا اللهُ ونعم الوكيل.
ولعلّ اللهَ يُحدِثُ بعد ذلك أمرا.
[فاتحة مجلة "الصحوة الإسلامية" العدد (١٤٠)، الصادرة شهريا عن جامعة دار العلوم زاهدان- إيران]