رحيل العلامة سعيد أحمد البالنفوري
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فضلوا وأضلوا». (متفق عليه)
يطل علينا هذا الحديث كلما فقدنا وارثا من ورثة الأنبياء وهم لم يورّثوا ديناراً ولا درهما، وإنما ورّثوا العلم، والعلماء هم الذين يرثون هذا العلم ويضطلعون بأعبائه، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، وكان آخر مَن فقدنا منهم المحدث، والفقيه والداعية الكبير، صدر المدرسين، وقدوة الفضلاء في أزهر الهند جامعة "دار العلوم ديوبند" الشيخ سعيد أحمد البالنفوري (رحمه الله تعالى وجزاه عنا وعن الأمة الإسلامية خيرا).
انتقل إلى رحمة الله صباح اليوم (الثلاثاء) 25 رمضان المبارك، عن عمر أناف على الثمانين، قضاه في خدمة الحديث النبوي الشريف والعلوم الإسلامية، فقد عاش يدرّس ويربّي، ويفتي يملي، ويؤلف ويحقق.
نهل من نمير أعيان العلماء وجلة المشايخ في الهند، ثم اشتغل مدرسا ومربيا إلى آخر أيامه، ليصبح ملتقى الوفود ومحطّ الرحال لأكثر من نصف قرن، يقتبس الشُداة من نوره ويغترفون من بحوره.
عني بالتأليف والتحقيق فزوّد المكتبة العلمية بآثاره العديدة الغزيرة، عمل على عدد من كتب الحديث شارحا كـ "صحيح البخاري" و"مسلم" و"سنن الترمذي" وغيرها. كما قام بشرح "حجة الله البالغة" للإمام ولي الله الدهلوي (رحمه الله) فيما سماه "رحمة الله الواسعة" وهو – فيما أظن- أول من بادر بشرح هذا الكتاب القيم العظيم، وله كتب أخرى جياد. كما كان له يد عليا في التزكية والإحسان.
إنّ سحاب علمه وعطائه لم يمطر في الأراضي الهندية وما جاورها فحسب، فلم تمنعه أشغاله العلمية ومهامه المدرسية عن السير في الأرض داعيا وخطيبا، فقام برحلات إلى أمريكا وأروبا والأقطار الأخرى، يجود بما حباه الله من علم وفضل وعطاء.
كان (رحمه الله) فردا من أفراد الدهر، من أرباب الاتساع في مختلف العلوم النقلية والعقلية، يضرب فيها بالسهام الغائرة، الأمر الذي يعظم فيه رزية الأوساط العلمية والدعوية وخاصة الديار الهندية وجامعة دار العلوم ديوبند على الوجه الأخص.
رماك الدهرُ بالحدَث الجليل
فعزِّ النفسَ بالصبر الجميل
وقف حياته لخدمة القرآن والسنة والعلوم الشرعية فألزم العالم الإسلامي وبخاصة بلاد الهند بذلك حقوقا جمة، وأيادي بيضا، مما يسبب له لسان صدق في الآخرين. وفي الأخير أرثيه بما رثى بعض الشعراء الإمام أبا العباس ثعلب النحوي عند وفاته:
فإن تولّى أبو العباس مُفتقَدا
فلم يمُت ذكرُه في الناس والكتُبِ
نسأل الله تعالى أن يرحمه، ويرضى عنه، ويرفع درجاته، ويملأ الثلمة الهائلة التي حدثت في صرح العلم جراء وفاته. وما ذلك على الله بعزيز.
سيد مسعود
إشراقة/ ٢٥ رمضان ١٤٤١