كيف ضاع ديوان الحماسة في مدارسنا؟!
إننا ندرس في مدارسنا الشرعية عددا لا بأس به من كتب الأدب العربي، ومن أفضل ما ندرس في مجال النظم "ديوان الحماسة" للشاعر الفحل أبي تمّام بن أوس الطائي(ت231 هـ) شاعر العصر العباسي، جمع فيه المقطّعات الشعرية الرائعة لعديد من الشعراء في مختلف العصور، مما وجده متلائما مع ذوقه الرفيع من حيث الشكل والمضمون.
يدلّ اختيار هذه المقطعات على ذوق أبي تمام وبراعته وطول باعه في اللغة حيث تتسم بحسن المعنى، وجزالة اللفظ، وجمال التشبيه، وعمق الفكر، وقوّة اللغة، وقد جمعتْ الحماسة بين دفّتيها كثيرا من أغراض الشعر العربي، بما فيه الحماسة، والمراثي، والنسيب، والهجاء، والمديح، وغيرها.
تعدّ حماسةُ أبي تمام أهمَّ اختيار شعري في تاريخ الأدب العربي، وفي مجال إثبات مكانتها تكفينا شهادة بعض المتخصصين والنقّاد: "أبو تمام في حماسته أشعرُ منه في شعره"، يأتي قولُهم هذا رغم ما يتّصف به شعر أبي تمّام هو الآخر من عمق وقوة وجمال.
ممّا يبعث على الأسف والقلق أن الطالب في مدارسنا ينتهي من دراسة هذا الديوان الرائع بعد عام دراسي كامل ولكنه لا يحفظ بيتا واحدا من المقطعات الشعرية الرائعة المودَعة ثنايا هذا الديوان المنقطع النظير، فيرضى من الغنيمة بالإياب !! وذلك لأن التركيز لدينا على حلّ لغات الأشعار باللغة الفارسية، دون عناية ولفت للأنظار إلى الأشعار نفسها وما تحوي من درر الألفاظ وكنوز المعاني، وهكذا بخسناه حقَّه.
هيّا بنا لنطوف ساعة في بعض الروضات الشعرية من هذا السِّفْر الماتع، بدءًا من المقطع الأول الذي يستهلّ به أبو تمّام ديوانه والشاعر وهو قريط بن أنيف يصف فيه ما يجب أن يكون عليه قومُه من نصرة للحق وشجاعة في لقاء العدو، ملقيا اللوم عليهم لأجل خذلانهم إياه:
لو كنتُ من مازنٍ لم تَستبح إبلي
بنو اللقيطة من ذُهْلِ بن شيبانا
إذاً لقامَ بنصري معشرٌ خُشــــنٌ
عند الحفيظة إنْ ذو لُوْثَةٍ لانـــا
قومٌ إذا الشرُّ أبدى ناجذيه لهم
طاروا إليه زَرافـاتٍ ووُحدانــــا
لا يسألون أخاهم حين يندُبُهُم
في النائباتِ على ما قال برهانـــا
يواصل الشاعر في عطائه ليأتي بما هو تقريظ في الظاهر وتقريع في الحقيقة فيذمّهم بطرف خفيّ:
لكنّ قومي وإنْ كانوا ذوي حسبٍ
ليسوا من الشرِّ في شئٍ وإن هانا
يَجزون مِنْ ظُلمِ أهل الظُلمِ مغفرةً
ومن إساءة أهل السوء إحسانـــا
كأَنّ ربَّــــك لم يخلُـــق لخَشْيَتِـــه
سواهمُ في جميع الناسِ إنسانــــا!
فليت لي بهم قوماً إذا رَكِبـــوا
شنُّوا الإِغَارَة فُرسانـا ورُكْبَانـــــا
انظروا إلى هذا الجمال والروعة في المعنى والموسيقى.
ثم يورد مقطعا للشاعر الجاهلي الفند الزمّاني:
صفحنا عن بني ذُهْـــلٍ/وقلنا القومُ إخــوانُ
عسى الأيامُ أن يَرجعْ/نَ قوماً كالذي كانوا
فلمّْا صرّح الشَّــــرُّ/وأمسى وهو عُريـانُ
ولم يبقَ سوى العدوان/دِنَّاهم كما دَانــوا
مشينا مشيَــةَ اللّيثِ/غَدَا واللّيثُ غضبانُ
فللشَّرِ نجـــاةٌ حيـــ/ نَ لا يُنجيك إحســـــانُ
إلى أن يأتي بقول السموأل الشاعر الجاهلي وهو بصدد تأصيل غاية من الغايات النبيلة في الخصال:
إذا المرءُ لم يَدنس من اللُؤم عِرضُـهُ
فكلُّ رداءٍ يرْتدِيــه جميــــلُ
وإنْ هو لم يَحمل على النفسِ ضَيْمَها
فليس إلى حُسن الثناء سبيلُ
تُعَيّـــرُنا أنّـا قليــــلٌ عَدِيدُنَــــا
فقلتُ لها إنّ الكرامَ قليـــــلُ
وما قلَّ منْ كانت بقايــــاهُ مِثْلَنـا
شبابٌ تسامى للعُلى وكهُولُ
وما ضرُّنا أنّا قليلٌ، وجارُنــا
عزيزٌ، وجارُ الأكثَرين ذليلٌ
وإنّا لَقَومٌ لا نرى القَتَل سُبّـــــــةً
إذا ما رأته عامـــرٌ وسلــولُ
يُقَرِّبُ حبُّ الموتِ آجالنــــــا لنا
وتَكْرَهُهُ آجالُــــهُم فتطــولُ
وما أُخمِدَتْ نـارٌ لنا دون طارِقٍ
ولا ذمَّنا في النَازِلين نزيــلُ
وكذلك مقطع الشاعر الإسلامي أبي الغول الطهوي:
فدتْ نفسي وما ملكتْ يميني
فوارسَ صدّقت فيهم ظنوني
إلى آخره.
ومقطع قطري بن الفجاءة من الشعراء الخوارج:
أقولُ لها وقد طارت شعاعا
من الأبطال ويحكِ لا تراعي
إلى آخره.
وما إلى ذلك من المختارات الشعرية البديعة الممتعة التي تطرب الحجر الأصم، ولا يمكننا التعرض لها في هذا التطواف العابر.
بالله عليكم أيها الأكارم، هل هذه المقطعات الرائعة التي تتناول موضوعات نبيلة من الشجاعة، والمروءة، والصبر، والكرم، والتعفف، هي مما يجدر بالطالب يمرّ به مرور الكرام ؟!
أرى من الضروري أن يتمّ اختيار مقطعّات وأجزاء من ديوان الحماسة على الأقل -لو لم يمكن تحفيظ الكل- ليحفظها الطالب ويُختبر منها، وميزةُ الحماسة التي تجعلها أنسب لغرض الحفظ أنها جاءت بالمقطعات الشعرية الصغيرة، على خلاف المعلقات السبع وغيرها مما يضمّ القصائد الطوال، فحفظ الأشعار مما يغرس في الطالب الذوق الأدبي، ويقدر على تنمية الملكة العربية فيه بما لا يقدر عليه سواه.
سيد مسعود
إشراقة/ 21 ربيع الثاني 1441