ها هي الجرة تعلمنا سر التفوق والازدهار
إن لله سبحانه وتعالى في خلقه سننا قد استن بها في حياة كل إنسان، ومن تلك السنة أنه لا يمنح الرفعة والشرف، والازدهار والقبول، والرقي والتطور لأي إنسان إلا إذا تحلى بصفات يحبها الله۔
فمن تلك الصفات ما هي سر الازدهار ورمز القبول عند الله ومودة في قلوب الناس، ألا وهو التواضع والخضوع القلبي، والاستيحاش التام عن كل ما يشوبه الكبر والاحساس بالترفع والتعلي والاستغناء عن الأكابر، مهما غزر علمه وتدفق نبعه وعلا صيته، ولكنه كلما ازداد علما وفقها ازداد تواضعا وتطامنا لابتغاء مرضاة الله، فهذا هو سر خلف كل نجاح حققه أحد من السلف، فإن القبول الواقعي لايتحقق لأحد إلا به، والازدهار الحقيقي الدائمي في هذه وتلك لاينال إلا بهذه الخصلة الطيية.
فإن التواضع من خصال كل تقي يخشى الله تعالى في سره وعلنه، والذي يرجو لقاء ربه والقيام بين يديه، وكل ما في الكون من خلائق الله فهو شاهد على هذا ففيه آيات تدعونا إلى التحلي بمثل هذه الصفات، وسيكتشف ذلك أمامنا إذا أمعنا النظر في مخلوقات الله سبحانه وتعالى كما قاله الشاعر، ولله دره :
وفي كل شيئ له آية.... تدل على أنه واحد.
انطلاقا مما ذكرنا؛ فإنا نشاهد الكثير من الآيات الكونية، وهي بمرأى منا ومسمع طول الليل والنهار، ولكن لانلقي له بالا، ولانقيم له وزنا في حياتنا، ولا نعتبر بها ولا نستخرج الدروس منها، بل ربما نتغاضى عنها ونتغافل.
فها هو ذا الجرة، لو توسمت النظر فيها وأعملت الفكرة في عملية سقائها الماء لنا لرأيت عجبا... تراه مليئة متدفقة بالماء وإنها لتهوي بفمهها إلى الكأس الذي هو أسفل منها، فتسقيه على غزارة وبلها بهذا التواضع والتطامن، وهذا هو السر في كونها عزيزة مكرمة لدى الناس لاسيما في القرى، فهم يحفظونها ويرفعونها إلى رؤوسهم حتى ينتفعون بها إذا شح الماء في المخزن... وهكذا كل قارورة إنما تروي ظمأ العطشان بعد ما تخضع فمها للكأس.
فكأنها تعلمنا أننا مهما بلغنا في العلم إلى ذروته وفي الفقه والفكر والأدب إلى قمتها وفي التقوى والزهد والعمل إلى سنامها فإنه يجدر بنا بل يلزم علينا أن نزداد إلى ذلك تواضعا وتطامنا بالقلب ابتغاء لمرضاة الله، واتقاء سخطه وعقابه. فإذا فعلنا ذلك فسوف يرزقنا الله رفعة وعزا، وشرفا ومجد، وازدهارا وقبولا من حيث لانحتسب.
فإن الشجرة المثمرة دوما تراها خاشعة مذللة دانية القطوف سهلة المنال، فترى الناس ملتفين حولها، مستمتعين بأكلها وثمارها، مستظلين بظلالها الوارفة، وأما التي لا ثمرة عليها تراها قائمة مستوية نائية القطوف صعبة المنال، وترى الناس عنها ناكبين وعنها شاغلين، ولذكرها مستكرهين.
فكن مثل الجرة يفيض ويجود بما فيه بإطراق عنقه إلى الكأس، ومثل الشجرة التي تثمر وتنفع الناس بإدناء قطوفها وتذليل أثمارها للناس، ترى غرائب صنع الله معك، وعجائب قدرته فيك، فهذا هو سر نجاحك وازدهارك، وهذا هو رمز لفلاحك في العاجل والآجل.
???? يوسف عبدالرحمن الخليلي
٢٧/ربيع الثاني/ ١٤٤١ ھ