تقول المعلمة: أنا أحبكم جميعا

وكانت لديها عادة أنها دائما تخاطب الطلاب قبل بدأ الدراسة "أنا أحبكم جميعا"، لكنها تدري أنها لا تقول الحقيقة، لأنها لا تحب الأطفال سويا.

      الآنسة عائشة كانت معلمة في إحدى المدارس الابتدائية الواقعة في مدينة صغيرة. وكانت لديها عادة أنها دائما تخاطب الطلاب قبل بدأ الدراسة "أنا أحبكم جميعا"، لكنها تدري أنها لا تقول الحقيقة، لأنها لا تحب الأطفال سويا.

     كان  هناك في الصف طفل لا يعجب الآنسة عائشة، وكان اسمه طارق، عند ما كان يحضر يكون أشعاره مبعثرة، مغبرة، وأزرار قميصه مفتوحة، وخلال المحاضرة لا يمكن أن يكون دماغه حاضرا في الصف، بل يكون سارحا في أفكار ما.

لكن بعد ما تنبه الآنسة عائشة ينتبه، لكن يبدو من عينيه أن طارق كان غائبا ذهنيا، وحاضرا جسديا في الصف.

     فبدأت الآنسة عائشة تكره يوما بعد يوم، وبمجرد دخوله الصف، يتعرض نقد معلمته، وينسب إليه كل مثال سيء.

     الأطفال يضحكون عليه والآنسة تشعر بالراحة في إذلاله، لكن طارق لم يرد على أي شيء أبدا.

الآنسة عائشة تظنه يبدو وكأنه صخرة لا حياة فيها، فكانت توبخه وتزجره، وهو ينظر إليها بمشاعره، ويطأطئ رأسه منحنيا.

     والآنسة بدأت تكرهه أشد كراهة، فعند ما انتهى الفصل الدراسي الأول، فحين إعداد التقارير كتبت الآنسة عائشة في تقرير طارق جميع مساوئه وعيوبه.

     فلما وصل تقريه إلى مدير المدرسة قبل أن يعرض على أبويه رأى تقريه، واستدعى الآنسة عائشة، وقال لها: ينبغي أن يكون هناك بعض التقدم في تقريره، وإلا سوف يكون أبواه يخيبان الأمل في طارق تماما.

     فقالت عائشة: " أنا آسفة، ولكن طارق هو طفل غبي وسيء، لا أعتقد أنني أستطيع أن أكتب شيئا عن مشروعه. والكراهة كانت واضحة من أعينها، وخرجت من مكتب المدير.

     فمدير المدرسة قدم خطوة غريبة، وهي أنه أرسل تقارير طارق القديمة بيد خادم، وطلب منه أنه يضعها على مكتب الآنسة عائشة.

في اليوم التالي عند ما دخلت الآنسة الصف رأت تقارير موضوعة على مكتبها، فتأكدت من تقلبات صفحاتها أنها لطارق، فأدركت أنها ستكون على نفس المنوال.

     لقد فكرت أنها تفتح تقرير الصف الثالث، ولم تكن تتوقع أن تقريره يفاجئها من خلال قراءة الملاحظات، فلما رأت أن التقرير كان مليئا بالتقدير، وبالمدح والثناء عليه، " لم أرى الطفل ذكيا  مثل طارق، وهو مطيع للغاية، ويحب الأساتذة والزملاء للغاية، وفاز طارق بالمركز الأول في الفصل الدراسي الأخير أيضا.

     وفتحت الآنسة تقريره في الصف الرابع في حالة من عدم اليقين، " لقد تأثر طارق من مرض والدته،  وينحرف تركيزه من الدراسة، ولقد عرفت والدة طارق أنها مصابة بمرض السرطان من المرحلة الأخيرة، وليس لديه في بيته أحد يعتني به، ولقد تسرى أثره العميق في دراسته، ولقد ماتت أمه فماتت حياته... يجب أن يتم حفظه قبل فوات الأوان".

     توقفت أنفاسها لبضع ثواني، وأغلقت تقاريره، وبدأت الدموع تسقط من أعينه واحدا تلو الآخر.

في اليوم التالي عند ما دخلت الآنسة عائشة الصف كررت نفس الكلمات أمام الطلاب، " أنا أحبكم جميعا" لكنها كانت تعرف أنها تكذب، لأنها اليوم تشعر الحب لطارق أكثر من الآخرين. وخلال المحاضرة حسب العادة طرحت سؤالا واحدا على طارق، فهو أيضا حسب العادة طأطأ رأسه، لكنه لم يجد زجرا ولا توبيخا من قبل المعلمة، ولا ضحكا من قبل زملائه، فرفع رأسه ناظرا إلى الأنسة عائشة، وهي كانت مبتسمة اليوم، فدعت طارق، وأخبرته الإجابة ثم طلبته منه أن يكرر نفس الإجابة ثلاث أم أربع مرات، فلما تكلم طارق رادا على إجابة السؤال بدأت الآنسة تصفق والطلاب جميعا بدأوا بالتصفيق تشجيعا لطارق.

     أصبح الأمر طبيعيا لليوم، فآنسة عائشة تجيب على كل سؤال له، ثم تطلب منه إعادته، فعاد طارق كما كان، وبدأ ينسب كل مثال جيد إليه، فبعد بضعة أيام الآنسة عائشة لم تكن بحاجة إلى إخبار إجابة لطارق، فإنه يكون مستعدا من قبل، فما إن يتوجه السؤال إليه يجبه فورا.

     كان يؤثر على الجميع، ويفاجئهم من خلال طرح أسئلة جديدة، وكانت ملابسه نظيفة، ويبدو بنفسه يغسل ثيابه.

     فبعد نهاية السنة المنتهية حصل طارق الرتبة الثانية، ففي حفلة الوادع جلب الأطفال هدايا جميلة للآنسة عائشة، ووضعوا ها على طاولة الآنسة.

فمن بين تلك الهدايا المعبأة بشكل جميل، هدية ملفوفة بورقة قديمة، وكانت واضحة أنها من قبل طارق، فالأطفال بدأوا يضحكون على ذلك، ولم يكن أحد يعرف ماذا في داخلها.

     فالآنسة عائشة قد سحبت تلك الهدية من بينها وفتحت  فوجدت فيها قارورة العطر الزجاجية المستعملة نصفها، وسوارا. فرشت على ثيابها وارتدت سوارا في يدها، فوجئ الأطفال بمشاهدة هذا المشهد.

وطارق أيضا لم يتمكن من الصبر، فتقدم إليها قائلا: بعد فترة  من الوقت اليوم أشم رائحة عطر أمي من ثيابك.

     بدأ الوقت يمضي لكن الآنسة عائشة كانت تتلقى رسالة من طارق في نهاية كل عام ، وكان يكتب فيها " إنني  التقيت  العديد من المعلمين الجدد هذا العام، لكنني لم أجد مثلك".

     ثم انتهت مدرسة طارق، وقد انقطعت سلسلة الرسائل، ومرت السنوات حتى تقاعدت الآسنة عائشة، فيوما من الأيام استلمت الآنسة رسالة طارق كتب فيها:

" سيكون زواجي في نهاية هذا الشهر، ولا أستطيع التفكير في الزواج  إلا بوجودك، وشيء آخر... لقد التقيت الكثير من أناس في حياتي... لا أحد مثلك.

فقط الدكتور طارق."

     وفي نفس الظرف كانت تذكرة الذهاب والإهاب أيضا، فلم تمكنت عائشة من الوقوف، بل استأذنت  زوجها، وسافرت إلى مدينة أخرى.

لقد تأخرت قليلا في الوصول إلى مكان حفلة الزفاف، وكانت تعتقد أن الحفلة قد انتهت، لكنها فوجئت عند ما رأت أن طارق ينتظرها عند البوابة، والتجار والعمال والأطباء بدأوا ينتظرون، ثم رأى الجميع أن المعلمة كلما قدمت نحو البوابة ضبط طارق اليد التي كانت ترتديها سوارا حتى الآن وأخذها مباشرة إلى المنصة.

     ومسك اللاقط للإعلان عن شيء، فقال: أيها الأصدقاء، كل واحد منكم كان يسألني دائما عن والدتي، وكنت قد وعدتكم جميعا أننا سوف نجتمع قريبا مع أمي، فها هي والدتي.

ملاحظة:

     أصدقائي الأعزاء، لا تجعلوا هذه القصة الجميلة منحصرة بين المعلمة والطالب، بل انظر حولك تجد العديد من الزهور مثل طارق، والذي يمكن أن تعطيه كل الاهتمام والحب واللطف، لتمنحه حياة جديدة.

أ.د.خليل أحمد


مجموع المواد : 506
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2024

التعليقات

يجب أن تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب

يستغرق التسجيل بضع ثوان فقط

سجل حسابا جديدا

تسجيل الدخول

تملك حسابا مسجّلا بالفعل؟

سجل دخولك الآن
المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2024