نظرة على شبهات حول التقليد والتمسك بالحديث (4)
الشبهة الثانية:
وقد احتج بعض الناس على بطلان التقليد بأقوال الأئمة، وقال: قد نهى الأئمة الأربعة عن تقليدهم، وذمّوا من أخذ أقوالهم بغير حجة، فقال الإمام الشافعي: مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل حزمه على عنقه وفيه أفعى تلدغه ولا يدري. وقال الإمام أحمد لبعض أصحابه: لا تقلدني ولا تقلدنّ مالكاً ولا الأوزاعي ولا النخعي ولا غيرهم، وخذ الأحكام من حيث أخذوا: من الكتاب والسنة.
والجواب أن نقول: إنه لا حجة له فيه؛ لأنه ما رواه عن الإمام الشافعي فليس فيه نهي عن التقليد، ولو قلنا: إن فيه ترغيباً إلى التقليد لكان أولى؛ لأن الحجة للمجتهد الأدلة الشرعية مثل الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ولغير المجتهد قول المجتهد العارق البصير. وأما إذا اجتهد وقصد اتباع الحجة فلا يُؤمن عليه أن يزعم غير الحجة حجةً كحاطب ليل يأخذ الأفعى بظنه أنه حطب فتلدغه. فمثل المجتهد كالخريت الماهر يسلك الطريق ببصيرة نفسه، ومثل المقلد كمثل غير العارف بالطريق يسلك خلف الخريت الماهر، ومثل الغير المجتهد المقلد لنفسه كمثل حاطب ليل، فهو حجة لنا لا له. (قواعد في علوم الفقه، صـ 15)
وأما ما ذكره من أن الإمام أحمد –رحمه الله تعالى- نهى عن تقليده وتقليد غيره فقد قال الإمام الشعراني –رحمه الله تعالى-: هو محمول على أن من أعطي قوة الاجتهاد، وأما الضعيف فيجب عليه التقليد وإلا هلك وضلّ. (رحمة الله الواسعة شرح حجة الله البالغة، 2/666) وهذا لا يخفى على من له عقل وشعور كضوء الشمس من النهار.
ولو كان التقليد منهياً عنه ما أفتى المفتون بل قالوا للمستفتي: اجتهد كما نجتهد، واعلم الحكم من الأدلة الشرعية ولا تسألنا، ومعلوم أنه لم يكن كذلك في قرن من القرون، بل كان أناس يستفتون وناس يفتون، فعلم منه أن مسلك التقليد متعارف من السلف. ومسلك الاجتهاد لغير المجتهد –كما في زماننا وبيئتنا- مُحْدث ابتدعه الجهال الذين هم كحاطب ليل بظنهم غير الحجة حجةً والأفعى حطباً.
والعجب كل العجب أنهم يذمون التقليد ومع ذلك يدعون الناس إلى تقليدهم في ترك التقليد، وإذا عرفتَ –أيها القارئ الكريم- حالَ كلام الإمامين الشافعي وأحمد عرفتَ حال كلام غيرهما.
الشبهة الثالثة:
نقل مُصنِّفان في كتابهما بعض كلام المحدث الشاه ولي الله الدهلوي –رحمه الله تعالى- ظاهره ذم التقليد –بزعمهم- من كتابه ((حجة الله البالغة))، فأوهما الناس أن هذا المحدث الذي لقبتموه بالإمام الأكبر وحكيم الإسلام ومجدد الملة وهكذا وهكذا، وكان هو ممن يذم التقليد وينهى عنه، فكان لكم أن تقلدوه في ترك التقليد!
والجواب: أن هذا العبد الحقير الفقير إلى فضل ربه القدير الخبير لما طالع خاتمة الكتاب المشار إليه حاك في نفسه: ألسنا نسلم المحدث الدهلوي إماماً ومجدداً؟ أليس هذا الإمام يذم التقليد وينهى عنه؟ فكيف الأمر؟ فجعلت طالعتُ ((حجة الله البالغة)) للدهلوي واستراحت نفسي بأنه كان مقلداً محققاً لمذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى. والآن نحن بصدده.
قال الأستاذ الجليل فضيلة مولانا المفتي سعيد أحمد البالنبوري –حفظه الله تعالى ورعاه-: إن مِن أصْرَحِ ما يستدل به على كونه ((حنفيا)) أنه نفسه قد ادعاه، وأقر به في تحرير له بقلمه؛ فإنه قد توجد في المكتبة لخدا بخش بعظيم آباد (بتنه) نسخة لصحيح البخاري التي لها أهمية كبرى،؛ فإنها قد استعملت في درس الإمام وقرأها عليه تلاميذه. فكتب عليها الإمام الدهلوي –رحمه الله تعالى- بيده سلسلة إسناده إلى الإمام البخاري بالعربية..... وأخيراً قال: "وكتبه بيده الفقير إلى الله الكريم الودود، ولي الله أحمد بن عبد الرحيم بن وجيه الدين معظم بن منصور بن أحمد بن محمود، عفا الله عنه وعنهم، وألحقه وإياهم بأسلافهم الصالحين، العمري نسباً، الدهلوي وطناً، الأشعري عقيدةً، الصوفي طريقةً، الحنفي عملاً، والحنفي والشافعي تدريساً... وكان ذلك يوم الثلاثاء لثالث وعشرين من شوال سنة 1159 هـ." وقد كتب الشيخ رفيع الدين الدهلوي بن الإمام المحدث الدهلوي تحت العبارة المذكورة ما معناه: "لا شك أن هذا التحرير بيد والدي المحترم، كتبه الفقير محمد رفيع الدين." (العون الكبير شرح الفوز الكبير، صـ 19-20، مكتبة حجاز، ديوبند)
فثبت بصراحةٍ أن المحدث الدهلوي كان مقلداً حنفياً محققاً، بل كان هو أيضاً من القائلين بضرورة التقليد، لا سيما في هذه الأزمنة الأخيرة، وكان يدافع من يذم التقليد ويتفوه بتحريمه. وهذا كله يدل عليه ما ذكره في تتمة القسم الأول من كتابه ((حجة الله البالغة)). وها نحن ننقل كلامه بطوله؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحى من حي عن بينة:
قال –رحمه الله تعالى-: "فصل: ومما يناسب هذا المقام التنبيه على مسائل ضلّت في بواديها الأفهام، وزلّت الأقدام، وطغت الأقلام. منها: أن هذه المذاهب الأربعة المدوَّنة المحرَّرة اجتمعت الأمة –أو من يعتد به منها- على جواز تقليدها إلى يومنا هذا؛ وفي ذلك من المصالح ما لا يخفى، لا سيما في هذه الأيام التي قصرت فيها الهمم جدّاً، وأشربت النفوس الهوى، وأعجب كل ذي رأي برأيه.
فما ذهب إليه ابن حزم، حيث قال: التقليد حرام (فسرد دلائل ابن حزم، ثم قال) إنما يتم فيمن له ضرب من الاجتهاد ولو في مسألة واحدة، وفيمن ظهر عليه ظهوراً بيناً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكذا أو نهى عن كذا، وأنه ليس بمنسوخ: إما بأن يتتبع الاحاديث وأقوال المخالف والموافق في المسألة، فلا يجد لها نسخاً، أو بأن يرى جمّاً غفيراً من المتبحرين في العلم يذهبون إليه، ويرى المخالف له لا يحتج إلا بقياس أو استنباط أو نحو ذلك. فحينئذٍ لا سبب لمخالفة حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلا نفاقٌ خفي أو حمق جلي. وهذا هو الذي أشار إليه الشيخ عز الدين بن عبد السلام (فسرد قوله وقول غيره، ثم قال) وليس محله: فيمن لا يدين إلا بقول النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعتقد حلالاً إلا ما أحلَّه الله ورسوله، ولا حراماً إلا ما حرَّمه الله ورسوله، ولكن لما لم يكن له علم بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بطريق الجمع بين المختلفات من كلامه، ولا بطريق الاستنباط من كلامه، اتبع عالماً راشداً على أنه مصيب فيما يقول، ويفتي ظاهرا متبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ظهر خلاف ما يظنه أقلع من ساعته من غير جدال ولا إصرار، فهذا كيف ينكره أحدٌ؟ مع أن الاستفتاء والإفتاء لم يزل بين المسلمين من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا فرق بين أن يستفتي هذا دائماً، أو يستفتي هذا وذلك حيناً بعد أن يكون مجمعا على ما ذكرناه. كيف لا؟ ولم نؤمن بفقيه أيّاً كان أنه أوحى الله إليه الفقه وفرض علينا طاعته وأنه معصوم؛ فإن اقتدينا بواحد منهم فذلك لعلمنا بأنه عالم بكتاب الله وسنة رسوله، فلا يخلو قوله إما أن يكون من صريح الكتاب والسنة أو مستنبطاً عنما بنحو من الاستنباط أو عرف بالقرائن أن الحكم في صورة ما منوطة بعلة كذا، واطمأن قلبه بتلك المعرفة، فقاس غير المنصوص على المنصوص فكأنه يقول: ظننتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كلما وجدت هذه العلة فالحكم ثمة هكذا، والمقيس مندرج في هذا العموم، فهذا أيضا معزوّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن في طريقة ظنون. ولولا ذلك لما قلّد مؤمن بمجتهد، فإن بلغنا حديث من الرسول المعصوم الذي فرض الله علينا طاعته بسند صالح على خلاف مذهبه وتركنا حديثه واتبعنا ذلك التخمين فمن أظلم منا؟ وما عذرنا يوم يقوم الناس لرب العالمين؟!." انتهى كلام الدهلوي رحمه الله تعالى ورضي عنه. (راجع: حجة الله البالغة، 2/644-654)
أيها القارئ الكريم –رعاني الله وإياك- إني حينما طالعتُ ((حجة الله البالغة)) إلى جانب نُقُول المصنِّفَين المشار إليهما من قبل تجلى لي من غير خفاء، وخطر ببالي من غير سوء ما قاله الإمام وكيع بن الجراح رحمه الله تعالى: أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم. (سنن الدارقطني، 1/26، دار المحاسن، القاهرة) وكيف لا؟ فإنهم قاموا بتمزيق صفوف المسلمين وتشتيت كلمتهم، وإيقاع التفرق بينهم وتشقيق وحدتهم! وجعلوا –كلهم أو جلهم- رزقهم أنهم يطعنون على جماهير المسلمين المقلدين، بل على الأئمة المتبوعين!! وهم يتفوهون بأن المقلدين صاروا بتقليدهم مشركين بالله حيث جعلوا أئمتهم محرِّمين ومحلِّلين!! وقد ردّ المحدث الدهلوي رحمه الله تعالى على هذا الافتراء وهذا التخمين بأن قال في كتابه العظيم ((حجة الله البالغة)): وأما نسبة التحليل والتحريم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبمعنى أن قوله أمارة قطعية لتحليل الله وتحريمه، وأما نسبتها إلى المجتهدين من أمته فبمعنى روايتهم ذلك عن الشرع من نص الشارع أو استنباط معنىً من كلامه. (حجة الله البالغة، 1/625)
محفوظ أحمد: كاتب إسلامي، خطيب في لندن.