بين الإلحاد في بنغلاديش وبين تاريخ روسيا الدينيّ

     إن الإلحاد أوّل معول لهدم صرح التوحيد والألوهيّة، والملحدون أكثر الناس كفرانا لنعم المنعم و أكثرهم نقصًا في الغيرة، ولذلك كان الناس في القديم- رغم الشرك بالإله الواحد والخلل في العقيدة والإيمان- لا يتجرّؤون على إنكار وجوده بتاتا، ...

فضيلة الشيخ أيرات أمياتوف (روسيا)
جامعة الملك سعود، الرياض،  السعودية

     إن الإلحاد أوّل معول لهدم صرح التوحيد والألوهيّة، والملحدون أكثر الناس كفرانا لنعم المنعم و أكثرهم نقصًا في الغيرة، ولذلك كان الناس في القديم -رغم الشرك بالإله الواحد والخلل في العقيدة والإيمان- لا يتجرّؤون على إنكار وجوده بتاتا، فقد كتب مؤلفٌ إغريقي شهير "بلوتارخ" قبل ألفي عام تقريبا: لقد وُجدت في التاريخ مدنٌ بلا حصون، و مدنٌ بلا قصورٍ، ومدنٌ بلا مدارس، ولكن لم توجد أبدًا مدنٌ بلا معابد.

     فعندما جاءت نهضة العلوم الحديثة و تطوّرت أوربا في العلوم المادية والتكنولوجيا البحتة تطورا هائلا، انقلبت ظاهرة الإلحاد رأسا على عقبٍ، و تبدّلت موازين عقل الناس و رأيهم، فبدؤوا يُنكرون وجود خالقٍ للكون جهارا و نهارا، و يتّهمون الدين بـ ’أفيون الشعوب‘، و يُعلنون موت الخالق الأعظم!  ثم زادَ الطين بلةً ظهورٌ متتابعٌ في أوربا و شرق آسيا لكثير من المذاهب الاقتصادية والفلسفية والعلمية الملحدة التي لم يكن فيها نصيبٌ للخالق والإله، وهكذا في غضون مائة عام انتشر الإلحاد في شرق العالم و غربه، وأصبح أكبر تحدّيات للأديان بأجمعها.

     أنا بنفسي لا أعرف كثيرا عن الإلحاد في بنغلاديش،  ولكنني لا أشكّ أنه قد أصبح اليوم فيها فتنةً كُبرى تحرق إيمان الناس و تبتلع روحانياتهم، وشكّل عائقا أكبر في وجه الأديان و تطوراتها، بل أنا أتقدم و أقول: و إن كانت بنغلاديش لا تُساوي روسيا أو  الصين في  الإلحاد واللادينيّة، إلا فإنها أصبحت الآن لا تتخلّف عن هذه الدول الملحدة كثيرا، فالإحاد فيها على طريق التطوّر والارتقاء، والدين والالتزام على طريق التوتّر والانقراظ!

     لا أشكّ أن علماء بنغلاديش ليسوا بغفلة عن هذه الظاهرة الخطرة النكراء، ولكنّني أشكّ أنهم أولوا إليها من اهتمامهم الحظّ المناسب وجهّزوا لمقاومتها تجهيزا كاملا، فنحن نشاهد كل يوم عبر الشبكات والقنوات وجوه الملاحدة فيها ونسمع هديرهم و ضجيجهم، بينما نجد وجوه العلماء شاحبةً  لا تكاد تُرى و أصواتهم منخفضة لا تكاد تُسمع!

     إن العالم على تغير مستمر، فأيامنا تختلف عن أيام رسول الله صلوات الله عليه وسلامه، بل عمّا كانت عليه الدنيا قبل خمسين عاما، فلماذا لا تتغيّر أساليب الدعوة و التوجيه والإرشاد، لا شك أن الإسلام حقٌّ، والأديان من دونه باطلةٌ،  لكنّ الحقّ  لا يكفيه أن يكون حقًّا، بل لا بدّ من إحقاق الحق و إبطال الباطل بين يدي الناس، وهذا من سنّة الله تعالى في الكون، فكلما ارتفع صوت الحق انخفض دونه صوت الباطل، وكلما لمع التوحيد بسنى وجهه و نوره بات الإلحاد أمامه شاحبا كالحا.

     التمسّك بالمساجد والمدارس والقيام بعبء التدريس والتعليم و الاستمرار في الرحلات الدعوية لا شكّ – رغم قِدَمها- من أساليب الدعوة ومن أكبر آلاتها منذ طويل من الزمن، ولكن ماذا يضرّ بنا أن نستخدم الأساليب الجديدة للدعوة والإرشاد، وأن نسخِّر الأسلحة والآلات التي يستخدمها الملاحدة لنشر الإلحاد والضلال نسخِّرها لنشر الهدى والرشد؟

     فبعلمي أن العلماء البنغلاديشيين لم يتمكّنوا حتى الآن من أخذ زمام هذه الآلات والأسباب أخذًا قوياً، ولم يصبحوا يسخِّرونها لصلاح الدين ونشر الخير واليقين، بل أقول:  إن علماء بنغلاديش في مرحلة ابتدائية أو متوسِّطة بينما الملاحدة قد انتهوا من دكتورة هذا المجال!

     إن ظاهرة الإلحاد في بنغلاديش تذكِّرني دائما عن تاريخ دولتنا روسيا الدينية- تاريخ الظلم والقمع وتاريخ الطغيان والاضطهاد، فروسيا من أكبر دولة و أكثرها احتضانا للآثار الإسلامية القديمة و تاريخ انتصار الإسلام على الدنيا و ازدهاره في الحضارة، وقد أنجبت من أعلام الإسلام و عباقرته و وأنجزت للدين إنجازات  قد تعجز عنها كثيرٌ من الدول الإسلامية، فهاهو الإمام البخاري- ناهيك به عن أعلام الإسلام و جهابذته!

     ولكن هذا التاريخ الباهر اللماع لم يغنِ عنّا شيئا عندما اقتحم علينا الإلحاد في ثوب الشيوعية تارةً و الاشتراكية تارة أخرى، فطغى علينا في كل مكانٍ و غزانا في كل جبهةٍ، و سلبنا كل ما لدى أجدادنا من دين و روح و معنويات، وهذا الذي أنا أخاف منه على مستقبل بنغلاديش وعلمائها بل و مسلميها جميعا، فكثرة المساجد و المدارس و تواجد العلماء بعدد كبير فقط لا يضمن للإسلام البقاء على الأرض، بل الجهاد والاجتهاد، والفداء والعطاء، واستخدام الآلات والمخترعات الجديدة، واستغلال الأنماط والأساليب الدارجة المعاصرة هي التي مفتاح البقاء لأي حركة و سرُّ الخلود  في الأرض، فالدعاء إذا لم يصادفه الدواء لا يرجى الشفاء من الداء، هذه المصادفة هي التي تهدي المريض المنهوك و تُوصله إلى الصحة و الإبلال.

شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025

التعليقات

يجب أن تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب

يستغرق التسجيل بضع ثوان فقط

سجل حسابا جديدا

تسجيل الدخول

تملك حسابا مسجّلا بالفعل؟

سجل دخولك الآن
المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025