التضامن الإسلامي: المتطلبات والتحديات
أقامت رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة برعايةٍ من خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، مؤتمرا كبيرا للتضامن بين المسلمين، حضره مئاتٌ من العلماء ورجالات العمل الإسلامي بالعالمين العربي والإسلامي، وفي المغَتَربات. وقد اطّلع المشاركون على وجوه وأبعاد عمل الرابطة، والمؤسسات التابعة لها، في هذه الفترة. كما تحدّث كثيرٌ من المشاركين عن عملهم هم في سُبُل التضامُن والوحدة. أمّا المحاضرات الأخرى فانصبّت على التشخيص وإيضاح المتطلبات. وقد خالطت اللوعة عروض بعض المحاضرين، الذين كانوا يصِفون الواقع، ويطالبون بحلولٍ عمليةٍ وسريعة.
وقد اخترتُ في محاضرتي التي كانت مخصَّصةً للجهود والاستشراف، التركيز على التحديات الداخلية التي تُواجهُ وحدةَ المسلمين وتضامُنَهم في هذه الحقبة بالذات، وتشكل عوائق وعقبات لا بد من تجاوزها.
حدَّدتُ العوائق والعقبات أمام الوحدة وبالتالي التضامن في ثلاثة أمور أو ظواهر: ظاهرة الإسلام السياسي، وظاهرة الإسلام الجهادي، وظاهرة الفرقة والصراع بين الشيعة والسنة. في الأمر الأول أو الظاهرة الأولى ذكرتُ أنه عبر العقود الماضية جرت عمليات تحويل مفهومية في قلب الإسلام، بحيث صار هناك جمهور يعتقد أن الدين الإسلامي، يملك - بمقتضى الاعتقاد - مذهبا سياسيا، يكون من الضروري أن يتولى السلطة لتُستعادَ الشرعية، ويتحقق «تطبيق الشريعة». وهذا الأمر مُخالفٌ للتجربة الإسلامية الكلاسيكية والحديثة، كما أنه مُخالفٌ في الأصل للأصول الاعتقادية لأهل السنة والجماعة. فالإمامةُ أو النظام السياسي عند أهل السنة ما كان من أصول الاعتقاد، بل كان أساسُ الإمامة الاختيار من الناس، اعتبارا للمصالح، واجتهادا في إقامة الحكم الصالح. فنظام الحكم مَدَني، وشرعيتُه مستمدةٌ من الأمة، ومهمته إدارة الشأن العام أو القيام «على الأمر بما يُصلحُهُ» بحسب تعبير الفقهاء الحنابلة على وجه الخصوص. أما الذي صار متداوَلا بعد التحويلات المفهومية للإسلاميين المعاصرين، فهو أن الدين يقتضي إقامة سلطةٍ بصيغةٍ معيَّنةٍ (الخلافة أو غيرها)، وأنه إنْ لم يحصُلْ ذلك، فإنّ الشرعية تكونُ منعدمةً، ولا بد من التحرك والتحزب لإحقاقها!
إنّ المشكلة التي نواجهها سياسيةٌ واجتماعيةٌ وثقافية، وليس لها حلٌّ ديني، بل العكس. بمعنى أن إسلاميي الحاكمية نقلوا المشكلة من نظام الحكم، والطرائق الصالحة في إدارة الشأن العام، إلى مشكلةٍ في الدين ومعه، واشتباكٍ بينه وبين الدولة. فبدلا من أن يكونَ سبيل الخروج من المأزق هو التغيير السياسي لإصلاح إدارة الشأن العام، صار المطلوب إعادة الشرعية (الدينية) إلى الدولة والمجتمعات! ولأنّ الموضوع كان ولا يزال تحقيق الوحدة والتضامُن؛ فإنّ الإسلام السياسي هذا يجعل من الدين - وهو أساسُ السكينة في المجتمعات - موضع نزاعٍ وتنازُعٍ وتنافُسٍ في عمليات الصراع على السلطة باسمه. وهذا الأمر تنبأ به كثيرون من قبل، لكنه ظهر ظهورا بيِّنا بعد اندلاع حركات التغيير العربية، حيث اشتدّ النزاع باسم الدين على السلطة، وصار من الضروري، إبقاءً على الدين ووحدته، وعلى سكينة المجتمعات ووحدتها، إخراج الدين من بطن الدولة، وفكّ الاشتباك المصطَنع بينهما. فالإسلام السياسي مُضرٌّ بالدين بالدرجة الأُولى، أكثر من إضراره بالدولة وإدارة الشأن العام. لقد كان الناس يخافون من الدولة، وهم الآن يخافون عليها!
أمّا الأمر الآخر أو الظاهرة الثانية، والتي سميتُها ظاهرة الإسلام الجهادي، فأساسُها الخوفُ على الدين، من العالم الخارجي أولا، ثم من الدول والمجتمعات المسلمة! وعندما بدأ العنف باسم الإسلام في السبعينات من القرن الماضي، ما كان هناك تنظيرٌ كثيرٌ له، وانصرفنا لفهمه باعتباره ردا على السياسات الدولية، وعلى الأنظمة السياسية المتسلطة، شأن اليساريين المتطرفين في الستينات والسبعينات في أوروبا واليابان. ثم تنبهْنا جميعا إلى أنّ هناك ثقافةً عنفيةً متصاعدةً بين فئاتٍ من شبابنا، تنطلق من التكفير وإحلال الدم، والولاء والبراء. وهكذا وعبر أقلّ من ثلاثة عقود، حوَّل الجهاديون الجدد الإسلام إلى مشكلة عالمية، كما أنهم قسّموا الداخل المسلم إلى مؤمنين (هم وحدهم تقريبا)، وكافرين تنبغي مجاهدتهم! فالانتحارياتُ هذه - شأنها في ذلك شأن الإسلام السياسي - هي انشقاقٌ في الدين، وتهديدٌ حاضرٌ لدين المسلمين ومجتمعاتهم، وظاهرةٌ أو ظواهر يصعُبُ معها مهما ضؤل أنصارها أن تسودَ الوحدة والسكينة، والعلاقات الطبيعيةٌ مع العالم. لقد كان الناس يخافون على الدين، ويوشكون الآن أن يخافوا منه!
والظاهرةُ الثالثةُ الشديدةُ الإخلال بالوحدة والتضامُن هي ظاهرةُ الصراع بين الشيعة والسنة. فالتحويلات المفهومية الصحوية والجهادية التي جرت في أوساط أهل السنة عبر العقود الماضية، جرت تحويلات مثيلة لها لدى الشيعة. فصحيحٌ أن الإمامة - بخلاف اعتقاد أهل السنة - هي ركنٌ من أركان الدين عندهم، لكنها كانت مؤجَّلةً لحين عودة أو ظهور الإمام. إنما وبالتوازي مع التحويلات المفهومية عند أهل السنة، حضرت الإمامة عند الشيعة الإمامية، وصار الفقيه هو الحاكم بدلا من أن يكون حارسَ الانتظار! ومنذ سنواتٍ وسنواتٍ تُطبق الدولة القومية الإيرانية بقبضتها على عُنُق المذهب وتُطلقُهُ للتخريب في العالمين العربي والإسلامي. وهناك اليوم تنظيماتٌ مسلَّحةٌ إيرانية التبعية تضرب في أربعة بلدانٍ عربية: العراق وسوريا ولبنان واليمن. وقد هبَّ في وجهها الانتحاريون والجهاديون السنة. فنشبت الحرب الشيعية - السنية في كل مكان، وزادت الانقسامات الدينية حدَّةً وشراسةً وإجراما، وباسم الشيعة والسنة. وإنه ليبلُغُ من سوء العلائق والقطيعة بالداخل الإسلامي أنّ مراجع الشيعة الكبار ما قالوا شيئا عن ذهاب ميليشيات شيعية بقيادةٍ إيرانية للقتال في سوريا مثلا. كما أننا لم نشهد مبادراتٍ ملحوظةً أو بارزةً من الطرفين لتهدئة الصراع، أو الفتوى بحرمة الدم والعِرْض والمال!
ما العمل في وجه هذه الأهوال التي تواجهُ المجتمعات العربية والإسلامية، والبلدان العربية على وجه الخصوص؟
لقد رأيتُ أننا نحن أهل العلم والدين، والقائمين على المؤسسات الدينية والعلمية، والمنتشرين في ديار الاغتراب حيث يظهر التشدد بين شبان المسلمين فيها، نستطيع القيام بأعمالٍ كبيرةٍ وجليلة لمواجهة هذه الظواهر الشاذّة، والمهدِّدة للوحدة والتضامُن. ولستُ أزعم بالطبع أننا نستطيع التصدي للهجمة الإيرانية، أو للاختلالات الأمنية، فهذا عمل الدول والأنظمة. لكن بقيت لنا مهمات ووظائف: قيادة العبادات، والفتوى، والتعليم الديني، والإرشاد العام. نحن نستطيع مكافحة ظواهر التكفير، ونستطيع ونملك أن تكون التربية الدينية تربيةً على الوحدة والتضامُن، وعلى أنّ المسلم مَنْ سلم الناس من لسانه ويده. وإذا توافرت لنا الفُرَصُ والاستعدادات وإمكانيات التأهل، وسط الظروف الجديدة لحريات الحِراك في المؤسسات والمعاهد العلمية، نستطيع إطلاق نهوضٍ ديني للتصدي لتحويلات المفاهيم وتحويراتها. لا بد من إنهاء الاشتباك بين الدين والدولة، بالخروج من أوهام وطموحات وأطماع الاستيلاء على السلطة باسم الدين. ويمكن للإصلاح السياسي إنْ بدأ أن يساعدنا كثيرا. فالحكم الصالح يصرف الجمهور عن الإصغاء للمتحزبين باسم الدين. والذي يشجعني على الذَهاب هذا المذهب العملُ الجليل الذي قام به الأزهر بعد الثورة بمصر. فقد خرج من حالة الحصار بين الإسلاميين والنظام السابق ببنيةٍ سليمة، وانصرف لإقامة «بيت العائلة المصرية»، وإصدار البيانات والوثائق التي توحَّد من حولها المصريون مسلمين وأقباطا. وكما يكون على علماء السنة النضال للخروج من ثقافة الانتحاريات والإقصائيات وتسييس الدين، يكون على علماء الشيعة الخروج والإخراج من مجازفات ولاية الفقيه، واستبداد الدولة القومية الإيرانية بالمذهب الشيعي. وبينهم عديدون بدأوا القيام بذلك.
إنها أوقاتٌ صعبةٌ على أهل الدين والعلم والوحدة والتضامن. لكنّ المسؤولية الدينية والحضارية تقتضي منا العمل على تحرير الإسلام من قبضات المتشددين، صونا له وللعرب في أزمنة التغيير. لقد استقرت لدى المملكة العربية السعودية في عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز سياساتٌ للوحدة والاعتدال والتضامن، هدفها حفظ الدين والدولة، والدفاع عن الانتماء العربي. ولذا فإن المؤسسات الدينية، والمعاهد العلمية المتحررة من الحزبيات والفصاميات، والمقبلة على التحرر من الحصارات، وتحرير الدين من الانشقاقات، ستلقى ولا شك دعم المملكة في المهمات الأصيلة والمستجدة كما لاحظنا في مؤتمر التضامن بمكة: «والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون».
(الشرق الأوسط)