جامعة دارالعلوم كراتشي .. مؤسسة عريقة ورائدة للتربية والتعليم الإسلامي
إن جامعة دار العلوم كراتشي تعَدُّ مِن كُبرى المنارات الإسلامية للإشعاع العلمي الديني في جمهورية باكستان الإسلامية منذ سبعة عقود و مايزيد ، حيث قد تم تأسيسها على تقوى من الله و رضوانِه في شوال سنة 1370 من الهجرة ، الموافقة ليوليو سنة 1951 للميلاد على يد مؤسّسها العلامة المفتي العام في باكستان الشيخ محمد شفيع –رحمه الله تعالى- و کان مثالا للعالم الرباني، و المؤسس المخلص، و الداعية المجاهد، و الفقيه الورِع، و كان من القادَة العلماء الذين عايشوا قضايا عصرهم بتوجيهاتهم العلمية ، و ترشيداتهم الحكيمة ، بدءا من دورِه مِن على منصة رئاسة الإفتاء و مشيخة الحديث النبوي في الجامعة الإسلامية /دیوبند(الهند)، و مرورا بمشاركاته الحركيّة الفعّالة في حركة استقلال باكستان و تأسيسِها، و انتهاءا بتأسيس جامعة دارالعلوم كراتشي، التي نأتي على ذكرها في سطور عاجلة في ما يلي:
خلفية التأسيس :
و خلفية تأسيسها أن شيخ الإسلام شبير أحمد العثماني و العلامة المفتي محمد شفيع –و کان من قادة حركة استقلال- حاول فور تأسيس الدولة الناشئة-باکستان-إرساء أسس نظامٍ تعليمي شامل ، و تطبيقها على واقع الأرض ، و قد أعدّ من ذلك مناهج تعليمة جديدة ، تمثِّل النظام التعليمي الإسلامي الذي كان سائدا في العالَم الإسلامي عبرَ القرون ، و الذي كان جامعا للقديم و الجديد، و موفّيا للمقاصد و الحاجات التعليمة المعاصرة، و لكن حالت السلطة دون تطبيق هذا النظام التعليمي المثالی و طبقّت المنهج التعليمي الذي جاءت بها في ركبها من الهِند، و الذي كان رائجا في فترة ما قبل الاستقلال في "جامعة عليكراه بالهند" ،و كانت لحمته و سداه مِن نسج المنهج الغربي المادّي في التعليم
العهد الأول:
و بعد عرقلة الجهاز الحكومي لهذا المشروع التعليمي فإن شيخ الإسلام سعى لتأسيس مدرسة دينية على غرار دارالعلوم /دیوبند(أزهر الهند)، و لكن عاجلت شيخ الإسلام المنيةُ قبل تحقيق هذا الحلم، و بقي العلامة المفتي محمد شفيع العثماني يكابِد عناءَ الخوض في معركة تأسيس هذا الصرح العلمي في كراتشي-عاصمة باكستان يومَها- حینَ لم یکن بها عهد للمدارس، عدا مدرسة واحدة قديمة في جهة "کهدّة"، و كانت حاجة البلاد إلى وجود هذا النحو من المدارس ملِحّة، و كان دون القيام بتأسيسها و إنشاءها خرط القتاد، و لكن جدّ العلامة العثماني ، و حرص على تطبيق الفكرة التي بدأ بواكيرَها مع شيخ الإسلام على واقع الأرض، برِفقة ثلة من المخلصِين ، على رأسهم الشيخ الجليل نور أحمد رحمه الله تعالى –عمید التعلیم الأول بدارالعلوم كراتشي- حتی شاء الله تعالى أن تنفتح أكمامُ مساعيهم على باكورة ثمرة يانعة في منطقة –نانک واره-،و مع قلة الإمكانيات ، و عدم توفر المدرسين، و ضآلة عدد الطلاب كانت الانطلاقة الأولى على بركة الله بتدريس كتب متفرقة لبضع سننين
العهد الثاني:
ثم دارت عجلة الزمن بعد مثابرات و مجاهدات، و بسطت يدُ الغيب كفَ العناية، و طفقَت بوادر جامعة ضخمة تلوح في الأفق، بعدَ أن تهيأت لها أسبابها و دواعيها بعد سنوات الكفاح الأولى، حيث ضاق هذا المكان أن يتسِع لروّاد العلم الذين صاروا في تزايد مستمر من داخل البلاد و خارجها، و لم يكن لهم متسع في المدرسة ، و لا في المدارس الأخرى يومَها (مدرسة منها في " ملتان" ، و أخرى في " لاهور" ، و ثالثة في " أكورة ختك") فمست الحاجة إلى مكان أكبر، فقرَّر العلامة المؤسس العثماني نقل المدرسة، و وقع اختياره على أرض" إسلامية كالج حاليا"، بحافز أن تكون المدرسة محاذية لضريح شيخ الإسلام شبير أحمد العثماني رحمه الله تعالى، فتكون بمثابة ذكرى وفاء لشيخ الإسلام، و تأدية لبعض جميله الذى أسداه للبلاد كلها، و الذى بخِلت الحكومة بإحداث ذكرى تنوِّه به، قد تمت على ذلك موافقة الحكومة ، و أهلِ شيخ الإسلام، فسعى بعدها العلامة العثماني لعقد ندوة الافتتاح، حضرها كبارُ أولى العلم في البلاد، و لكن حصَل أثناء ذلك ما كدَر صفوة هذا الملتقى الطيب، حيث اتخذت أهل شيخ الإسلام قرارَ المعارضة بتأثير خارجي و بإيعاز من بعض الساسة من أقرباءها، و على الرغم من أن الحق كان حليف العلامة المفتي محمد شفيع العثماني، و الجهات الحكومية كانت مسانِدة له، إلا أنه ألغى فكرة إنشاء المشروع، قائلا: " بناء المدرسة من الواجبات الكفائية و المحافظة على وحدة المسلمين من فروض الأعيان، و لَأن يُضمن لي ببَيت في وسط الجنة أحبّ إلي مِن أن أدخل في الشجار، و أؤسس المدرسة على أرض كهذه۔۔۔۔۔۔"
العهد الثالث:
و كان من ثمرات هذا الإخلاص العظيم النادر، أنه لم تمض على هذه الحادثة غير شهر أو شهرين ، حتى فتح الله أبوابا جديدة، و أوقف أحد تجار جنوب أفريقيا أرضا واسعة لدارالعلوم تحوى ستة و خمسين فدانا، و كانت الأرض بعيدة عن منطقة العمران بنحو سبعة أميال استولت عليها كثبان الرمال، فتردد الشيخ بادي ذى بدء، و خاف من حشرِ الطلبة في تلك الفِقار، و لكن استجاب مؤخرا لهذا الطلب نزولا عند رغبة المخلصين الأحبة، فتم الانتقال إلى هذه الجهة المسماة –کورنکی- في حدود سنة 1376ھ في منتصف شعبان الموافق 71 مارس سنة 1957م، و بقيت مدرسة نانك واره " مركزا لتحفيظ القرآن الکریم و قراته نظرا.
و هنا استقبلت دارالعلوم الجديدة أول دفعة كان لها فضل سبق، و كان ضمنها النجلان الجليلان –طالبا الأمس و علاّمتا اليوم- الشیخ المفتي محمد رفيع العثماني و شقيقه الشيخ المفتي تقي العثماني حفظهما الله تعالى، و لهما آیات و أحاديث ترجع إلى ذلك العهد، ليس هذا موضعَ بسطِها
و تميزت هذه الفترة بأنواع من المشاق و الصعوبات، من أجل بُعد الموقع الجغرافي، و صعوبة التعامل مع الجو شبه الصحراوي ، و لكن روح المثابرة و التحدي كانت تحدو الجميع، و مضت السنون تلوَ السنون، و اتصلت المباني بالمباني، و توافرت أسباب المدنية و العمران، و بدأت دارالعلوم تكتسب رونقا جديدا، و حان لهذا العهد السابق أن يولّي، و دقّت أجراسُ رحيل العلامة المؤسس في الحادي عشر من شوال، سنة 1396ھ، الموافق للسادس من أكتوبر عام1976م، بعدَ حياة زاخرة بالبذل و العطاء، و أفل ذلك النجم، و ثلمث تلك الثلمة، و خلَفه المرشد الكبير الدكتور عبدالحئ، و تسلـّم نجل العلامة الفقيد : العلامة المفتي محمد رفيع العثماني حفظه الله تعالى- مقالید إدارة الجامعة، ثم آلت إليه رئاستها بعد رحيل المرشد العارفي رحمه الله تعالى، و كان ذلك بداية عهد جديد سنأتي عليه فيما يلي :
العهد الحديث:
و هذا العهد يبتدئ من تولي الشيخ محمد رفيع العثماني حفظه الله تعالى زمامَ الأمور ، و يمتد من يومِه ذلك إلى الحين، و قد شهِدت الجامعة تحولا مباركا في عهده الرشيد، حيث أمست الأجواء ملائمة من كل جانب، فتميّز بالتجديد و الإصلاح، و الرخاء و الطمأنينة، و توفر المرافق و الموارد، و تجديد المباني بإزالة القديم منها، و إعمار أخرى حديثة، و أصبح لها هيكل إداري قوي و مترابط، يضم عدة شُعب و كليات كمبنى الداراسات الإسلامية، ومبنى دارالقرآن الكريم، و إعداد مرافق سكنية باذخة ، و إنشاء دار مستقلة للإفتاء، و مكتبة علمية، و مبنى عمادة شؤون التعلیم، و مسجدها الجامع الفخيم، و مبنى المطعم الجديد,و مدرستان عصریتان وغیرها من الشُعَب و الأقسام العديدة التي شهِدها هذا العهد و لا يزال بإذن الله تعالى، علاوة على مشاريعها المستقبلية التي تسابق الزمن، و بعض منها في طورِ الإنجاز، كما تميز هذا العهد بحسنِ السياسة و أناقة الإدارة، و تنقيح القوانين، و تمييز الأقسام و الكليات بعضها عن بعض و هلم جرا، و كل ذلك ساهم في رفع مستوى الجامعة في مجالات عدة ، و أكسبها مكانة عالية مرموقة بين الجامعات و المؤسسات العلمية و التربوية، و أصبحت قِبلة يتوجه إليها طلبةُ العلم ، و شُداة المعرفة و الفضل ، ليغترفوا من معينها ، و يرتعوا في رياضها، و سواء في ذلك البلاد حكومة و شعبا، أو الوافدون من ضيوف الرحمان، حيث صاروا يتوافدون عليها من سائر الأقاليم ، و أقطار العالَم الإسلامي و غيره كالإمارات العربية المتحدة ، و أفغانستان، و بنغلاديش، و بورما، و تايلندا ، و کینیدا، و ألمانيا، و أمريكا، و ويست انديز، و تركيا، و عديدٍ مِن دُول أفريقيا و غيرِها، حيث يفِد طلاب هذه البلاد على الجامعة للاستفادة من منابعِها العلمية . و هكذا أصبحت هذه الجامعة شبهَ الجنة فوق أرض باكستان إن لم يكنها، و صارت يُضرَب بها المثَل في جمال الظاهر و حسنِ الباطن، ليس في النطاق المدرسي الديني فحسب، بل تعدّت سمعتُها و طيبة مرودِها الجامعات العصرية كذلك.
مِن مقاصدها و غاياتها :
لقد أسست دارالعلوم كراتشي لمقاصد و أهداف سامية، وهي جاهدة منذ أول يومِها على إحياء العلوم النبوية و بثها في صدورِ الأجيال من الأمة الإسلامية، في صمتٍ وحكمة ، و إخلاص و صدقٍ ، بعيدا عن الضغوط السياسية ، و التأثيرات الخارجية، متمسكة باتباع السنة، و سِير الصحابة رضي الله عنهم و بما توارثتها عن السلف الصالح من القرون الثلاثة المشهود لها بالخير و مَن والاهم عقيدةً و منهجاً، متبنّية مبادئ الاعتدال و الوسطیة في جوانب الحياة كلها
وهي من أجل تحقيق هدفِها المنشود تعمَل على إعداد أجيال تحمِل كفاءات عالية في مجالات العلوم الشرعية، يعملون لصالح أمتهم و ملتهم على بصيرة من أمرهم، مع الاعتناء بالعلوم العصرية إلى جنب العلوم الشرعية في فلَك واحد، و تآلف رائق، تُهَيمِن عليه الصبغة الإسلامية خدمة للإسلام و المسلمين،تلبية لحاجات العصر زمانا و مكانا، كما تسعى الجامعة في هذا الصدد لتكوين ثلة مؤهلة لتشغَل مناصبَ ذاتَ أهمية كالقضاء و الإفتاء و الدعوة، والتعليم و التربية و الاقتصاد الإسلامي وغيرها، كي لا يخلو المجتمع من قائم بالحجة على بساط المحجة البيضاء
لمحة عن جهودها و خدماتها:
و الجامعة خرّجت آلافا من العلماء و الفقهاء و المحدثين ، انتشروا في أقطارِ العالم يخدمون الإسلام و المسلمين في شتى المجالات الحيوية، تعليما و دعوة ، و سياسة و جهادا ، و كتابة و تصنيفا، و ما إلى ذلك، كما أن الجامعة و رجالاتها أسدَت على مدى سبعين عاما ماضية خدماتٍ جليلة على المستوى المحلي و العالمي في شتى أسلمة الحياة المعاصرة ، و ليس من الهين أن نأتي عليها في هذه العُجالة، و ككُلٍّ، فإن العلامة المؤسس العثماني كان قد وضع في اعتباره أمرَين : أولا: تطبيق الشريعة الإسلامية في جمهورية باكستان الإسلامية، ثانيا: أرساء نظام التعليم الإسلامي، و قد أسلفنا نبذة من الثاني في السطور المذكورة أعلاها، و أما جهود الجامعة من على الصعيد الأول فلم تعُد خافية على أحدٍ يُعنى بالتطبيق الإسلامي في باكستان، فلقد عايش مؤسسها حركة استقلال الدولة ، و ساهم في ترشيدِها بمقالاته و فتاواه ،و بعد استقلالها كان يمثّل اليدَ اليمنى لشيخ الإسلام شبير أحمد العثماني في " التقنين الإسلامي" عام 1949، و كان عضوا عاملا في مجلس " تعليمات الإسلام" الذى أسسه القائد لیاقت علی خان لهذا الغرض، و تلاه النجلان الكريمان العلامة المفتي محمد رفيع العثماني و العلامة الفقيه محمد تقي العثماني ، و و دفعا مسيرةَ التقنين الإسلامي و تطبيق الشريعة إلى الأمام ، فلقد كانا من أعضاء "مجلس الفكر الإسلامي" الذي أسسه الرئیس الباکستاني ضياء الحق رحمه الله من أجل تطبيق الشريعة ، كما بقي العلامة تقي العثماني قاضيا شرعيا في المحكمة الشرعية العليا، و أصدَر قرارات تاريخية في مكافحة بلوى الربا،و أخرى لعبت دورا رياديا في سبيل تطبيق النظام الإسلامي، لها دورها و مكانتها حتى اليوم ,و كل ذلك يكون ثروة قيمة, و لئن شاءالله,و حالف الجهات الإشرافية التوفيق, و جد جدها من أجل التطبيق الإسلامي فإن مأثر علماء دارالعلوم كراتشي ستمثل ثروة علمية قيمة سوف تملأ فراغ الجانب العلمي و التقنيني....., وفق الله تعالى الجهات المعنية و إيانا لكل خير.
و الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات۔