سجل يا تاريخ و اشهد يا زمان - قصة تأسيس دار العلوم ديوبند بالهند
شهد الركب الإسلامي عدة مناسبات سارّة، و مواقف خالدة في هذا العهد المتأخر؛ و انتصر بقوة الإيمان، و الاعتماد على الله في كثير من المواقف العصيبة، و في ساعات البأساء و الضراء، و الفتنة العمياء مع رداءة الأوضاع، و حساسية الظروف على ألد خصومه، و أعدائه؛ و ضرب أروع الأمثلة لبطولته، و شجاعته، و كفاحه، و تضحيته، و فدائه. فكان ذلك دليلا واضحا على خلود الإسلام، و برهانا ساطعا على قوة الإيمان، و شهادة جلية على نصر الله عباده المصلحين المخلصين؛ كما يتجلى أن الله كتب لهذا الركب الميمون التقدم، و البقاء؛ و العزة، و العفة؛ و الكرامة، و الشجاعة؛ و الشرف، و الاحترام مهما كانت الأوضاع، و الظروف؛ و مهما اشتدت الأزمة، و تفاقم الشر، و تتابع العدوان.
و من تلك المواقف الحاسمة الرائعة الحافلة بالأمل، و النشاط تلك الدعوة الواضحة لسائر أهل بلاد الهند إلى تحرير بلادهم...
ولا خفاء أن ذلك الركب الميمون كان مشتملا على عدة علماء الإسلام، و قواد دين الله العلام. إذا بث الإنجليز في مشارق بلاد الهند، و مغاربها؛ و جعلوا يقتلون أهل الهند ظلما، و جورا؛ و أعلن إبادة علماء الإسلام بغير سبب معقول؛ و قد ناصبوا العداء للمسلمين، فقتّلوهم تقتيلا؛ و صادروا الممتلكات و الأوقاف؛ و بثوا الأساقفة، و المبشرين و القسيسين المسيحين في طول البلاد و عرضها، فصاروا يدعون الناس إلى النصرانية و الضلالة؛ ليحولوا البلاد الهندية بدولة مسيحية؛ و أصبح أمر المسلمين في هرج و مرج.
هنالك نهضت تلك الشرذمة القليلة - الذين يعدون بالأصابع -، وبدؤوا يفكرون في تحرير بلادهم من الظلمات العمياء، و قد همَّهم أمرُ الإسلام، و الحفاظ عليه. فطرقت أذهانَهم أفكار متعددة ؛ و لكن كلها لا تهدي إلى سبيل وسَط ينجي من أيادي هؤلاء القاهرين الجبارين. ففكروا و فكروا؛ حتى ألقى الله في روعهم فكرة عظيمة، فكرة لا تخلصهم من أذى هؤلاء الأشرار فحسب؛ بل يميل بالمسلمين إلى العلم و العمل؛ إلى الدعوة و التزكية؛ و تجعلهم مبعَدين عن البدعات و الخرافات التي لا يستحيي الخواص و العوام من ارتكابها، و بعضهم لا يعلمون كونها بدعات مروجة؛ بل يوقنون إيقانا أنها أفعال حسنة مباركة، وظلوا على ذلك الإيقان حتى فارقوا الحياة، و انتقلوا من الأولى إلى الآخرة.
وكانت تلك الفكرة الثورية هي فكرة تأسيس المدارس الإسلامية، و المعاهد التعليمية الأهلية في كل مدينة و قرية. فجعلوا يؤسسون الجامعات التربوية على نهج الإسلام، و الكتاتيب التعليمية في أنحاء البلاد، على الرغم من المصائب و العوائق التي كانوا يواجهونها، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء
وإن سلسلة المدارس الإسلامية، و الجامعات التعليمية في بلاد الهند خاصة، و في بلاد أخرى عامة - التي ترى أيها القارئ العزيز - هي ثمرة مساعيهم الجبارة، و مجهوداتهم الكثيفة.
فمن تلك الجامعات الجامعة الإسلامية (دار العلوم/ ديوبند). و هي الشجرة المثمرة المباركة لأولئك الأبطال المسلمين، و العلماء المخلصين الذين عاشوا لله، و ماتوا لله، واجتمعوا لله، و تفرقوا لله؛ فكانت كل أعمالهم لله وحده؛ كأنهم وقفوا حياتهم على الذود عن الإسلام، و الحفاظ على الإيمان في قلوب من أسلم لله.
و لا يفوت عني أن أحيطك علما - أيها القارئ - أن كل ما ترى الآن من الأعلام الإسلامية فضلها يرجع إلى أولئك عباد الله المخلصين؛ فبسعيهم الكثيف بلغ الإسلام ذروته في هذه الديار كما كان في عهد رسول الله ﷺ . إن الجامعة الإسلامية دار العلوم ديوبند التي أسسها أيادي عديد من العلماء الطهارى الغيارى لم تكتفِ بمخالفة الإنجليز النصرانيين و إنشاء الأبطال الأحرار القائدين؛ بل لعبت - و لا تزال تلعب - دورا مشكورا فعالا في إحياء العلوم النبوية، و إنشاء البيئة الإسلامية في البلاد. فقام بعض الخريجين منها بنشر العلوم العربية بنقلهم إلى الأردية، و بتعليمها الطلاب، و بتأليف كتب كثيرة في الأردية، كما يؤلفون في العربية و الإنجليزية و في لغات أخرى. و قام بعضهم بإختام الشرك، و البدعات بالمناظرة ، و قام عديد منهم يعلمون الناس أحكام الدين، و ما إلى ذلك من أعمالهم الكثيرة. فهذا الإسلام - فيه نعيش، و نرتاح - هو جهود أولئك الذين آمنوا كما أُمِرُوا، و جاهدوا كما عاهدوا الله..
هذه بعض السطور الوجيزة التي قصدت بها الإشادة بجهودهم، و إظهار مساعيهم، مع أنها في غنى عن كلماتي. فكيف يمكن لنا نسيان هؤلاء علماء المسلمين، و ذلك الركب الميمون. فـ سجل يا تاريخ ! و اشهد يا زمان !