غزوٌ خفيٌّ
قد أتمنّى أن أقول الذين يبحثون عن آثار الغزو الثقافي والفكري في العالم هنا وهناك، ولا يفتأ الكل منهم يذكر مساوئه في مجالات بعيدة، في السياسة والاجتماع والفلسفة، أودّ أن أقول لهم : لا تذهبو بعيدًا، فلنرجع إلى الوراء قليلًا، إلى بيوتنا، وإلا أولادنا، وحتى إلى أنفسنا. هنا وابحثوا عن آثار هذا الغزو، قبل أن تبحثوها في الساسة والقادة وأمراء القصور، لِنجد كيف أن الغرب غزانا في عُقر ديارنا. غزى أخلاقَ أولادنا في قعر بيوتنا، وغزى عقولَ شبابنا في داخل مجتمعاتنا. وأكبر سلاحه في هذا الغزو هذا "الهاتف الذكي" الذي دخل بيت كل حجر ومدر، وبلغ إلى يد كل صغير وكبير. رغم كل إيجابياته تلك ولكنه -وبحكم المشاهدة- يتحوّل في أيدي شبابنا وطلابنا إلى سلاح غربي صامت يسلبهم روحَ العقيدة والأخلاق ويحرمهم حلاوةَ الإيمان والطاعة، ويُفقدهم لذة الكتاب والقراءة، وربما يسلخهم في النهاية عن جلد الإنسان والآدمية ! الشاب المسلم الذي يقع فريسةَ هذا السلاح الفتّاك سرعان ما يعود خاوي الروح، فاسدَ القلب، كاسدَ الذوق، منحطّ الخلق، مخلدا إلى الكسل والخمول، عاريًا عن كل معاني الفضيلة والهمة والشجاعة. فهو إذا لم يخضع في استخدامه لتخطيط دقيق، وإذا تحوّل استخدامُه إلى حالة من الإدمان النفسي الذي يشبه "الهوس" فإنه يؤْدي به رويدًا رويدًا إلى مستنقعات من الفجور والتنمر. ولا أقلّ من أن يقتل وقتَه في لاشئٍ ويُهدر طاقاته الذهنية والبدنية فيما يعود عليه بوبال في الدنيا أوالآخرة إلا من رحم ربي. قدلا يصيبه هذا السلاح في جلده وعظمه، لكنه يصيبه في روحه وطموحه، وإيمانه وخُلقه، وأكثر ما يغزوه خلقيًّا في خلواته وفكريًّا في جلواته. وماذا يبقى في الشاب من شبابه إذا ذهب إيمانه وطموحُه، وهمته وخلقه؟. جلد ولحم وعظم، وربما لا شئ يُذكر من ذلك حتى! . هل هذا كله يعني أن الغرب انتصر في هذا الغزو ؟ بينما نبحث عن سبل غزوه في ساحات الحرب ؟ وهو قد غزانا في صميمنا ونحن لا نشعر ! صحيح أنه قد خسر معركته في الحرب العسكرية، و لا يزال يجرّ أذيال خيبته هناك! لكن الأخطر أن يجد علينا السبيل من حيث لا نشعر، ليغزوَنا في عقولنا وأخلاقنا وفي عقر ديارنا وداخل بيوتنا؟ بئست الهزيمة هذه الهزيمة الخُلقية، فما أقبحها من هزيمة! ولَنِعم المجاهد من جاهد عدوّه في هذا المعترك الخُلقي ولَنعم المنتصر من انتصر في هذه الحرب ! عبدالوهاب سلطان الدّيروي ٣٠ ربيع الأول ١٤٤٤