ما ذا يجب على المتخرجين الجدد تجاه المشاكل الاقتصادية في حياتهم الجديدة؟
إن ما أكتبه اليوم هو يتعلق بإخوتي الذين هم وأنا في مركب واحد، والذي لا يتوقف في هذه الدنيا ولا في الآخرة، فإنه مركب عظيم لا مثيل له، ولا يمكن لأحد في الدنيا أن يقدره إلا من يسافره، فتجده مقدرا له، ثم كتابتي اليوم هي مبنية على الحقيقة، فإن أعجب أحدا يبقله، وإن لم يعجبه فليس له حرج إن تركه وكأنه لم يسمع شيئا من مثل هذا الكلام...
لا شك أن حياة طلاب المدارس الشرعية هي حياة سعيدة، حيث إنها لو يتذوق طعمها حاكم البلد لترك حاكميته، ولعاد إليها تماما، لكن للأسف الشديد لا يتذوق حلاوتها من يتحدث عنها، فهو كالذي يتحدث عن حلاوة السكر، ولم يتذوقه في حياته، فهل يستطيع بيان حلاوته كما حقه؟! كلا، لا يمكن، بل يستحيل عليه وصف حلاوة السكر. كذلك حياة طلاب العلم الشرعي، فإنها أيضا تكمن في طيها حلاوة السعادة، والتي يحظى بها فقط طلاب المدارس الشرعية..
لقد سمعت من أساتذتي ومشايخي أن حياة طالب العلم الشرعي تدور بين دفتي الكتاب، فإنه لا يتفكر في مستقبله، ولا يتفكر ما ذا يدور في بلده، ولا يقلقه ما يحدث، فإنه ضيف من ضيوف الرحمن، فالله ـ سبحانه وتعالى ـ قد رفع عنه كل ما يقلقه ببركة العلوم الشرعية، وهذه هي حقيقة، بأن طلاب المدارس الشرعية يقضون حياتهم بين " ما قال الله" و"قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم "فإنهم رجال مباركون، فلو قلت فيهم: بأنهم يحبون الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فالله ـ سبحانه وتعالى ـ ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحبانهم، فلست مبالغا، وقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ : ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾" فإنهم مصداق هذه الآية...
يلتحقون بالمدرسة في الصف الأول، وهذه هي نقطة بداية حياتهم المدرسية، ثم يستمرون عليها حوالي ثماني سنين، والذين يتخصصون في اللغة والفقه والحديث فهم يقضون مدة ست سنوات مزيد، ولا يتفكرون ما تنتظرهم الظروف القاسية بعد ما يتخرجون، ويتجاهلون عنها تماما... ثم يصبحون حائرين ما ذا يجب عليهم تجاه تلك الظروف، وهي عادة تتعلق بالاقتصاد.. والذي هو أساس حياة الإنسان كالماء للسفينة، فإنها بأمس الحاجة إلى الماء للجري، فلو لم يكن الماء في الأنهار والبحار لما تحركت بحركة واحدة، فنفس الشيء في الاقتصاد، فإن له علاقة قوية للحياة، فالحياة دونها تصعب على صاحبها...
وبما أنهم وأنا من ركاب سفينة واحدة، والتي وجهتها واحدة، وهي نيل رضى الله ـ سبحانه وتعالى ـ وقضاء الحياة على أحكام الله ـ سبحانه وتعالى ـ والقيام بإحياء سنة حبيبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإحياء الدين كله في العالم كله، فلدي بعض الأفكار التي نلت من أماكن شتى، والتي أفادتني منذ أن تخرجت من المدرسة الدينية، والتي جعلتها أساسا لحياتي، فإنها هي التي جعلتني بأنني أقضي حياة سعيدة في الدنيا، وإلا كنت بعيدا عن الدين والمدارس وعن السعادة الحقيقية، ولا عليك إن تقبل أية فكرة من تلك الأفكار، ويحق لك أن ترفضها إن يناسبها رفضها...
والإخوة الذين تخرجوا من المدارس الشرعية، وهم قد أكملوا مراحل الدراسات كلها، من الصف الأول إلى صف دورة الحديث، فإنهم سوف يفارقون المدرسة التي قدمت إليهم تربية لا مثيل لها، فلذا أينما يكونون لا ينبغي لهم نسيانهم تلك المدرسة، بل إن استطاعوا بتقديم مساعدة مالية فيقومون بها، وإن لم يستطيعوا فعلى الأقل يذكرون في دعواتهم الصالحة، والأساتذة الذين علموهم والذين جعلوهم يقوون على إمساك القلم للكتابة، ويقدرون على النطق، وربوهم تربية حسنة، فإنهم أيضا يستحقون إلى دعواتهم، فإن لهم حقوقا عليهم، فلا ينسوهم في دعواتهم في كل وقت، وفي كل لحظة، حتى إن أمكنهم ذكر أسمائهم في الدعوات فيذكرونها واحدا تلو الآخر، وسوف يرون نتيجة دعواتهم لهم في حياتهم السعيدة، والذي يجعل حياتهم مباركة في العلم والتعليم...
وبما أن رزق الخلق كله في يد الله ـ سبحانه وتعالى ـ لأنه هو الرزاق، إلا أنه جعله موقوفا على جهد العبد واجتهاده، يقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ في كلامه المجيد: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ " فإن السعي ضروري في كل ميدان، ويقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ في كلامه المجيد: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ " إذن رزق الإنسان موقوف على تعبه وعلى جهده واجتهاده...
والذي لا يكون مديرا ولا ابنه، فهو يجب عليه أن يعمل في المجال الذي يتسنى له العمل، ولا يستحيي من القيام بالعمل، حتى يكسب مالا، ويرزق أبويه وأولاده من المال الحلال، والذي يعتقد أنه أصبح عالما وفاضلا، ومتخرجا، فلا يليق بشأنه القيام بالعمل، فنصيحتي له بأنه ينبغي أن يطالع حياة الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ والتي لم تكن خالية من مشاكلهم، لكنهم كانوا يتحملونها، وكانوا يواجهونها، فها هو أبوبكر الصديق، صاحب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يضع القماش على كتفه ويبيعه في السوق، والكتب مملوءة من سيرهم، فإذا طالع أحدهم تلك الكتب لوجد أنهم لم يتخلفوا عن القيام بالعمل... فلذا لا يتخلف أحدهم بالقيام بالعمل أينما يكون...
بعد ما يسافر أحدهم إلى بلده، يبحث عن عمل يمكنه القيام به، والذي يجديه، ويقوي اقتصاده، ويستشير أولئك الإخوة الذي خبيرون في فنونهم، ويتعلم منهم فنونا خاصة حتى يتمكن من مواجهة مشكلة اقتصادية، والتي تجعله مكتفيا ذاتيا...
وليكن في علم المتخرجين الجدد أن العلوم الشرعية التي تعلموها طوال هذه المدة، والتي جعلت حياتهم سعيدة، فإنها لا تكون وسيلة لاقتصادهم، بل اجعلوا عملا يناسبكم في كسب اقتصادكم، ثم قوموا بخدمة الدين مجانا، ودون أي مقابل، فتدرسون الطلاب وتصلون بالناس فتكونون حينئذ مصداق هذه الآية:﴿مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ﴾ . فقوموا بإحياء هذه السنة التي ماتت في زمننا نحن إلا قليلا...
الأمر الأخير هو أنه يجب عليهم الإنفاق في سبيل الله، مما يكسبونه، ولا سيما على المدرسة التي أنفقت عليهم طوال هذه المدة، ولا لا ينبغي لهم الانقطاع من المدرسة، فإن من انقطاع من المدرسة، فإن أفكاره قد تغيرت تجاه طلاب المدارس الشرعية وتجاهها، بل يجب عليهم جميعا الارتباط مع مدارسه الشرعية ارتباطهم قويا، ثم ارتباطهم يكون في شكل عرض الخدمات فيها مجانا، وفي شكل التدريس، إن أمكن، وإن لم يمكن هذا، فهنالك طرق أخرى للارتباط بهم. ثم يتوجه إلى عمله الاقتصادي.
والذين تخرجوا من المدارس وانقطعوا عنها تماما رأينا بأنهم أفكارهم قد تغيرت تجاههم الذين كنا نسمع وما زلنا نسمع عنهم، بأنهم هم ضيوف الرحمن، ولا شك فيما قالوا ويقولون، فإنهم بالفعل ضيوف الرحمن، فأسأل الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن جعلني خادما لهم، وأن يغفر لي ببركتهم، وأن يجعلني ببركتهم تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وأن يجعل قبري منورا ببركتهم، وأن يجعل قبري روضة من رياض الجنة. آمين يا رب العالمين.