اللهم حرِّر الأقصى من ضَعْف المسلمين!
اللهم حرِّر الأقصى من ضَعْف المسلمين! حامد الإقبالي من حُسن الحظ أن حكمة التاريخ لا تخضع لمنطق الطغاة، ومن سوء حظ الأخير أنهم لا يقرؤون التاريخ ولا يتعظون به؛ لذلك تأتي نهاياتهم دائماً متشابهة: محرقة وهالكة. فالطاغية يموت - كما يقول الفيلسوف الدنماركي كيركغارد - وينتهي حكمه، أما الشهيد فيموت ويبدأ حكمه.
أكتب الآن بعد أيام من إغلاق المسجد الأقصى، وبعد أشهر من انسحاب الصهاينة من قطاع غزة، وإيقاف آلة الحرب والدمار التي أفرغت حقدها الدفين على البشر والحجر. انتهت الحرب حينها، لكن لم ينتهِ كل شيء. فبعد أن لملم هذا العالم المتصدع أخباره بحثاً عن بؤرة جديدة، وأغمدت الأقلام الجيدة عن العويل، والأخرى الرديئة عن الصياح، فهذا كل ما تملك، وعاد المغردون إلى تويتر بحثاً عن ملهاة جديدة.. وحدها الأرملة الغزاوية التي عادت إلى بيت متهدم وحزن جديد.. وحدها المدرسة الغزاوية في العالم التي بدأت دراستها بنصف طلابها، فيما النصف الآخر يحوم على طيور خضر في الجنة.. وحده الفلسطيني عاد مصاباً في جسده أو مصاباً في أولاده.. وحدهم الشهداء آمنون، مستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم.. وحده المسجد الأقصى يصرخ: اللهم حررني من ضعف المسلمين قبل أن تحررني من اليهود.
ولأن (الأقصى) هو المحك الحقيقي للمسلمين فإن أي أهداف أو خطابات يثيرها حلفاء الشمال أو حلفاء الجنوب خارج هذا المشروع الإسلامي هي أغراض مشبوهة، تنبئ عن سوء طويتهم ونفاقهم ومؤامراتهم على المسلمين، وأن بحثهم عن الزعامة والصعود على رقاب الناس ودمائهم هو الأيقونة الوحيدة لمشاريعهم السياسية العبثية. وهذا الصمت العالمي له ما يبرره هذه الأيام؛ فالشعوب ملّت من الصراخ، والسياسيون تعبوا من التحليل، والحكّام العرب عجزوا عن إدارة شؤون بلدانهم، فضلاً عن بقية الدول والبقاع.
"لسنا (حماس) ولا (الجهاد) ولا (فتح)، لكنكم ستخلقون منا آلافاً من حماس". قالتها المدونة أسماء الغول في حرب غزة الأخيرة. "المستشفيات تحوّلت إلى حاويات جثث ومقابر". قالها مدير المشفى الإماراتي. "لن نسامح". قالها أبناء الزيتون والأقصى لشرذمة الناجين من الهولوكست. لم تعد نساء فلسطين يتشحن بالسواد حزناً على الشهداء، ولم يعد رجالهم يرفعون الشارات البيضاء استسلاماً، ليس لهم بعد الآن سوى خيارين من ألوان علمهم الوطني: إما حياة يكتسون فيها (خضر) الثياب، أو ميتة (حمراء) ملطخة بدمائهم الزكية.
لقد علّمنا عمر المختار شجاعة أن يكون رجلاً بمفرده، وعلمتنا الجزائر أن يموت فيها مليون شهيد لتتحرر، وعلمتنا غزة أن تقاوم مدينة بأكملها ضد العِرق الأخطر في التاريخ.. وكل يوم نعتقد فيه أن هذا العربي المريض يوشك أن يموت فيبعث الله من يوقظه، يهزه بعنف، يعلمه الدرس من جديد.
أقرأ للمفكر المسلم محمد أسد ذي الأصول اليهودية، في كتابيه (الطريق إلى مكة) و(الإسلام على مفترق طرق)، وأتابع تبرؤه من الصهيونية العالمية، هدم طريقاً، ورصف آخر، أشار إلى اعوجاج المسلك الغربي في الحياة والفكر والوجود، وأنه إلى تباب، ثم أنشأ في حكمة بالغة وتجربة ثرية بين الحياتين المادية الغربية والإسلامية الروحية مساراً معتدلاً لإعادة الحضارة الإسلامية، مغارف حديثة لمعين لا ينضب، نقل على لسان رئيس اللجنة الصهيونية التنفيذية أوسيشكين في العام 1922م "ليس هناك حركة عربية حقيقية ضدنا. إن كل ما تعتبره مقاومة للصهيونية إن هو في حقيقته إلا صراخ عدد ضئيل من المشاغبين الساخطين. إنها ستنهار من تلقاء نفسها، خلال بضعة أشهر أو بضع سنين فقط". مزدرياً بذلك العرب والمسلمين. قرن إلا ثمانية أعوام والفلسطينيون يقاومون في انتفاضات فردية وجماعية متوالية، ورحل أوسيشكين، وبقيت المقاومة شوكة في حلوقهم. نعم، باقون في هذه الأرض؛ لأن أعمار الطغاة قصار.