موسم العبادة!

العشر الأوائل من ذي الحجة موسم عظيم للعبادة والتقرب إلى الله تعالى، وهي أيام فاضلة وأوقات عظيمة، فيا باغي الخير! أقبِلْ. ويا باغي الشر! أدبرْ.

               إن الله تعالى جعل لكل شيء في الدنيا مواسم خاصة وأوقات فاضلة، ويمكن للإنسان أن يحصل عليه في وقته وموسمه بسهولة ويسر، كذلك العبادة، لا سيما النوافل منها، وهي وإنْ كانتْ مطلوبة في كل وقت وحين، غير أنها في أوقاتها الخاصة ومواسمها الفاضلة أفضل وآكد؛ لأنها تزيد من أجرها ومثوبتها عند الله تعالى، لما خصَّ الله تعالى هذه الأوقات وتلك المواسم من خصائص تختص بها عن غيرها، ومن تلك المواسم: شهر رمضان المبارك، والعشر الأوائل من شهر ذي الحجة.

فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟، قَالَ: "وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ"، رواه الإمام الترمذي في جامعه، وقال: حديث حسن غريب.

فالرسول صلى الله عليه وسلم قال في هذا الحديث الكريم: إن العمل الصالح في هذه الأيام العشر أحب إلى الله تعالى، فيرد السؤال، ما هو العمل الصالح؟

الجواب: هو كل عمل مرضيِّ عند الله تعالى من العبادات الخالصة والعاديات القاصد بها وجهه سبحانه، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، قال العلامة السعدي في تفسيره (تيسير الكريم الرحمن، ص: 489): "وهو الموافق لشرع الله"، وقال تعالى أيضاً: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 1، 2]، قال العلامة النسفي رحمه الله تعالى في تفسيره (مدارك التنزيل وحقائق التأويل 3/ 510): "أي أخلصه وأصوبه؛ فالخالص أن يكون لوجه الله، والصواب أن يكون على السنة".

فيدخل فيه جميع أنواع العبادات الخالصة من الصلاة، والصوم، والحج، والعمرة، والصدقة، والذكر، والتلاوة، وطلب العلم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كما يدخل فيه العاديات بقصد التقرب إلى الله تعالى، مثل طلب الرزق الحلال، وزيارة الإخوان وغيرهما.

ولكن ينبغي أن يقدِّم المسلم الفرائض على النوافل؛ لأن الفرائض هي الأصل والنوافل هي المكمِّلة لها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته"، رواه الإمام البخاري في صحيحه.

 

                بعض الأعمال الخاصة بالعشر الأوائل من ذي الحجة:

  1. الحج والعمرة في هذه الأيام المباركة لمن يستطيع ذلك، والحج الواجب آكد وأهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة»، رواه الإمام البخاري والإمام مسلم في صحيحيهما.
  2. الإكثار من التهليل (وهو قول: لا إله إلا الله)، والتكبير (وهو قول: الله أكبر)، والتحميد (وهو قول: الحمد لله) فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه الأيام العشر،فأكثروا فيهن من التهليل، والتكبير، والتحميد"، رواه الإمام أحمد في مسنده، وحسنه الشيخ شعيب الأرناؤوط وغيره في تخريج المسند.
  3. صيام الأيام التسع الأوائل، لا سيما يوم عرفة، فعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه: أن رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كَيْفَ تَصُومُ؟ فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ غَضَبَهُ قَالَ: رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ غَضَبِ اللهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ فَجَعَلَ عُمَرُ يُرَدِّدُ هَذَا الْكَلَامَ حَتَّى سَكَنَ غَضَبُهُ فَقَالَ: عُمَرُ يَا رَسُولَ اللهِ! كَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ؟ قَالَ: "لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ أَوْ قَالَ: لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يُفْطِرْ" قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمَيْنِ وَيُفْطِرُ يَوْمًا؟ قَالَ: "وَيُطِيقُ ذَلِكَ أَحَدٌ؟" قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا؟ قَالَ: "ذَاكَ صَوْمُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام" قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمَيْنِ؟ قَالَ: "وَدِدْتُ أَنِّي طُوِّقْتُ ذَاكَ" ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلَاثٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ فَهَذَا صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ، صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ، وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ"، رواه الإمام مسلم في صحيحه.
  4. عدم أخذ شيء من الجسم لمن أراد أن يضحِّي، مثل تقليم الأظافر وقض الشوارب وقص أو حلق شعر الرأس وحلق شعر العانة وغيرها، فعن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يمس من شعره وبشره شيئا»، رواه الإمام مسلم في صحيحه.

نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى أن يوفقنا للاجتهاد في العمل الصالح في هذه الأيام المباركات، وأن نغتنم أوقاتها الفاضلات، وأن يجعلنا من عتقائه من النار يوم عرفة بفضله الواسع وكرمه الجزيل، إنه سبحانه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير.

 

حسين محمد نعيم الحق

مساعد باحث بمركز ابن خلدون، جامعة قطر
مجموع المواد : 16
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2024

التعليقات

يجب أن تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب

يستغرق التسجيل بضع ثوان فقط

سجل حسابا جديدا

تسجيل الدخول

تملك حسابا مسجّلا بالفعل؟

سجل دخولك الآن

اكتب معنا


يمكننا نشر مقالك على شبكة المدارس الإسلامية، دعنا نجرب!

أرسل من هنا

المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2024