تصدير لكتاب : " دراسات في معرّب القرآن"
تصدير لكتاب : " دراسات في معرّب القرآن"
الحمدلله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى ، وبعد :
فالعربية أوسع اللغات مدىً على ساحة العالم ، وأغزرهن مادّة ، وأوفاهن بالحاجة الحقيقية من معنى اللغة ، لكثرة أبنيتها ، وتعدد صِيَغها ، ومرونتها على الإشتقاق ، وانفساحها من ذلك المنطلَق إلى ما تستغرق اللغات بجملتها .
فإذا نظرت إلى أقسامها وشعبها من الأضداد والمترادفات والمشتركات تجد كتباً مفردةً تتحدّث بكل تفصيل عن هذه النواحي ، وقدأعطت العربية ذخيرةً وافرةً من التآليف والأسفار في مجالها إلى مكتبة الإسلام ، وأوتوا في ذلك من الحظ مالم تؤته أمة من أمم الحضارات القديمة والحديثة ، وفي اتساعها فضل كبير للقرآن والحديث وانتشار الإسلام في أمم ذات ثقافات عريقة .
فقد فتح القرآن العظيم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم للغة العربية أبواباً كثيرة ًواسعةً من فنون القول ، فعولجت بها أمور لم تكن العربية لتعتني بعلاجها من قبلُ، وذلك كمسائل القوانين والتشريع ، والقصص والتاريخ ، والعقائد الدينية ، والإصلاح الاجتماعي ، والنُظُم السياسية ، وشئون الأسرة وما إلى ذلك ،يطول المقال بتسجيلهاهنا في هذا التصدير .
ومعلوم ، أن القرآ ن قد احتوى على علوم شتى ، نافت إلى المئات ،أخرجها أعلام الجهابذة من هذا الكتاب المعجز ، ومن تلك العلوم البارعة :’’ المعرّب في القرآ ن الكريم ‘‘، الذي نحن بصدد ذكره هنا، والجديربالذكرأن أُسوِّف هذا الأمر قليلاً، وأذكر نبذة من تاريخ بدء المدارس الإسلامية ، ونماء اللغة العربية وحركة التآليف والبحوث لدينا في شبه القارة الهندية .
بدأ إنشاء المدارس الإسلامية والكتاتيب في الهند منذ ما سطع فيها فجر الإسلام ونوره ، وأخذ مأخذها في الاتساع والإنتشار طوال القرون، رغم اختلاف الأزمان في ضعفها وقوتها ، وقدكثرت دراسة العلوم الإسلامية في الغابر القريب على بعض مراكز الهند من دهلي ، ولكناؤ ، وخيرآباد ، وبعض المناطق الأخرى ، وعندما قامت الثورة سنة 1857 م ،انقلبت تلك الينابيع التربوية والمناهل العلمية قفاراً ، ولم يكد يبقى فيها هؤلآء العلماء الأفذاذ مبارزين في ميدان العلم والعرفان .
وفي تلك الظروف القاسية الصعبة التي تمر على المسلمين – آنذاك – قام آية من آيات الله وحجة الإسلام قاسم العلوم والخيرات ، الإمام محمد قاسم النانوتوي رحمه الله تعالى وأنشأ مدرسة صغيرة في قرية ديوبند،وسمّاها ب "المدرسة العربية.
كما يقول العلامةالإمام أبوالحسن علي الندوي في كتابه ’’ المسلمون في الهند ‘‘ (114) : "إن أكبر معهد ديني في الهند يستحق أن يسمّى أزهر الهند ، هو معهد ديوبند الكبير ، بدأ هذا المعهد كمدرسة صغيرة لاتسترعي الاهتمام ، ثم لم تزل تتوسع وتتضخم بفضل جهود أساتذتها والقائمين عليها ، وإخلاصهم وزهدهم في حطام الدنيا حتى أصبحت جامعة دينية كبيرة ، بل كبرى المدارس الدينية في قارة آسيا .
ثم انتشر تلاميذ هذه الجامعة في أرجاء المعمورة ، وفي الهند وباكستان وبنغلاديش خاصة فأنشؤا المدارس على غرار جامعة ديوبند ، وقامت هذه الفروع بجلائل الأعمال حيث أنجبت رجالات عبقرية ، ولكن بقي جانب مهم طيلة هذه السنين خامداً خفياً، ألا وهو إحياء اللغة العربية الفصحى في هذه المناطق ، فلم تُحظ مقامها اللائق الجدير، ولم تحتل حظها اللائق المرموق ".
فقد أخذت الجامعة الفاروقية ـ وهي إحدى فروع جامعة ديوبند ـ هذه الفكرة مأخذاً عظيماً في باكستان ، فأنشأت القسم العربي الذي ذاع صيته باسم "معهد اللغة العربية والدراسات الإسلامية" مقتبسة منهجا عن كبرى الجامعات في العالمين الإسلامي والعربي ، وبعد زمن قليل طفق يأتي المعهد بثماره على مختلف المستويات ، ويشتمل المعهد على ستة فصولٍ من الثانوية الأولى إلى الثانوية العالية (بكالوريوس) وذلك في ست سنوات كاملة .
وقد فرض المعهد على الطالب في السنة الأخيرة تقديم بحثٍ علمي يشتمل ـ على الأقل ـ على خمسين صفحة ولاحدَّ للزائد ، وقدتقاطر الطلبة جماعات ووحداناً على المعهد ونهلوا منه حتى وصلت فرقات منهم إلى الصف السادس فكتبوا حسب النظام بحوثاً نيّرة على موضوعات مبعثرةٍ أكثرها تنسجم مع عصرنا الراهن .
ومن أولئك الأزهار المفتحة ، أخونا في الله سجاد بن الحجابي الذي نتكلم على بحثه .وهو ولد يتيم ،لكنه درّة يتيمة، وربّما يكون اليتيم درّة يتيمة فيما رأينا ، ورد علينا كنَورة فتفتح وتوسع وعطر وفاح أمثال زملائه الدراسين في المعهد الذين يقول المعهد عنهم بلسان الحال :
فأغزوا من غزا وبه اقتداري ÷ وأرمي من رمى وبه أصيب
وللحسّاد عذرا أن يشحّوا ÷ على نظري إليه وأن يذوبوا
فإني قد وصلت إلى مكان ÷ عليه تحسد الحدقَ القلوبُ
الذين هم معجزة المعهد والقائمين به زمن تحصيلهم العلوم الإسلامية واللغة العربية ، وبعد تخرجهم في المعهد وفي الجامعة زمن قيامهم بنشاطات علمية وأدبية ، وثقافية ، وتربوية داخل البلاد وفي ربوع العالم، إن شاء الله سبحانه وتعالى .
فسجّاد كان جادّا جدّا في طلب العلم، نسأل الله تعالى أن يرزقه جادةً مستقيمة في مجال الخدمات الإسلامية في المستقبل وكأن الشاعر يقول فيه :
غلام رماه الله بالخير يافعاً ÷ ذليل بلاذلّ ولوشاء لانتصر
فقلت له خيراً وأثنيت فعله ÷ يذمّه الأعداء وأحبّاءه شكر
كأن الثريا عُلّقت في جبينه ÷ وفي خدّه الشِعرى وفي وجهه القمر
وبعد ، فقد شرفت بتسريح النظر في مباحث الكتاب فاجتذبني ، وقرأته مع هدوء، ونصاعة أسلوبه ومن جملة ما أحببته هو بحث’’ هل في القرآن من معرب ؟؟ ‘‘ فقد أطال المؤلف ـ حفظه الله تعالى ـ فبلغ حوالي عشرين صفحة وقد كتبت في استهلال هذا البحث حينما نشر قبل سنين على ساحة مجلتنا ’’ الفاروق ‘‘ الغراء ، فكتبت على جبين المقال : ’’ الأخ سجاد من الطلبة المثاليين في الجامعة ـ خُلقاً ودراسة ـ عطشان المعرفة والتحقيق العلمي الجاد ،دائما تراه يسأل ـ وبكل أدب وتواضع ـ عن مسألة علمية أو كلمة لغوية ، ذاالموهبة واللياقة، وأنت ـ أيها القاري الكريم ـ سترى عبقريته في ضوء البحث الآتي ، بمشيئة الله تعالى ‘‘. ولايزال سيزداد ثقتي بالأخ الفاضل مهما يتقدم بنا الزمن .
وأمّا سائر مباحث الكتاب فأتركه للقاري الكريم ، يعيش في ظلّه برغدِ ورفاهية . وكنت مشتغلاً جدًّا في هذه الأيام في بعض الأمور المهمة لوفاق المدارس العربية والجامعات الإسلامية بباكستان ، والأخرى الكثيرة ولم أجد فرصة سانحة أن أسجل فيها انطباعاتي وخواطري بانفتاح قريحتي ، ورغم ذلك كلّه رأيت ـ ذلك ـ من الواجب ، فاطلقت للقلم العنان فجاد ببعض ماترى .
وفي الختام أقول : إن البحث باقة من الأزهار البهية والأثمار الشهية ، جناها الأخ المؤلف من عشرات كتب التراث ـ على أنواعها ـ ثم صنّفها باقات ملونة وأطباقاً لذيذة ، فهو بُغية الأدباء واللغويين ، والمفسرين ، والمعتنين بأبحاث القرآ ن الكريم ، ونافع للمعلمين ومفيد للمتعلمين .
والله عزّ وجلّ أسأل أن يجعل هذا الكتاب ذخراً للمؤلف ولنا ولجميع أهل العلم في ميزان الحسنات ويتقبل منه قبولاً حسناً .
وصلى الله تعالى على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أبولبيد ولي خان المظفّر
(12 من شهر رمضان 1425 هـ)