صلاح الدين الأيوبي؛ مُحرر الأقصى وقائد حطين
قلعة تكريت؛ قلعة من القِلاع القديمة، بناها الفُرس أيام عزّ دولتهم، وافتتحها المسلمون أيام الخلافة العُمريَّة، رضي الله عنه، فسكنها المسلمون، وحياة الناس تسير فيها كما تسير في سائر قلاع الخلافة، وحُصونها، وقُرَاها، ومُدُنها؛ في شدة الحرب وضراوتها حيناً، وفي خفة السِّلم وسكونها أحياناً، وفي أفراح وِداع المجاهدين أحياناً، وأتراح استقبالهم منتصرين أحياناً، يعيش أهلها في وُدٍّ، ووِئام، ووِفاق، لا يحدث فيها ما ينغِّص حياتهم، ولا يحصل فيها ما يزعجهم في دينهم وديناهم، يحب بعضهم بعضاً، يتعاونون وقت الحاجة، ويتزاورون أيام الفرحة، إذا وقعتْ نائبة يهرع إليها الكل، وإذا استصرخ أحد يلبي ندائه الكل، كأنهم أبناء بيت واحد، أبوهم آدم، وأمهم حواء، كما خلقهم الله تعالى.
وفي سنة 532هـ، حصل حادث غريب مقيت، فزع له أهل الغيرة والشهامة والكرامة من أهل تكريت، وخَبرُه: أن قائد جيش آذى امرأة في عِرضها وشرفها فاستغاثتْ ضِدّه، فقام في نجدتها أسد الدين شِيرْكُوه، أخو نجم الدين أيوب، والي القلعة، فقتل ذاك الرجل الخبيث!
انتشر الخبر في سرعة البريق، ووصل إلى أرجاء القلعة، بل إلى والي بغداد، مجاهد الدين بهروز، صديق القائد القتيل، فأراد أن ينتقم لصديقه من أسد الدين وأخيه نجم الدين، فطلب منهما مغادرة القلعة مهدِّدا بقتالهما إنْ حاولَا الممانعة.
وصل رسول بهروز إلى نجم الدين أيوب، وهو يحمل رسالة مُرسِله إلى مرسَله بمغادرة القلعة في تلك الليلة! فوافق وصوله ولادة مولود جديد لنجم الدين!
يا له من وقت عصيب يخرج فيه هذا المولود إلى الدينا! ويا له من رحلة صعبة يبدأها هذا المولود في الدنيا!
تشاءم نجم الدين بمولوده! وهَمَّ بقتله! ونسي أن الأمور بيد الله تعالى! وأن الخير قد يأتي في صورة الشر! وأن بواطن الأمور قد تحمل رحمة، وإنْ كانت ظواهرها من قِبَلها العذاب! فذكَّره أحد ناصحيه بهذا، فرجع إلى رشده وهداه، واستغفر ربّه، واستحيا من فِعلته.
يا تُرى من هذا المولود؟ وما اسمه ومسماه؟ وما خَبره وخُبره في قابل أيامه؟ وماذا كان مصيره؟ فهل جلبَ لأهله الشر؟ كما ظنَّ أبوه! أم كان حامل بشارة خيرٍ وفألٍ من الله تعالى لأهل نجم الدين في تلك الليلة العصيبة؟
لِنستمرَّ في سير الأحداث حتى نرى الأجوبة بواقع الأعين، لا بمسامع الآذان.
المولود ومصير أسرته بعد مغادرة القلعة
هو يوسف بن أيوب بن شاذي الملقَّب بـ (صلاح الدين)، وُلد ليلة خروج أسرته من تكريت عام 532هـ، فخرجتْ أسرته، وأسرة عمه في رحلة شاقَّة مجهولة النهاية والمصير! خرجوا ووجوههم على ظهر الأرض تائهة! وقلوبهم على فراق تكريت وأهلها حزينة! إلا أن الله تعالى أدرك الأسرتين الكريمتين برحمته الواسعة، ومِنَّته الكريمة، فوصل خبر خروجهما إلى عماد الدين زنكيّ، صاحب الموصل، فاستضافهم إلى بَلاطه، ورحَّب بهم في دولته، وأكرم وفادتهم عنده، وأنزلهم المنزلة التي تليق بوالٍ مثل نجم الدين، وقائدٍ مثل أسد الدين، فجعلهما من كبار قادته وأكابر رجال دولته!
نشأة صلاح الدين الصغير
في ضيافة عماد الدين وبلاطه تربى يوسف الصغير، وقضى حياته الأولى في تعلم قراءة القرآن الكريم، ومبادئ القراءة، والكتابة لدى مدرسه الخاص، وكذا التدرب على فنون القتال، مثل الفروسية، والرماية، واستخدام أنواع الأسلحة المتنوعة، فظهرتْ ملامح العبقرية في جميع أعماله ونشاطاته، فكان في حلقة الدرس تلميذا زكياً، وفي ميدان التدريب متدرباً قوياً، وممارساً بارزاً، يتميز بعقلية راجحة متأنية، وذهن وقَّاد مع ميل إلى العزلة والانفراد، والتفكير الدائم، وحسن التدبير للأمور.
صلاح الدين القائد لشرطة
لفتتْ هذه الصفات المتميرة لصلاح الدين نظر والده إليه، فحاول تقريبه إلى نور الدين زنكي، الذي ولي الولاية بعد استشهاد أبيه، أحبه نور الدين عند أول لقائه، فقرَّبه إليه، وجعله رسوله إلى وُلاة أقاليمه، وقُوَّاد جيشه، كما كان يسند إليه بعض مَهامّ الدولة الصعبة، فأداها على أكمل وجه، وأفضل طريقة مع حداثة عمره، وصِغَر سنه، فأعجب به نور الدين، فجعل يرقّيه في المناصب، ويُدْرِجه في المراتب حتى جعله قائد شرطة دمشق، وهو لا زال في ريعان شبابه!
صلاح الدين الوزير في مصر
وفي عام 558هـ سار صلاح الدين مع عمه أسد الدين شيركو إلى مصر بأمر من نور الدين، وهناك ظهرتْ موهبته الحربية، وحنكته الجهادية، وعبقريته الفذة في التدبير والسياسة، وقد أصبح أسد الدين وزير مصر بعد مقتل شاور، فساعده صلاح الدين في الوزارة وقيادة الدولة، وقويتْ علاقته مع العاضد، الخليفة الفاطمي المزعوم، عن طريق عمه الوزير، وكان يحب صلاح الدين ويقرِّبه، ويستخدمه في شؤونه الخاصة والعامة، وفي سنة 564هـ وافتْ المنية أسد الدين في أرض مصر، فحزن عليه صلاح الدين حزناً شديداً، وأراد انعزال السياسة والقيادة بمحاسنها ومثالبها، ولكن العاضد لم يتركه يبعد عن مسرح السياسة فاستوزره بعد عمه، وقام بأعباء الوزارة بأمر نور الدين خير قيام، ولما قويتْ شوكته في مصر، وثبتتْ قدمه بأرضها عزل العاضد من الخلافة، واستخطب باسم الخليفة العباسي في بغداد، وبذلك جمع كلمة المسلمين على الخليفة العباسي، وقضى على الدولة الفاطمية الشيعية.
صلاح الدين السلطان في الشام ومصر
وفي سنة 569هـ توفي الملك العادل نور الدين محمود زنكي رحمه الله تعالى، فأقيمَ مقامه ولده الصبي إسماعيل، الذي لم يبلغ الحُلُم بعد! وناب أشرار الخلق في سيادة الدولة وقيادتها بما يتوافق هوى نفوسهم، فأدرك صلاح الدين خطر هذه المهزلة، وأسرع إلى الشام ليتدارك أمر المسلمين قبل أن ينفطر عِقده، فدخل دمشق وقبض على رؤوس الفتنة، وقُوّادها، وهرب بعضهم إلى المدن والقلاع المجاورة، وعزل السلطانَ الطفل (!) عن العرش، فحفظ بذلك أرض الشام من شرٍ، لا تُحمد عقباه، ودعا وُلاة المدن والقلاع والحصون إلى توحيد صفوف المسلمين، وجمع شملهم للوصول إلى الغاية العُظمى التي يحلمون بها، وهي تحرير بيت المقدس، وتطهير أرض الإسلام من الصليبيين الأشرار، فانضم بعضهم طوعاً، وأرغمَ بعضَهم كُرهاً على الانضمام.
منَّ الله تعالى على المسلمين بنعمة الوحدة بعد الفرقة، ونعمة الأخوة بعد العداوة، ولم يبق أمام صلاح الدين إلا أن يستعد لمعركة حاسمة تسأصل جذور الكفر، وتجتاح شأفته من ديار الإسلام، وبذلك يرجع كل شيء إلى نصابه، والأقصى إلى أهله، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله!
صلاح الدين القائد في حِطِّين
علتْ على دولة الإسلام راية الوحدة! واجتمعتْ كلمتهم على الإسلام بقيادة صلاح الدين، هذا الدوح الشامخ الذي تجسدتْ فيه نعمة الله تعالى بالمؤمنين، فنوى إزاحة العراقيل في طريقه إلى بيت المقدس، فاستعد العسكر الإسلامي يقوده العلماء والفقهاء، والمسلمون وراءهم من كل صوب وحدب، ونزحوا إلى بحيرية طبريَّة قبيل صلاة الجمعة، تيمّناً بساعة الإجابة، ودعاء الخطباء والمسلمين في المنابر والمَحارب للنصر والتمكين لهم، وانتظر السلطان قدوم عبدة الصليب ليسهل دفنهم في واد الموت عند سهل طبريَّة، ولكنهم خافوا وارتعدوا من المسلمين فلم يتقدموا، فهجم السلطان على قرية الصبيرة، وقتل حاميها، وأسر أهلها، فلما بلغ الصليبيون ذلك لم يتمالكوا إلا أن ألقوا بأنفسهم في مكامن صلاح الدين، فالتقى الجيشان، جيش الإيمان وجيش الصلبان في ساحة طبريَّة يوم الجمعة 23/4/ فتحامل كل فريق على الآخر، "والتحم القتال، واشتد الأمر... وضاق الخناق بالقوم... وهم، سائرون كأنّما يساقون إلى الموت وهم ينظرون، وقد أيقنوا بالويل والثبور، وأحست أنفسهم أنهم في غدٍ زوّار القبور، ولم يزل الحرب يلتحم، والفارس مع قرنه يصطدم، حتى لم يبق إلاّ الظفر! ووقع الوبال على من كفر!" كما يقول الإمام القاضي ابن شداد الذي كان أحد قُوّاد الجيش الإسلامي في أرض حطين، فنزل السلطان صلاح الدين من فرسه، وسجد لله تعالى شاكراً، وبفضله مُقرّاً.
هكذا نصر الله أهل الإيمان، ودحض أهل الشرك والطغيان.
صلاح الدين في طريقه إلى بيت المقدس
وما أنْ ظفر صلاح الدين في حطين حتى أزاح بقية العراقيل من طريقه إلى بيت المقدس، مسرى نبينا الكريم، ومثوى الأنبياء والمرسلين، وقد زاد عدد المجاهدين للمشاركة في هذه المعركة المقدسة لتحرير البيت الكريم، الذي يشكو ظلم الصليبيين، فسار صلاح الدين إلى الديار التي بارك الله حولها بجيش وعدة وعتاد، قلما رأتْ السماء مثلها! والأرض نحوها! فحاصر المدينة، وقاتل الصليبيين شر القتال حتى أرغمهم على الاستسلام لكتيبة النصر، وجيش محمد صلى الله عليه وسلم! فأعز الله تعالى أهل الإيمان! وأذل حزب الطغيان! ودخل الجيش الإسلامي الأرض المباركة في 27/رجب/583هـ رافعين راية التوحيد مهللين مكبرين! فقرَّتْ عيين الأقصى بعودة أبنائه إليه بعد 88 سنة!
لبيِّك يا أقصى! ها قد عُدنا إلى حضنك!
لبيك يا أقصى! ها قد رجعنا إلى حماك!
وطارت حمامات الخير حاملة بشائر النصر إلى المسلمين في أرجاء العالم! وانتشر الرسل حاملين رسائل البشرى إلى خليفة المسلمين وملوكهم وأمرائهم في كل مكان! وقد كتب العماد الأصفهاني وحده 70 رسالة نصر إلى العالم الإسلامي! فتوافد المسلمون من كل بقاع الأرض إلى الأقصى! فقرع الشعراء! وخطب الخطباء! فكان يوماً مشهوداً بكل ما تحمل الكلمة من معنىً!
صلاح الدين وأسرى الصليبيين
قدَّر صلاح الدين فدية كل رجل 10 دنانير، وامرأة 5 دنانير، والصغير 4 دنانير، وأطلق سراحهم مقابل هذا المبلغ الزهيد! ولم يتعرض الصليبيون لأي اعتداء أو انتهاك من قبل الجيش الإسلامي، ولم يستطع كثير من الصليبيين، لا سيما الفقراء منهم، دفع هذا المبلغ الزهيد، فوقعوا في الأسر، فتقدم الملك العادل أخو صلاح الدين فطلب منه أن يمنحه ألف أسير مقابل جهاده معه طوال الفترة الماضية، فمنحهم له، فأطلق سراحهم! وجاءتْ النساء والأرامل إلى صلاح الدين فشَكَونَ إليه قلة زادهم، ووقوع أزواجهن وأبنائهن وآبائهم في أسره، فأمر بإطلاق سراح أسراهن! كما أطلق سراح كل من لم يستطع أن يدفع الفدية من كبار السن! وهكذا تعاملنا مع قومٍ دخلوا بيت المقدس سنة 1099 ورُكَبهم منغوصة في دماء المسلمين! ولكنها أخلاق الإسلام!
ملكنا فكان العفو منّا سجيَّة *** فلما ملكتم سال بالدم أبطحُ
وحسبكم هذا التفاوت بيننا *** وكل إناء بالذي فيه ينضحُ