هل القراءةُ على الشاشة الذكيةِ تُخرِّجُ عالِماً ذكيّاً..؟
صحیحٌ أنّ القراءةَ على الشاشة الذكيةِ فيها خير، أو أنّها خيرٌ من لا شيءٍ، و أنَّ المرورَ على ما يسبح على سطحها المائّي، مِن معلوماتٍ و أرقامٍ، يُكسِب المعلومةَ، و يزيدُ في الخِبرةَ، و يُزَوّد بالفائدةِ.
و خيرٌ للنهِم بالقراءة أن يُطفىء به نهَمَه، و هو مسافرٌ على مقعد حافلةٍ، أو واقفٌ في الطابورِ الخامس في قاعةِ انتظارٍ، حيث لا يجد كتابا حقيقيا "ورقيّا" يقرأه.
و لكن صحيحٌ أيضًا أنّ فيها شرًاّ يُلهي "القارىءَ الفجَّ الناشيء" مثلي (و القيدُ ملحوظ) عن خيرِه.
و ربَّما يغلبُ شرُّه خيرَه، فيهوي به في شبكتِه العنكبوتية، يخرج فيها من حوضٍ إلى آخر، سلسلةٌ من المنوّعات، لا تنتهي حلقاتُها، و لا تزال تمتدّ كامتدادِ أمعاءِ الحمارِ، لا تُعرَف لها نهايةٌ.
و لكن السؤالَ الأهمّ : هل التلقّي من" سماحةِ الشاشة"- مقروءا أو مسموعا- یخرّجُ المثقّفَ، و القاريءَ الواعي، و العالِمَ الراسخ في علمِه، و الأديبَ المبدِع في عطائِه.؟
ليسَ من حدّي أن أنتصب للجواب، الجوابُ عليه أكبرُ من قامتي، و لكن دعوني لِأحِيلَ زمامَ الإجابة إلى أستاذٍ كبيرٍ، و أكاديمي مرموقٍ، مُعترَفٍ له بالفضلِ و العصاميّةِ في التربية و علم التاريخ. و هو الأستاذ الدكتور عمادُ الدين خليل۔
و كلمتُه سمعتُه يقولها في بعضِ برامجه، بلهجةٍ ملؤها الثقة و الاعتداد، و بِما تنمّ عن تجربتِه التعلمية الواسعة، و الممتدّة على عدّة عقودٍ، و المكتَسَبةِ من كُبرَياتِ الجامعات.
قال الدكتور:
" إنَّ العكوفَ عشرِين سنةً أمامَ الشاشةِ لا تخرّجُ مثقّفا، و لا تخرّج عالِما، و لا تُخرج... و لا ...، و لكنّما تخرّجُهم جميعا القراءة المنتظمة الواعية أمام الأستاذ"
و اعذِروني يا سادَة إن خاننتني الدقّةُ في النقل، و هكذا أحفظه منذ زمانٍ.
و قد بات ثابتاً بالتجربة و باعتراف علماءها أن الثقافةَ المستَقاةَ من ثَدي الشاشة لا تعدو أن تكون ثقافةً هشّة ضحلةً، لا تغنی عن جوعٍ.
و تبقى على سطح الذهنِ أشبهَ بالمرقوم على الماءِ، لا يلبث حتى يصيرَ هواءً، تماما كما تطيرُ مِن على سطحِ الشاشة بظغطةِ زرّ واحدة.
و لا تستقرّ استقرارَ العلمِ الراسخ المأخوذِ من بطنِ الكتابِ الورقيّ المطبوع، أو المَصوغ على الأقلّ في صيغة إلكترونية مقروءةٍ شبهَ الأصل.
و السببُ معلومٌ.
السبب أن القارىءَ غير الناضج، الذي يرد على الشاشة لا يلبث أن تستهويه منوّعاتها، تُراوِدها عن نفسِها، فيشرعُ الواردُ الظمأ يتنقّل بين منوّعاتِها، و يخوض في متاهاتِها، يقفِز من برنامجٍ إلى آخر، و لا يفتأ مذبذَبا بين ما تعرِضه عليه الشاشة،من غثّ و سمينٍ، و جيّد و زائفٍ، و بينَ ما يهدِف إليه من قراءةٍ كتابٍ، أو مجلّة، أو بحثٍ.
فيخرج من خِضمّها ، مشتّتَ البال، صفرَ اليدَين، كحَاطِب ليلٍ.
لا يدّخِر منها حصيلةً علميةً مترابطةَ الحلقات، محكمةَ النتائج، تنفعه أو ينفع الناس.
. من شاءَ فليجرّب، و من جرّبَ فليُعِد التجربة!
و فضلاً عن القراءة الذكيّة المباشرة في الشاشة ،فقد أكّدت التجربةُ العلميّةُ الحديثةُ أن القراءةَ بمَبعدٍ عن الهاتِف الذكيّ تكون مثمِرةً، و اكثرَ تركيزًا، منها بجوارِ الهاتِف، بفارقِ خمسين في المائة. هذا يعني أنّ "هذا الصاحِب الأنيق الذكي" يسرق نصفَ توجُّهاتِه و ميولِه.
إذن، عندَما نتحدّث عن القراءة، و دورِها في صُنعِ الكُتّابِ و العُلماء، فإنّا نعني القراءةَ الواعية الهادفة المنتظمة. و هي خيرُ ما تكون أمامَ الأستاذ، و في مُحيط المدرسة، حيث يسودُ الجوَّ سحابةٌ روحانيةٌ، و سكينةٌ علميةٌ، و رابطةٌ قلبيَّةٌ.
و لا نعني أبدا "القراءةَ العشوائیة" التي لا يربِطها خيطٌ معرفيٌّ واحدٌ.
و ليست المشكلة في الشاشةِ بحدّ ذاتِها، فهي وسيلةُ خيرٍ و علم و معرفةٍ، مثلَها وسيلةَ شرّ و فسقٍ و معصيةٍ.
المشكلةُ إنما تكمُن في سَيل هذه "المنوّعات المُغرِية" التي لا يستطيع قاريءٌ غِرّ ناشيء مثلي التماسكَ أمامه، فيُفقِده ترکیزَه، و يشتّت بالَه، و يبعثِر خاطرَه.
الشاشةُ بما تقذِف إلى سطحِها من منوّعاتٍ، و أخرى مُغرِياتٍ، تسلُبه هذا التركيز، و تُقحِمه في جَحيمٍ معرفيّ مؤصَد الأبواب.
و أيُّ علمَ يُحصَّل إذا أعوزَه التركيز ؟ و أية ثقافةَ تُكتَسب إذا لم يقرنها الانقطاع عن كل شيء سواه !؟
و لِلعلمُ-کما تعرفون إباء و غيرَة كما للناس، و هو يأبى أن يدخل قلبا مقَسّما مشغولا، يسَعه و يسَع غيرَه، و هو يأبى أن " يعطيه بعضَه حتى يعطيَه كلّه".
حَصاد اليوم : غرّةُ ذي القعدة 1441ھ