الإمام شرف الدين أبو توامة؛ محدث الهند الأول

امتزجت الخواطر النفسية مع الثوابت التاريخية في البحث عن سيرة الإمام والداعية الشيخ شرف الدين أبي توّامة.

وصلتُ إلى القرية النائية مساء ذلك اليوم الموعود، ودخلتُ مسجدها لأصلي العصر مقصِّرًا، وسألتُ خادم المسجد عن قبره، فدلَّني عليه مشكورًا، وخرجتُ لأزور قبره إثر الصلاة المؤدَّاة، فسلمتُ عليه تحية الأحياء للأموات، ودعوتُ له بالرحمة والمغفرة، ثم حوَّلت وجهي شطر مكتبته ومسكنه اللتين تحملان ذكرياته طِوال هذه المدة المديدة، وسألتُ نفسي وقت العودة: لماذا هذا القبر هنا؟ في هذه القرية النائية من البلد؟ أليس من الطبيعي أن يكون فيما وراء النهر؟ لأنه ينتمي إلى تلك الأرض الخصبة من تاريخ الإسلام المجيد.
يا صاحِ! أين تلك البلاد من هذا الوادي؟ ولمَ قطع الصحاري الفيحاء، والفيافي الجرداء ليحطّ رحْله في هذه القرية التي لا تكاد تجد لها ذكرًا في التاريخ الحاضر؟ لماذا؟ ما السبب يا تُرى!
نعم، إنه محبة الله تعالى، والتفاني في ابتغاء مرضاته سبحانه، وامتثال أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، واتباع سنته، إنه شيء يَقِر في القلب، ويصدِّقه العمل.
نعم، أتحدث عن المحدث الكبير، والداعية الشهير، الشيخ الإمام العلامة شرف الدين أبي توَّامة اليماني المتوفي في حدود سنة (700هـ)، الذي هاجر إلى الديار الهندية لدعوة الناس إلى دين الله تعالى، وإرشاد المسلمين إلى الإسلام، وتعليمهم أحكام دينهم الحنيف.
إن التاريخ ضنَّ علينا، ولم يعطنا أي تفاصيل عن مراحل حياته الأوَّلية، أين وُلد؟ ومتى؟ وإلى أية قبيلة انتسب؟ وأين درسَ؟ وعلى يد منْ؟ ومتى تجشَّم عناء السفر إلى هذه الديار؟ ومنْ كانوا رفقاء سفره؟ وكل ما استطعنا أن نصل إليه، بعد نحْت بطن التاريخ، أنه وصل إلى دهلي (عاصمة السلطنة آنذاك) أيام السلطان غياث الدين بَلْبَنْ (تاريخ الحكم: 664-686هـ الموافق 1266-1287م) واتخذ منها موطنًا لدعوته، فدعا الناس إلى الله تعالى بخُلُقه قبل لسانه، وبمعاملاته قبل كلماته، فالتفَّ الناس حوله، وجعلوا منه سلطانًا تفوق قوته الروحية قوة السلطان المادية بـدرجات، فوسوسَ الشيطان إلى قلب السلطان، مع طِيبه وعدالته، وهمس في أذنه بأن هذا الرجل قد يسيطر على سلطته المادية في أيام قلائل، وإنْ كان الشيخ في شغل عنه وعن سلطته بدعوة الناس وإرشادهم ونصحهم، فترجَّى السلطان من الشيخ أن يتجه إلى العاصمة الإقليمية شُونَارغَاوْ، وأن المسلمين هناك أحوج إليه من سكان دهلي، فاتجه إلى شُونَارغَاو في حدود سنة 674هـ الموافق 1277م، وبدأ فيها الدعوة إلى الإسلام وتعاليمه الصحيحه بالحكمة، والموعظة الحسنة.
أسَّس الشيخ مدرسة في شُونَارغَاو لتعليم الناس وتربيتهم على منهاج النبوة، وفي غضون أيام قليلة طارتْ شهرتها في أقطار الهند، فطارتْ فراشات العلم إليها، وشرعوا يملؤون أوعيتهم من معين هذا المنهل الصافي، فيرجعون إلى أقوامهم منذرين، وفي هذه المدرسة بدأ الشيخ تدريس بعض كتب السنة النبوية المطهرة، ليروِّي عشطى العلوم النبوية من منهل الإسلام العذب الزلال، فكان يدرس صحيح البخاري، وصحيح مسلم، ومسند أبي يعلى وغيرها من كتب السنة بالأسانيد المتصلة إلى أئمتها، فكان وسام هذا الشرف في نصيب شونار غاو، العاصمة الإقليمة القديمة، وإحدى مدن بنغلاديش الحالية.
بعد أنْ قضى الشيخ حياة حافلة في الدعوة، والتربية، والتعليم لبَّى نداء ربه سبحانه في حدود سنة 700هـ، وقد وُوري جثمانه التراب في معقل دعوته ومنبت تربيته، شُونَارغَاو، فرحم الله تعالى المحدث الكبير الإمام شرف الدين أبا توامة اليماني، وجزاه عنا وعن الدعوة الإسلامية خيراً، وأدخله فسيح جِنانه، ووفقنا لتكميل أعماله، والسير على مسيرته، وألحقنا به في دار كرامته، آمين.
أيها الباحث عن الآثار المادية للإمام شرف الدين اليماني، خذْ الجانب الأيمن من قبره، وسرْ بالسِّكة الضيقة إلى الأمام، وانحنِ إلى اليمين مرتين أو ثلاثة لتجد أمامك ذاك المبنى الذي وقف شامخًا أمام منصة التاريخ، ومناضلًا عواصفه، يحمل في ثناياه البقية الباقية من الآثار الشرفية المادية.
إن هذه الأطلال بكتْ كل هذه السنين حتى تسّاقط بعض جوانبها على الدعوة التي انقرضتْ، والدروس التي اندرستْ، والعبادات التي توقفتْ...

إن هذا المبنى المكوَّن من طابقين، يحمل الكثير الكثير، قد يدرك بنو الإنسان بعضه، ولا يدرك بعضه الآخر، ولعل ما يدركه أقل بكثير مما يريد أن يقوله...

إن الطابق الأرضي من المبنى لا زال يحمل آثار الرفوف التي كانت مملوءة في الماضي بـكتب العقيدة، وعلم الكلام، والتفسير، والحديث، والفقه، وعلم الفلك، والزراعة، والفيزياء وغيرها من العلوم التي كانت تدرَّس في مدرسته، وإنَّ الطابق الداخلي في الأرض ليذكرنا بعبادة هذا الداعية الذي كان مثلًا للعالم العابد القانت لله تعالى.
وقد زار المفكر الإسلامي الكبير الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله تعالى هذه المنطقة في القرن الماضي، بعد بحث حثيث، وبكى طويلًا برؤية هذه الآثار، التي تذكِّر بالماضي المشرق، وتبكي على الحاضر المؤلم، فأشار على تلميذه الشيخ عبيد القادر الندوي لتأسيس مدرسة تحمل اسم الشيخ الكبير، فأسس (مدرسة الشرف الإسلامية) على مقرُبة من قبر الإمام، وقد بلغ عدد طلابها الآن حوالي مائتي طالب، ويدرس فيها إلى الصف التاسع، ولعلَّ الله تعالى يمنَّ عليها، فتزدهر كسَابقتِها، والله على ما يشاء قدير.

حسين محمد نعيم الحق

مساعد باحث بمركز ابن خلدون، جامعة قطر
مجموع المواد : 16
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2024

التعليقات

يجب أن تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب

يستغرق التسجيل بضع ثوان فقط

سجل حسابا جديدا

تسجيل الدخول

تملك حسابا مسجّلا بالفعل؟

سجل دخولك الآن
المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2024