القناعة سر السعادة

عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب فضل التعفف والصبر والقناعة والحث علی کل ذلك

القناعة (contentment) لا تعني القعود عن العمل مطلقا.. فلفظ القناعة ليس نقيضا للعمل، وإنما هو نقيض للنهم والشراهة.. فينبغي على المرء أن يعيش حياة حافلة بالجهد الفعال والنشاط الدائب، وأن يقي نفسه ـ مع ذلك ـ  من الرغبة في التوسع وطلب المزيد.. لأن الرغبة في طلب المزيد لا تدع صاحبها ينعم بالهدوء والطمأنينة الداخلية أبدا.

والقناعة لا علاقة لها بالعمل و إنما بنتيجة العمل.. إذ العمل مقتضى الحياة.. وبالتالي لا يمكن أن يوجد هناك إنسان يعد بين الأحياء وحياته فارغة عن العمل على الإطلاق.. وأما النتيجة فهي ترتبط بالكثير من الأشياء الخارجية.. ولذا يجب على المرء من جهة - ألا يقصر في السعي والعمل بقدر المستطاع، وأن يكون مستعدا ـ  من جهة ثانية ـ للرضا بما تيسر فيما يتعلق بالنتيجة.

وإذا كان العمل مما يقدر عليه الإنسان دائمة، فإن النتيجة تتوقف على عوامل أخرى خارجة عن طوقه.. ولذا فالقناعة وحدها هي التي تمثل المنهج الواقعي للعيش في هذا العالم.. والمقصود

بذلك هنا القناعة بالنتيجة لا بالسعي.. فكونك قانعا بالنتيجة هو الواقعية بعينها، وأما كونك قانعا بالعمل فيعني الانتحار.

وثمة معيار بسيط للموقف الصحيح في هذا الخصوص.. وهو يكمن في مواصلة الجهد من غير إخلال بالهدوء الذهني.. فعلى المرء أن يحاول جهد طاقته بحسب الإمكانيات والفرص المتاحة له، ولا يرغب في النتيجة إلاّ إلى الحد الذي يتمكن معه من الاحتفاظ بهدوئه الذهني.. وأما اذا صارت رغبته في إحراز النتيجة بحيث تسلب هدوءه الذهني وتكدر صفو خاطره وتقض عليه مضجعه، فليدرك إذا، أنه قد خرج من دائرة القناعة الى دائرة الجشع والشراهة.. والجشع مرفوض في كل مظاهره.

والإنسان القانع يعتبر المال وسيلة لسد الحاجة، بينما ينظر الإنسان غير القانع إلى المال على أنه هدف مقصود لذاته.. ومن ثم ترى القانع يطمئن إذا ما حصل على المال بقدر حاجته.. ولكن غير القانع لا يكاد يطمئن أبدا، لأن رغبته في اقتناء المال لا تعرف حدا تقف عنده، وإنما هي تزداد مع الوقت قوة ورسوخا في أعماق النفس.

وهذه القناعة لا تنحصر في إطار المال وحده، وإنما تنسحب على شئون الحياة كلها.. فكل انسان، بغض النظر عما اذا كان يعمل موظفا عاديا في مؤسسة ما، أو يرأس حزبا من الأحزاب السياسية، أو يشغل منصبا رفيعا من مناصب الحكومة، أيًّا كان موقعه، سيجد نفسه دوما بين خيارين لا ثالث لهما: أولهما القناعة بالمتاح، والآخر هو الاندفاع وراء ما ليس بالمتاح..

ومنهج القناعة يتلخص في أن يرضى هذا الإنسان بالواقع أي يتقبل الدرجة التي أوصلته اليها الظروف والأحوال فيأخذ في أداء واجبه بهمة ونشاط.. ويستمر راضيا عن الوضع المتاح له بالفعل.. وإن استطاع يوما أن يحصل على مزيد من الترقية وفق الأساليب المعتادة والمشروعة فبها ونعمت، و إلا بقي حيث وضعته الأقدار يؤدي ما عليه عن طيب نفس وارتياح بال.

ان الظمأ حاجة فطرية لدى الإنسان.. ولكنه قد يتحول الى نوع من المرض.. فالرجل السليم حين يظمأ لا يطلب من الماء إلا بالقدر اللازم للارتواء، فما إن يشرب مقدار حاجته من الماء حتى يهدأ ويستريح.. وأما المصاب بالظمأ المرضي فإنه لايزال يشرب ولايزال يصيح: هل من مزيد؟! وأي مقدار من الماء، مهما كان عظيما لا يروي ظمأه ولا يشفي غليله.

إن مثل القانع في هذه الحياة كمثل الظمآن السليم.. ومثل غير القانع كمثل الظمآن المريض.

 

نشر في : الاتحاد، حديث الجمعة (الملحق الأسبوعي)

الجمعة 4 رجب 1417 ، الموافق 15 نوفمبر 1999م

 

    أبو صالح أنيس لقمان الندوي

    رئيس إدارة البحوث والترجمة بمؤسسة سدرة لدمج ذوي الإعاقة
    أبو صالح أنيس لقمان الندوي هو رئيس إدارة البحوث بمؤسسة سدرة لدمج ذوي الإعاقة (أصحاب الهمم)، حيث يدعم فريق المؤسسة بطرق متنوعة كمهني واسع الخبرة.
    لديه ما يربو على 25 عاما من الخبرة في مجال التربية والتعليم والتوعية، ويعتبر أول غير عربي مرخص له من قبل وزارة التربية والتعليم في دولة الإمارات بتدريس اللغة العربية.
    وقد ترجم إلى العربية وشارك في تأليف العديد من الكتب باللغة الأردية والإنجليزية حول قضايا مهمة.
    وهو عضو في العديد من اللجان الاستشارية ولجان التحكيم، منها: فريق الاعتماد الأكاديمي بوزارة التربية، ولجنة التحكيم في جائزة الشيخ محمد بن راشد للغة العربية، ومستشار أكاديمي فخري لمدرسة أبو ظبي الهندية.
    تخرج الأستاذ الدكتور أبو صالح عام 1985م في دار العلوم ندوة العلماء، مدينة لكناو في الهند، حيث تخصص في الأدب العربي وعلوم الشريعة الإسلامية.
    والأستاذ من الغيورين على العربية الفصحى والمنادين بحرقة وإخلاص بحشد الطاقات وتكريس الجهود على كافة المستويات لأجل حمايتها مما يسميها "التلوث اللغوي" الذي يكاد يذهب ببريقها وينخر جذورها الأصيلة.. ويحث على الالتزام بالفصحى كتابةً وتحدثا كواجب وطني وديني وثقافي ومهني.

    مجموع المواد : 11
    شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025

    التعليقات

      يجب أن تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

      إنشاء حساب

      يستغرق التسجيل بضع ثوان فقط

      سجل حسابا جديدا

      تسجيل الدخول

      تملك حسابا مسجّلا بالفعل؟

      سجل دخولك الآن
      وسوم متعلقة
    • #القناعة
    • #السعادة
    • اكتب معنا


      يمكننا نشر مقالك على شبكة المدارس الإسلامية، دعنا نجرب!

      أرسل من هنا

      المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
      الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
      شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025