الغزل في زمن الحرب
من اللافت أن موضوع الغزل يطغى على غيره من المواضيع في أشعار كثير من الشعراء، في الوقت الذي تحترق فيه الأوطان في أتون الحروب .. وتشتعل النفوس بنار الحقد والكراهية
والسؤال الذي يراودني .. أليس للشعر رسالة وللكلمة قداسة وحَمْلُها أمانة؟ أليس للشعر وظيفة تأثيرية إضافة لوظيفته الجمالية تستثير وتستنهض الهمم وتحرّك المشاعر؟ أليس الشاعر حامل روح الأمة وثقافتها .. ؟ لماذا يَكثُر الغزل في أشعار كثير من الشعراء في ظل ظروف الخوف والرعب والموت والدمار؟ هل يكون الغزل في هذه الحالة نابعا من عاطفة الحب التي هي بعض ما تثيره الطبيعة في النفس تجاه المرأة ، أم أنه التعبير عن الحب الضائع الذي يبحث عنه الشاعر ويؤمن به كفكرة مجردة عن الغايات والشهوات، تلغي أبعاد الزمان والمكان؟
ربما نتحسس الإجابة فيما يتردد في شعر الشاعر من تجارب عاطفية يعبّر عنها بصور مختلفة، نستبطن من خلالها مكنونات اللاشعور والانفعال على المستويين: النفسي والدلالي الذي يعكس موقفه ورؤيته في الحياة …
يبدو الشاعر في شعر الغزل مفتونا بالمرأة ومفاتنها الحسيّة، جمالها وإشراقتها وجاذبيتها ودلالها، فيرسم لها صورا تجتمع فيها كلّ القيم الجمالية التي يحبها ويعشقها والتي تتلظى نفسه من أجل الوصول إليها … هل هو الجوع العاطفي بسبب جفاف العلاقات في واقع اتسم بالاضطرابات والخوف والجوع وانعدام الأمن، أم أنها رغبات مكبوتة لدى الشاعر وحلم يسيطر على اللاشعور ينساب إلى شعره، حلم الهروب من قسوة الواقع والعالم المحفوف بالمخاطر، هو الذي يدفعه إلى اللجوء إلى حضن المرأة ينشد الحياة واللذة والفرح … حيث الجمال والدفء والأمان بعيدا عن بشاعة الحرب وويلاتها وقبح الواقع …
ولا تكاد تخلو قصيدة الغزل من الأحزان التي تعتصر قلب الشاعر وروحه وتستنزف دموعه وعبراته لما يلاقيه من حرمان وعجز ويأس من الوصال .. فهل هو الحنين والإحساس العميق بالحسرة والألم والعجز عن تحرير روحه من ظلمات القهر واليأس تحت ضغط الشعور أمام مآسي الحرب وخواء الواقع … ؟
والمحبوبة في قصيدة الغزل في أغلب الأحيان مفارقة أو هاجرة، وتغلب على الشاعر الذكرى تؤرقه وتقلق ليله، وقد انسحقت روحه وآلمه الفراق وعذبه .. فهل فراق المحبوبة في شعر الشاعر هو المعادل الموضوعي لغربته وغربة الأوطان ورحيل الأحبة وتشتت الجمع وانقطاع الرجاء … لذلك نراه حين يستبدّ به الحنين يلجأ إلى استحضار طيف الحبيبة من الغياب يخاطبها ويعيش اللحظة لعله يعوض بذلك الحرمان ويجلو ظلمات نفسه ويحقق مراده؟ على الرغم من أن الطيف (الحلم) الذي تمثله المرأة بضعف طبيعتها، والذي تتجسد فيه رغبة الشاعر وأمله في الحياة الناعمة بعيدا عن المخاطر وأهوال الحرب، سرعان ما يكتشف الشاعر هشاشته حين يصطدم ببشاعة العالم …
قد لا يعيش الشاعر تجربة العشق فعليا، ولكن نجد شعره يموج بصور عشق المرأة والغزل الحسي والعذري … لعل الشاعر المسكون بالخوف في حاضر مثقل بالمشكلات والصراعات، وجد ضالته في الغزل للتعبير عن موقفه الفكري وطموحاته وتطلعاته في إدانة الواقع ورفضه، وبنفس الوقت النأي بنفسه عن التهديد والمخاطر التي قد يتعرض لها طلبا للسلامة … فيجد في الغزل متنفسا يتخفف فيه من الصراع النفسي ومن النار التي تضطرم في أعماقه …
هكذا إذن … نجد قصيدة الغزل في زمن الحرب ما هي إلا أحلام الشعراء في مكنون اللاشعور .. تتراءى لهم من قلب اليأس والحرمان والخوف والخراب، تنساب في أشعارهم تجسيدا للأمل الذي يتعلقون به، والبحث عن الحب الضائع في ظلمات القهر واليأس والموت … والهروب من عالم مثقل بالحروب والهموم والأحزان والعجز والحرمان …