فضيلة الشيخ محمد ظاهر شاه رحمه الله
علو في الحياة وفي الممات
بقلم عبد الحي الشترالي
خريج جامعة دار العلوم كراتشي
_ في هذا اليوم أعني الإثنين 13 - محرم الحرام – 1435 ھ الموافق 18 - نوفمبر – 2013 م بكينا على رحيل أستاذنا الكريم الذي أصبح مصداقا لكلمات الشاعر أبي الحسن الأنباري في رثائه لعضد الدولة البويهي :
" علو في الحياة وفي الممات لحق أنت إحدى المعجزات "
ولادته :
ولد فضيلة الشيخ الجليل محمد ظاهر شاه رحمه الله في قرية " أوير " من مديرية " شترال " عام 1946 م في بيئة نقية صافية مطمئنة راضية في السراء والضراء ، واثقة بالله - عز وجل- واكتحلت عيناه بنور الحياة في أسرة علمية دينية عريقة شهيرة بالعلم والتقوى والفضل والصلاح حيث إن الداعية الشهير العلامة مستجاب خان الذي كان مثالا في التمسك بالدين و التقوى ، كما أنه أسلم على يده آلاف من الناس بتوفيق من الله تعالى ، كان ينتمي إلى أسرة فضيلة الشيخ رحمه الله ، وكان أقرب الناس إليه .
نشأته :
نشأ الشيخ رحمه الله على حب الإطلاع ، والعكوف على العلم ، و كان منذ نعومة أظفاره وفي مستهل طفولته على دأب نادر في اكتساب العلوم والمعارف فكانت تلوح على جبينه علائم الرشد وتتجلى فيه بوارق الذكاء ، وتلقى رحمه الله تعاليمه الإبتدائية في بيته حيث تعلم القرآن الكريم ثم حدا به داعي الشوق إلى ركوب متن الأسفار لإشباع رغبته في الطلب والتحصيل ، فساقته عناية القدر إلى مدينة بشاور حيث حط الرحال في رحاب " دار العلوم سرحد " ، وحظي بالأخذ عن العلماء و المشايخ وعلى رأسهم العلامة محمد أمير ودرس عليهم مبادئ اللغة العربية واللغة الفارسية و قواعد النحو والصرف .
ثم انتقل فضيلة الشيخ من بشاور إلى كراتشي ، والتحق بجامعة دار العلوم سنة 1964م ، وكانت ساحة دار العلوم كراتشي آنذاك مزدانة مستنيرة بالعلم تتلألأ بجهابذة العلماء الربانيين و كبار المشايخ من المحدثين والفقهاء و المفسرين ، فسنحت الفرصة لفضيلة الشيخ أن ينهل من علومهم ، ويرتوي من معارفهم ، و يكسب من فيوضهم وبركاتهم ويروي غليله العلمي في الظل الوارف من هؤلاء العباقرة حتى كسته صحبتهم علما غزيرا وروعة و بهاء في الأخلاق و الآداب .
مشايخه و أساتذته الذين أخذ عنهم :
كبار شيوخه الأعلام الذين درس عليهم فضيلة الشيخ ، واستفاد منهم في حياته العلمية ... سماحة المفتي الكبير محمد شفيع العثماني المفتي العام لديار باكستان سابقا – رحمه الله – الأستاذ أكبر علي – رحمه الله – الأستاذ الشيخ المفتي المجاهد رشيد أحمد اللدهيانوي – الأستاذ القارئ رعايت الله – الأستاذ الشيخ سحبان محمود – الأستاذ الشيخ شمس الحق – الأستاذ الشيخ المفتي محمد رفيع العثماني – حفظه الله – الأستاذ المفتي محمد تقي العثماني – حفظه الله – و إلى جنبه استفاد من مجالس الدكتور عبد الحي العارفي و العلامة عاشق إلهي الإصلاحية ، وقد تخرج من المنهج النظامي عام 1970 م ونال شهادة العالمية بدرجة ممتاز ، ولما تخرج من الجامعة التحق بقسم التخصص في الفقه والإفتاء ، و بدأ التمرس على كتابة الفتوى تحت إشراف المفتي الأعظم محمد شفيع رحمه الله تعالى ـ
وقد تفرس الشيخ المفتي محمد شفيع رحمه الله فيه آثار النجابة الباهرة و الأخلاق الفاضلة و سابر علمه وفضله وتقواه وورعه ، فعينه مدرسا في نفس الجامعة عام 1394ھ ، وزاول التدريس نحو إحدى وأربعين سنة ، وفي خلال هذه المدة الطويلة أسند إليه تدريس كتب أغلب المقررات الدراسية في المنهج النظامي ، فدرّس أنواع العلوم وكان يمتاز برسوخ خاص في اللغة العربية ويتكلم بها بدون تكلف كأنها لغته الأصلية ، وكان يدرس بها الكتب بأسلوب جذّاب وراق و أضف إلى ذلك أنه كان حافظا لكثير من الأشعار العربية ، هذا من جانب ومن جانب آخر كان يهز الأفئدة و القلوب بكلماته الحية والجميلة ، ويحض الطلبة على اكتساب المهارات في فنون شتى وفي ميادين مختلفة حتى ينشأ جيل جديد من العلماء المهرة لقيادة الشعب المسلم في العالم ، وكان يجيب عن أسئلة الطلبة بالأجوبة المقنعة مع الدقة المتناهية ، والأسلوب الرائق البديع و قد أسعد الله كاتب هذه السطور بمرافقته و الاستفادة منه لمدة طويلة فرأيت من علو همته و قوة إرادته ، و سعة مطالعته وإلقائه الدروس ما جدد ذكر الأقدمين وصدق ما جاء في الكتب عن أخبار السلف الصالحين ، وتتلمذ على يده خلق كثير استضاؤا من أنوار علمه ، واقتبسوا من أشعة معارفه ، و قد ألقى الله تعالى في قلوب تلاميذه حبه و احترامه و تقديره ، و كانوا ينظرون إليه بغاية من الاحترام و التبجيل والإكرام والتقدير و إلى جنب التدريس كان يشرف على دار الإقامة ، و قام بهذه المسؤولية خير قيام نحو أربعين سنة ، وبالجملة كانت حياته كلها جهادا وكفاحا و مثابرة و ثباتا.
ثم انقضت تلك السنون و أهلها
فكأنها و كأنهم أحلام
لقد أكرم الله فضيلة الشيخ رحمه الله بالشيوخ و الأساتذة الذين كان كل واحد منهم مثالا رائعا لعلماء السلف في البحث و التحقيق و الإتقان و التعمق أمثال الغزالي و الرازي ، و كان يتمتع بعنايتهم الفائقة و اهتمامهم البالغ و حبهم الخالص ، و قد قام بخدمة المفتي الأعظم فضيلة الشيخ محمد شفيع لمدة طويلة ، و كان يحمل في قلبه أسمى معاني التوقير والتقدير و الحب و الاحترام لهم، بل كان يعشقهم إن صح التعبير و كان من عادته رحمه الله أنه كان يجدد أمام أعين الطلبة ذكريات شيوخه و أساتذته و روائع القصص عن علمهم بكل رقة و لطافة حيلته و صفاته ،كان فضيلة الشيخ ربعة من الرجال ، مشكلا منور الشبيه مكللا بنور الشيب أبيض اللون حسن الوجه واضح الجبين كث اللحية حلو الكلام عذب المنطق دائم الفكرة واسع الإطلاع حسن الثياب في غير إسراف ، حسن المعاملة مع الآخرين كثير الرماد محبوبا عند الناس و مقبولا لديهم .
و كان مثلا رائعا للتواضع و الحلم والعفو و الكرم و التعايش و السماحة و المحبة و المرونة ، حريصا على الجد والاجتهاد و النفع والانتفاع و العطاء والبذل و الإفادة ، وكان يشمل تلاميذه بعطفه الأبوي و يبسط على كل فرد منهم ظلال شفقته وحنانه .
حسن الخاتمة
و بعد عمر حافل بالأعمال الدينية إذ فاجأه مرض الجلطة (الفالج) و ذلك في اليوم 25 من شهر رمضان المبارك عام 1434 الموافق عام 2013 ، وكان في مديرية شترال في ذلك الوقت ثم جاء إلى كراتشي للعلاج و تحسنت صحته قليلا بعد العلاج و دام المرض نحو ثلاثة أشهر في أمل و يأس ثم قد وافاه الأجل في 13 محرم الحرام 1434 ھ الموافق 18 نوفمبر 2013 م ، كانت وفاة أستاذنا الكريم مأساة أليمة هزت القلوب و أحزنت النفوس و أدمعت العيون وما نقول إلا ما قال رسول الله متأسين به (إن القلب يحزن والعين تدمع وإنا يا أستاذنا على فراقك لمحزونون )
ودفن في المقبرة القديمة بجامعة دار العلوم كراتشي بجوار شيوخه و أساتذته . رحمه الله تعالى و أمطر على قبره شآبيب رحمته و تغمده عفوه و غفرانه.
بَكَيْنَا وفَاةً لإمرء قل أن يُرى له في العلماء العاملين نظير
فخلّوا كلامي إن ألح بي البُكا فإن فراق الصالحين عسير