أبشروا بحركة كتابية

أرى المتخرجين الشباب من المدارس الدينية، والطلاب الدارسين في جامعاتنا ومعاهدنا، قد أقبلوا على الكتابة في هذا العهد، بشكل غير مسبوق، في ظلال توفر مواقع التواصل الاجتماعي، يكتبون يوميا، ويشوقون الآخرين عليها، ويدعونهم إلى الكتابة، في الموضوعات المختلفة، ويبذلون قصارى جهودهم في توجيههم وتصحيح أخطائهم وتسديد خطاهم وبكل ما هم قادرون عليه من نصح، مرحبين بالرواد الجدد، قد يكتبون مقالة وافية في موضوع، أو أسطرا، أو ذكرية أو رحلة أو تقريرا عن جلسة أو مباراة، على كل يكتبون، وتأتت لهم صلة بين الكتابة وثيقة، متينة، ويزاولونها ويمارسونها بشيء من الرغبة والاشتياق والهواية.

يبدو أنهم يحبون الكتابة لحد لا بأس به، وحب الكتابة أمر ذو بال، لأن الكتابة تدفع إلى القراءة، فالكتابة لا تكون بدون القراءة، خاصة الاستمرار فيها، فالذين يواظبون على الكتابة، لا شك هم يواظبون على القراءة، والقراءة لو أردت إيجازها فأقول: هي الحياة، لأنها كفيلة بتكوين حياة جديدة مترقية على أنقاض الحياة القديمة المندثرة، وتغسيل اللب وتنميته، وتحديث المعلومات، وبناء الأفكار المتسعة، وفتح الآفاق الجديدة، ومكافحة الضيق في التفكير والرؤية، وبالجملة تجعل المرء يبدأ حياة جديدة، تتفاوت عن السابقة كليا.

في سابق العهد ما كنا نشاهد هذا الإقبال الكاسح على ممارسة الكتابة، ولا نرى هذه البيئة المتميزة التي يحس فيها التنافس، والتسابق، وما كانت الكتابة تجد هواة بين القوم، إلا قليلا جدا، غير متجاوزين على عدد الأصابع وحركات العوامل، بينما نرى اليوم حركة تتسم بالجد والجدة والتقدم والأصالة في وقت واحد. وفي انطلاق هذه الثورة الجيدة النابضة، دخل كبير لهذه المواقع التي توفرت لدينا حديثا، ومهدت الطريق لنا فعلا، وبدأنا نستخدمها.

كان كتابنا يستفيدون من مقالات وآراء الكتاب الآخرين، فقالوا إلى متى نستفيد من كتابات الآخرين فقط، ولا نكون نحن ممن يفيدون الآخرين، ومن يكتبون؟! فالذين يكتبون ويفيدون الآخرين ماذا عندهم، مما نعوزه نحن، وننقصه حتى نجاريهم في هذا الميدان، وندمج أنفسنا في قائمتهم، ونفرضنا على الواقع بكل قوة وبأس وحماس؟ وهكذا رأى أصحابنا الكتاب اللامعين في المواقع، فبدأ الشعور بالكتابة يداخلهم، ويستولي عليهم، حتى استسلموا أخيرا لهذا الشعور الوثاب والدافع القافز، فانطلقوا في الكتابة، فألفوها أمرا مستلذا من العسير جدا تجنبه، والتحاشي عنه ولو يوما.

رأوا أن تأليف الكتاب وإعداده قد يمكن أن يكون من العسير، ويحتاج إلى ما لا يملكونه، أو يملكونه لكن ليس عندهم الاعتداد بالنفس، والإيمان بالمواهب الكامنة، والمؤهلات المفرطة -وهذا ما أعتقده- ولأجل هذا كانوا لا يحلمون بطبع الكتاب لما يجر من متطلبات من الصعب توفيرها حاليا، لكن الكتابة على هذه الصفحات، ليس لها ثمن، ولا تحتاج إلى سعي مضن، واجتهاد منهك، مع أن الكتاب رغم النفقات والاستهلاكات يستفيد منه شريحة خاصة وأهل منطقة، وقد يبقى في نطاق ضيق لفترة غير قصيرة، وذلك أيضا إذا ثبتت جدارته وبانت قيمته، بينما الكتابات على هذه الصفحات تكسح العالم في دقيقة واحدة، ومع إشارة واحدة، دون تكبيد صاحبها مالا كثيرا، كما أن هذا النوع من الكتابة، يدفع ممارسه إلى التأليف والتصنيف نهائيا، وإعداد الكتب في المستقبل، بعد نمو الاعتداد بالنفس، وتحريك الحمية، واكتشاف الموهبة والمؤهلات، عبر المواصلة في الكتابة، ومشاهدة الرواد يتهافتون على كتاباته مستفيدين منها.

لو كان للمواقع نقطة إيجابية واحدة فقط وهي الحمل على الكتابة، والدفع عليها، فهذه النقطة الوحيدة أيضا تشكل مجوزا قويا لترخيص استخدامها، ويكفي المواقع هذا الفضل وهذه الميزة، فهم ما كانوا ليكتبوا سطرا واحدا، ويسودوا صفحة، لو لم تكن هذه المواقع والآليات، ومن الذي ينكر هذا الفضل؟ شريطة أن يعرف مكانة الكتابة ودورها وأثرها في عصرنا الذي نعيشه.

الكتابة تلعب دورا رياديا اليوم، وكلما تتطور الأوضاع وتتقدم الدنيا، يتجلى دور الكتابة أكثر فأكثر، والعصر الراقي الذي نعيشه يعطي الكتابة اهتماما خاصا، فما أكثر الكتاب على الأصعدة المختلفة، من المجلات والصحف الورقية والإلكترونية، والمواقع المقروءة والمسموعة، والمرئية، والمواقع تتجه نحو التنامي كل يوم، وذلك لشعور القوم بضرورتها في التوصل إلى الأهداف والمرامي.

العصر عصر الكتابة والتدوين، وإيصال الأفكار والرؤى، والرسالات عن هذا الطريق، شئنا أم أبينا، والعالم عرف هذا وأضحى يستثمره، وينفق الأموال الهائلة عليها، والذي يخفي رأسه في الثلج كالحجل فلا يضر إلا نفسه.

الشعب يتبين مصيرها ومستقبلها من خلال كتابات الكتاب، ويرسم في ضوئها مواقع أقدامها، ولو استمر الوضع هكذا فنخن سوف نجد في السنوات التالية، كتابا كثيرين في المنطقة، بل ونشهد ثورة كتابية متدفقة وثابة، يقودها هؤلاء الكتاب الذين انطلقوا من هذه المواقع يوما، ثم لا يكتفون بالكتابة على هذه الصفحات الافتراضية بل يغزون الصفحات الورقية أيضا، وهذا مما يسبب الفرح والسرور هنا، لما أننا في رحاب ثورة كتابية تأليفية على مستوى المنطقة، تعيد لنا التاريخ، والعصور الذهبية المنصرمة، التي كنا نعلم فيها العالم أبجديات الحضارة والثقافة، وكان العالم الغربي يعتز بالتلمذة لدينا، والتطفل على مائدتنا الملونة.

ولا يمكن أن تكون ثورة أو حركة ناجحة، ولا فرق في أي مجال كانت إلا بالتوجيه والقيادة والتبيين، والتخطيط الدقيق الشامل، لأن الحركة الكتابية كما أنها تفيد، أيضا تضر إذا خرجت من الجادة، وانحرفت عن الطريق، وتأتي بخسائر فادحة، وهذا بانحراف الكتاب، وبعدهم عن التربية الدينية، والفكرية، فكل حركة اذا فقدت القيادة الحاسمة والتوجيه الحكيم، فهي سوف تنحرف، وتتمخض عن محن وشروخ، ولو بدأت نزيهة طاهرة، وهذه سنة لن تتبدل، ولا قدر الله أن تنحرف الكتابة عن اتجاهها وتضل فتكون مضللة، وبإمكاننا مشاهدة آثار هذه السنة وتداعياتها السلبية الرهيبة حولنا اليوم وفي صفحات التاريخ بالأمس.

(السيد مسعود جامعة دار العلوم زاهدان)

شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025

التعليقات

يجب أن تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب

يستغرق التسجيل بضع ثوان فقط

سجل حسابا جديدا

تسجيل الدخول

تملك حسابا مسجّلا بالفعل؟

سجل دخولك الآن

اكتب معنا


يمكننا نشر مقالك على شبكة المدارس الإسلامية، دعنا نجرب!

أرسل من هنا

المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025