الثورات العربية في مواجهة الطواغيت
كثيرا ما يتساءل الثوري العربي المتحمس الذي قام ضد الطواغيت ودفع الغالي والثمين لأجل الإطاحة بالأنظمة الديكتاتورية أين ذهبت الجهود لإقامة نظام ديمقراطي عادل، وهل الدماء الذكية والأموال الطائلة وتكبد الخسائر في الأرواح والأنفس هل أنتجت هذه التضحيات إلا الدمار والخراب والنار والجحيم الذي لا يطاق، فحدِّث عن أي بلد عربي قامت فيه ثورة ولا حرج، حدّث عن سوريا؛ فقد جعلها طاغيتها بالتواطؤ مع حلفائه الإقلميين والأمريكان والروس وإسرائيل وحتى العرب أنفسهم كومة من تراب وأذاق أهلها أبشع أنواع العذاب مما جعلهم يتمنون عودة الديكتاتورية بجميع أشكالها وألوانها.
ورأينا طاغية اليمن علي عبد الله صالح كيف انتقم من اليمنيين فتحالف مع الطغمة الحوثية في الداخل ومع القوى الإقليمية والدولية في الخارج وحوّل البلاد إلى نار وجحيم وخرّب كل شيء جميل وحسن انتقاما من الثورة.
وفي ليبيا رأينا كيف تحولت هذه البلاد الآمنة إلى بلاد الحروب والنزاع بعد أن أطيح بالديكتاتور القذافي، وتعاني الآن ما تعاني من التفكك والحروب والاقتتال الداخلي.
وفي العراق بلغ الاقتتال الطائفي والانقسام الداخلي أوجه، وأصبح الشعب يذوق ويلات الحروب الطاحنة بأيدي أبناء البلد، وتشهد البلاد يوميا سقوط مئات وربما آلاف القتلى والجرحى.! والدول العربية تشارك في هذه الجريمة وأمريكان يصفقون ويتفرجون.
والبلاد العربية التي لم تشهد إلى الآن انقساما داخليا واقتتالا طائفيا بشكل مشهود هي الآن في طريق انفجار مهيب من شأنه أن يحرق كل رطب ويابس، فتونس التي يقال إنها مهد الثورة العربية عادت فيها الدولة العميقة بجميع أشكالها وألوانها، وشُدّدت الرقابة على الثوريين واغتيل عدد منهم والآخرون ينتظرون يومهم المحتوم.
وبلاد مصر أبشع وأنكى من ذلك؛ فقد ذاق الثوريون أشد أنواع التعذيب وقتل عدد كبير منهم بحجة أنهم إرهابيون وبدأ مبارك يعود إلى السلطة بجميع كوادره وينتقم من الثوريين أشد الانتقام، وأخذ ـ بلباس جديد ووجه مشبوه ـ يشرّع ويقنّن، يعزل وينصب دون أن يردعه رادع، والبلاد ستشهد معركة حامية الوطيس مع المجموعات المسلحة وستكون البلاد أسوأ من سوريا والعراق لو سارت الأوضاع على هذا المسار السيئ.
وها هي السعودية طوِّقت من كل جانب إحاطة السوار بالمعصم، وبدأت التفجيرات اليومية تهدد مستقبل هذه البلاد وتؤشر على أنها ستخوض معركة قاصمة الظهر.
ولا يختلف اثنان أن الثورات المضادة التي قامت على أنقاض الثورات العربية بتحالف مع القوى الإقليمية والدولية ومساندة مع الدول العميقة قد نجحت نجاحا باهرا في حرف هذه الثورات عن مسارها وتحويلها إلى جحيم لا يطاق والانتقام من هذه الثورات وإخمادها أو إجهاضها وخنقها في مهدها.
ولا شك أن ما يجري الآن في هذه البلاد لا تصب في صالح أي بلاد عربية ولا في صالح أي نهضة أو جماعة إسلامية أو غير إسلامية، والكلمة المتفقة عند الجميع هي أن الدول الغربية بمعنى الكلمة هي الرابح الوحيد من هذه الحروب، وهي التي تفرق لتسود وتعكر لتصطاد، كما أنه لا يخفى أن عودة الدول العميقة وكوادر الأنظمة البائدة بمباركة ومساندة خارجية هي السبب الرئيس في خلق هذه الأزمات، وهي التي تصفق الآن وتطير فرحا على أنها استطاعت إجهاض الثورات وإخمادها وحرفها عن مسارها الديمقراطي.
والسؤال المطروح الآن ما هو مستقبل هذه البلاد التي شهدت دمارا وخرابا قل نظيره في التاريخ، ومن سيقود هذه البلاد، ومن سيخرج رابحا وفي صالح من ستكون هذه الحروب؟ هذه أسئلة ربما سيجيب عنها المستقبل والمبادرة إلى جوابها ربما يكون رجما بالغيب وتخمينا ليس إلا.
ونحاول أن نشير في هذه العجالة إلى بعض الحقائق:
1ـ فقد أسلفت أن الرابح الوحيد في خلق هذه الأزمات هي الدول الغربية، إذ إن انعدام الأمن في هذه المناطق وزعزعتها يعني بسط نفوذ الغرب في هذه البلاد، لأسباب:
ـ يسهل لها السيادة على الدول العربية وتركيعها وإخضاعها لصالحها تحت قاعدة "فرّق تسد" التي يمارسها الاستعمار الغربي منذ أمد للهيمنة على العالم الإسلامي؛ فتضطر الدول العربية للجوء إلى الغرب لحل مسائلها السياسية والإقليمية.
ـ إيقاف تيار الصحوة الإسلامية التي انطلقت أخيرا من صميم الشعب.
ـ حرف مسار الثورات العربية عن منهجها الصحيح وإرباك رجالها وتشويه سمعة هذه الثورات بأن الإسلام السياسي ـ على حد تعبيرهم ـ لا دور له في تسيير دفة القيادة والخير للشعوب أن تخضع للعلمانية.
ـ تخويف الشعوب التي لم تقم بعد ضد الأنظمة القمعية التابعة للدول المستعمرة من القيام ضد الديكتاتوريات وأذناب الغرب بأن مصيرهم نفس المصير.
ـ تشويه سمعة الإسلام في البلاد الغربية التي تشهد إقبالا كثيفا إلى الإسلام، وإيقاف مده بتوجيه تهم إلى الإسلام بأنه دين الإرهاب، وأن المسلم يقتل أخاه المسلم يبرره الإسلام بأنه جهاد!
ـ استغلال ثروات الأمة ونهب ممتلكاتها خاصة ثروة النفط ومعادن الذهب وغيرها.
ـ يسهل للدول المستعمرة إجراء مخططاتها الخبيثة وبرامجها الماكرة الثقافية والفكرية التي تزرع الإلحاد في قلوب الشباب والناشئة، وتبعدهم عن الإسلام بالتدريج.
2ـ حنق فلول النظام السابق ورجال الدول العميقة والمضادة المتجذرة في صميم المجتمع، الذين انفلتت من أيديهم القيادة وخذلتهم الشعوب وثارت عليهم؛ فإنهم لن يقعدوا رخي البال وسوف ينتقمون من شعوبهم ويذيقونهم أشد العذاب ليعتبروا ويعودوا إلى الحياة السابقة الجائرة، والدليل الحي على ذلك أن مصر عندما عادت إلى اللااستقرار بعد عزل الرئيس مرسي استبشر مبارك وعاد فيه الأمل.
3ـ استغلال الجهات المتطرفة ظروف البلاد المأساوية وجذب الشباب المأيوسين إليها، وجر البلاد إلى العنف والقمع، وخلط المجاهدين المخلصين بالذين يُدعَمون من الجهات المجهولة لخلق الفوضى وتشويه سمعة المجاهدين المخلصين.
4ـ بعض الدول المجاورة لدول الخليج لعبت دورا كبيرا في زعزعة البلاد العربية وإيجاد الفوضى وجر الثورة إلى العنف واستغلالها لصالحها.
5ـ فقدان القيادة الصحيحة؛ حيث لم تتمتع هذه الثورات بقيادة فاعلة تجمع أشتاتها وتصلح أودها، ونتيجة لفقدان القيادة أصيبت الثورة في مهدها قبل أن تكمل المشوار.
6ـ فقدان التربية الصحيحة في الثوريين وأوساط المجاهدين؛ وهذا ناتج عن فقدان القيادة، إذ إن انعدام القيادة الواعية الجامعة يسبب أن يأخذ كل طريقا ويراه الصواب ويخطّيء من يخالفه في الرأي والمنهج، وربما يفسّقه ويحاربه.
ولكن رغم هذا النقص والبطء في سير هذه الثورات ورغم ما ألحق بها من الأضرار الفادحة ورغم أنها انحرفت عن مسارها إلى حد كبير بسبب المؤامراة المتكررة إلا أنها في مجموعها تمخضت خيرا للأمة الإسلامية لأسباب عديدة من أهمها:
ـ فقد تحررت الشعوب المنكوبة والمضطهدة من تلك القيود والأغلال التي رسفت بها ردحا طويلا من الجبابرة وطواغيت العصر في كثير من البلاد العربية.
ـ فقد ظهر نفاق الحكام وأنهم لا يخلصون لوطنهم ولا يلقون لدينهم بالا، وأنهم ليسوا إلا أذنابا للغرب، وآلة صماء بيدهم يسيّرونهم أينما شاؤوا وإن أدى ذلك إلى زهق أرواح الشعب وغصب ممتلكاته.
ـ تدفق سيل الصحوة الإسلامية في الدول العربية ورجوع الشعوب إلى الله تعالى بعد أن ذاقوا مرارة البعد عن المنهج الرباني.
ـ إن الأمة التي تقدم دماء في سبيل الحرية لن تضيع، وسوف تسطّر آيات النصر والعز والكرامة وإن طال أمده، فما هو إلا سحاب صيف عن قليل تقشع، وسينقشع هذا الضباب الكثيف، ويتبدد الظلام الدامس، وينبلج الصبح الصادق، وما ذلك على الله بعزيز.
ـ وأخيرا فإن الثورة لن تخمد نارها ولن تخبو أوارها مهما لطّخ المجرمون أيديهم بدماء الشعوب، فإن الشعوب نهضت لئلا تقعد، وستطوَّق معاقل المجرمين وتُدكّ حصونهم المنيعة دكا، ويلقون مصيرهم النهائي بكل ذلة ومهانة، وسيكون للشعوب مستقبلهم المنشود.
وقد صدق عبقري العصر وإمام الدعوة في القرن العشرين العلامة أبو الحسن الندوي رحمه الله إذ يقول:
" إن التاريخ يشهد أن كل من حاول أن يصرف شعبا عن مركزه الإسلامي وعن عقيدته الإسلامية وعن تراثه الإسلامي، كان حظه الفشل والإخفاق، فليدرك ذلك كل من يملك زمام الأمور".