الدَّعْوَةُ إِلَى العامّيةِ نَشْأتُها ودُعَاتُها
الدَّعْوَةُ إِلَى العامّيةِ نَشْأتُها ودُعَاتُها ناصر عبود قاسم البريد الإلكتروني: naser_altameme@yahoo.com إن الدعوة إلى العامية قد احدثت بركاناً فكرياً لم يخمد أواره في عقول الباحثين إلى يومنا هذا، وقامَ بعض الغيورين على اللغة العربية، وشمّروا عن سواعدهم، ومشقوا يراعهم، وتسلّحوا بإرادتهم، وردّوا على ذلك بتأليف الكتب القيمة، والرسائل والاطاريح المعتبرة، والمقالات والبحوث الرصينة، مما عاد بالنفع على لغتنا العربية الفصحى، حتى أن البعض يرى أن فكرة المجامع اللغوية التي أُنشِئتْ في مصر وسوريا وغيرها من الدول العربية، لم تكن إلّا ثمرة نتيجة لتلك الحملات الشعواء على لغة العرب. وكان دعاة اللهجة العامية يرون بضرورة استخدامها ليس على مستوى التخاطب اليومي فحسب، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك، حيث أكّدوا على ضرورة ادخالها في كتابة الصحف والمجلات والكتب، والمناهج الدراسية بصورة عامة. ولم تكن هذه الفكرة وليدة اليوم، بل انبثقت عام 1880م في مصر على يد المستشرق الإلماني (ولهلم سبيتا) حين قام بتأليف كتابه الموسوم بـ(قواعد اللغة العامية في مصر) وبالرغم من أن الكثير من الكُتّاب والمفكرين قد أشاروا بأصابع الاتهام نحو الدول الاستعمارية، والحملات التبشيرية، بالوقوف وراء هذه الفكرة، لمحقِ لُغةِ القُرآنِ الكريم، فقد ذهبتْ الكاتبة المصرية (بنت الشاطئ) إلى أن (سبيتا) لم يكن ينطلق من منطلق استعماري، بل كانت تراه متأثراً بفكر العالم البريطاني (داروين تشارلز روبرت) صاحب كتاب (أصل الأنواع) ونظريته الموسومة بـ (النشوء والارتقاء) ونقلَ تطبيق هذه النظرية من الكائنات الحية إلى اللغات بصورة عامة، واللغة العربية بصورة خاصة، إذ عدَّ اللغة بأنها كائن حي ينشأ ويتطور ثم يموت، ويرى أن اللغة العربية الفصحى ميتة سريرياً، وستوارى الثرى عاجلاً أو أجلاً، بسبب استعمار الدولة العثمانية الغازية للوطن العربي، وسياسة التتريك المتبعة لها، ويُطبّق فكرة (الصراع من أجل البقاء) عليها، إذ يرى أن العاميةَ خاضت، وما زالت تخوض المعركة مع الفصحى، وإنها في طور الانتصار، وإن عملية (الانتخاب الطبيعي) أو (بقاء الأصلح) تنطبق على العامية إذ يراها بأنها الأقوى، وبطبيعة الحال الأقوى هو الأقدر على الصمود بوجه عاديات الزمان. وفي عام 1893 م جاء المهندس البريطاني الجنسية، الهندي المولد (ولكوكس السير وليم) الذي كان المُخطط والمشرف على بناءِ (سد أسوان) في مصر، ونشر مقالته في مجلة (الأزهر)، التي دعا فيها إلى نبذ العربية الفصحى والأخذ بالعامية، وكان يعتقد بأن سر تخلّف المصريين، وعدم استطاعتهم اللحاق بالتطور العلمي والتكنلوجي، هو تمسكهم بالفصحى. ولم تقتصر الدعوة إلى العامية على روادها الغربيين فقط، بل انظم إليهم نخبة من كبار الكُتّاب والمفكرين العرب، سواء أكانوا مسيحيين أم مسلمين، مثل (مارون غصن) و(انيس فريحة) و(سلامة موسى) و(سعيد عقل)، ويرى (مارون غصن) العربية الفصحى آيلة إلى الزوال كسابقتها اللاتينية التي اندثرت في بداية القرن السادس عشر الميلادي ولم تُعد لغة المخاطبة، على الرغم من أن الكنيسة الكاثوليكية تعدها اللغة الرسمية للمراسيم الدينية. وسار (سلامة موسى) على نهج المستشرقين الغربيين شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، وتهجم على الفصحى أيما تهجم، وعدّها السبب الرئيس لتقهقر العرب الحضاري والفكري، ودعا إلى تزاوج بين الفصحى والعامية، للحصول على هجين - غير متجانس - إذ يقول: (ولهذا يجب أن تكون غايتنا توحيد لغتي الكلام والكتابة، فنأخذ من العامية للكتابة أكثر ما نستطيع، ونأخذ من الفصحى للكلام أكثر ما نستطيع حتى نصل إلى توحيدهما). وعلى الرغم من أن اللغة العربية هي اللغة الوحيدة بين أخواتها السامية استطاعت أن تصبح عالمية، وأن تثبت وبجدارة بوجه العواصف الهوجاء، من لدن المستعمرين والمتشدقين، وأن تحافظ على استقلاليتها ومكانتها، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى أَنزلَ بهذهِ اللغة قُرآناً يُتلى آناء اللّيلِ وأطراف النّهارِ، وأنها استطاعت أن تحوي في كنفها، جميع ألفاظه ومفاهيمه وبلاغته ومعانيه، بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، وما لها من دلالات، حتى أن بعض العلماء المسلمين من غير العرب عضوا عليها بالنواجذ، وترنموا بها طرباً، إذ يقول العالم أبو الريحان البيروني: (لأن أُهجى بالعربية، أحبُ إليَّ من أن أُمدح بالفارسية)، إلّا أن بعض العرب يراها عقيمة، ولا تستطيع مواكبة التطور، وعجزها عن إيجاد كلمات بديلة عن أسماء المخترعات الأجنبية. وقد ردَّ عليهم شاعر النيل حافظ إبراهيم ودافع عنها قائلاً: وسعتُ كتابَ اللهِ لفظاً وغايةً *** وما ضقتُ عن آيٍ بهِ وعِظاتِ فكيفَ أضيقُ اليومَ عن وصفِ آلةٍ *** وتنسيقِ أسماءٍ لِمُخترعاتِ فالمسؤوليةِ اليوم مُلقاة على عاتق الساسة العرب أولاً، وأساتذة اللغة والمثقفين ثانياً، وعلى الحكومات أن تُطبّق ما تتبناه في الدستور، كون اللغة العربية هي اللغة الرسمية في البلاد، أما الأساتذة فمسؤوليتهم لا تقل شأناً عن ذلك، وعليهم تشجيع دراسة اللغة العربية، والابتعاد عن الكلمات الدخيلة، وإحياء بعض الكلمات العربية الميتة، حتى تَدبُّ الحياة فيها من جديد، وأن مثل هذا المتبنى يحتاج إلى قرار سياسي صارم، ونظام تعليمي سليم، وتُعدّ هاتان الفقرتان هما ابرز العوامل لإرجاع اللغة العربية إلى سابق عهدها، ومكانتها عند العرب.