القوافي :
الكل ا ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ط ع غ ف ق ك ل م ن و ه ء ي
الشاعر : علي محمود طه الكل
المجموع : 155
هَبَطَ الأَرضَ كالشعاعِ السنيِّ
هَبَطَ الأَرضَ كالشعاعِ السنيِّ / بعصا ساحرٍ وقلبِ نبيِّ
لمحةٌ من أشعَّةِ الرُّوح حلَّتْ / في تجاليدِ هيكلٍ بشريِّ
ألهمتْ أصغريْهِ من عالِم الحك / مةِ والنُّورِ كلَّ معنىً سريِّ
وحَبتْهُ البيانَ رِيّاً من السح / ر به للعقول أعذبُ رِيِّ
حينما شارَفتْ به أفقَ الأر / ضِ زَها الكونُ بالوليد الصبيِّ
وسبَى الكائناتِ نور محيَّا / ضاحكِ البشرِ عن فؤادٍ رضيِّ
صُوَرُ الحسن حُوَّمٌ حول مهدٍ / حُفَّ بالوردِ والعَمَارِ الزكيِّ
وعلى ثغرِهِ يُضيءُ ابتسامٌ / رَفَّ نوراً بأرجوانٍ نديِّ
وعلى راحتيهِ ريحانةٌ تنْدَ / ىَ وقيثارةٌ بلحنٍ شجيِّ
فَحَنَتْ فوق مهده تتملَّى / فجرَ ميلادِ ذلك العبقريِّ
وتساءلنَ حيرةً مَلَكٌ جا / ءَ إلينا في صورة الإنسيِّ
من تُرَى ذلك الوليدُ الذي هش / شَ له الكونُ من جمادٍ وحيِّ
من تراه فرنَّ صوت هتوف / من وراءِ الحياة شاجي الدويِّ
إنَّ ما تشهدونَ ميلادُ شاعرْ /
كان وجهُ الثرى كوجهِ الماءِ
كان وجهُ الثرى كوجهِ الماءِ / رائقَ الحسنِ مستفيضَ الضياءِ
حينَ ولى الدّجى وأقبلَ فجرٌ / واضحُ النورِ مشرقُ اللألاءِ
بَهَجٌ في السماءِ والأرض يُهدى / من غريب الخيالِ والإيحاءِ
صفَّقتْ عنده الخمائلُ نشوى / وشدا الطيرُ بين عودٍ وناءِ
مَظْهَرٌ يبهرُ العيونَ وسحرٌ / هَزَّ قلبَ الطبيعةِ العذراءِ
وجلا من بدائع الفنِّ روضاً / نمَّقَتْهُ أناملُ الإغراءِ
ما الربيعُ الصَّناعُ أوفى بناناً / مِنْهُ في دِقةٍ وحسنِ أداءِ
نَسَقَ الأرضَ زينةً وجلاها / قَسَماتٍ من وجههِ الوضَّاءِ
ربوةٌ عند جدولٍ عند روضٍ / عند غيضٍ وصخرةٌ عند ماءِ
فَزَها الفجرَ ما بدا وتجلَّى / وازدهى بالوجودِ أيَّ ازدهاءِ
قال لم تُبْدِ لي الطبيعةُ يوماً / حين أقبلتُ مثلَ هذا الرُّواءِ
لا ولم يَسْرِ مِلءَ عيني وأذني / مثل هذا السَّنى وهذا الغناءِ
أيُّ بشرى لها تجمَّلت الأر / ضُ وزافتْ في فاتناتِ المرائي
علَّها نُبِّئَتْ من الغيب أمراً / حَمَلَتْهُ لها نجوم المساءِ
قال ماذا أرى فردَّدَ صوت / كصدى الوحي في ضمير السماءِ
إنَّ هذا يا فجرُ ميلادُ شاعِرْ /
كان فجرٌ وكانَ ثمّ صباحُ
كان فجرٌ وكانَ ثمّ صباحُ / فيهِ للحسن غُدوة ورِواحُ
بكَرَتْ للرياض فيه عذارى / تزدهيهنَّ صبوةٌ ومراحُ
حين لاحَتْ لهنَّ هتافٌ / وعَلَتْ بالدعاءِ منهنَّ راحُ
قلنَ ما أجملَ الصباحَ فما حل / لَ على الأرضِ مثلُ هذا صباحُ
فتعالوا بنا نغنِّي ونلهو / فهنا اللهوُ والغناءُ يُتاحُ
وهنا جَدولٌ على صفحتيهِ / يرقصُ الظِّلُّ والسَّنى الوضَّاحُ
وعلى حافتيه قام يغني / نا من الطير هاتف صدَّاحُ
وفَرَاشٌ لَهُ من الزَّهرِ ألوا / نٌ ومن ريِّق الشعاعِ جناحُ
دَفَّ في نشوةٍ يناديه نُوّا / رٌ وعِطرٌ من الثرى فوَّاحُ
وهنا رَبوَة تلألأ فيها / خضرةُ العشبِ والنَّدى اللماحُ
ونسيمٌ كأنه النَفَسُ الحا / ئرُ تُصغي لهمسِهِ الأدواحُ
مثلَ هذا الصباحِ لم يَلِد الشر / قُ ولم تنجِب الشموسُ الوِضاحُ
لكأنَّا بالكونِ أعلامُ ميلا / دٍ وعرسٌ قامت له الأفراحُ
أيَّ حُسنٍ نرى فردَّدَ صوتٌ / شبهَ نجوى تُسرها أرواحُ
إنَّ هذا الصباحَ ميلادُ شاعرْ /
وتجلَّى المساءُ في ضوءِ بدر
وتجلَّى المساءُ في ضوءِ بدر / وشُفوفٍ غُرِّ الغلائلِ حُمرِ
وسماءٍ تطفو وترسب فيها ال / سحبُ كالرغوِ فوق أمواج بحرِ
صور جَمّةُ المفاتنِ شتَّى / كرؤى الحلمِ أو سوانحِ فكرِ
لا ترى النفسُ أو تحسُّ لديها / غير شجوٍ يفيضُ من نبعِ سحرِ
أُفُقُ الأرضِ لم يزَلْ في حواشي / هِ صدىً حائرٌ بألحانِ طيرِ
وبأحنائِهِ يَرفُّ ذماءٌ / من سنى الشمس خافقٌ لم يقرِّ
وعلى شاطئ الغدير ورودٌ / أغمضتْ عينها لمطلعِ فجرِ
وسرى الماءُ هادئاً في حوا / فيه يُغنِّي ما بين شوكٍ وصخرِ
وكأنَّ النجومَ تسبَحُ فيه / قبلاتٌ هَفَتْ بحالمِ ثغرِ
وكأنَّ الوجودَ بحرٌ من النُّو / ر على أفقهِ الملائكُ تسري
هتفتْ نجمة أرى الكونَ تبدو / في أساريرهِ مخايلُ بشرِ
وأرى ذلك المساءَ يثير السح / رَ والشجوَ ملءَ عيني وصدري
أتُرانا بليلةِ الوحيِ والتن / زيلِ أم ليلةِ الهوى والشعرِ
ما لهذا المساء يشغفنا حُب / بَاً ويُوري بنا الفتونَ ويغري
أيُّ سرٍّ تُرى فرنَّ هتافٌ / بنجيٍّ من الصدى مُستسرِّ
إنَّ هذا المساء ميلادُ شاعِرْ /
قمرٌ مشرقٌ يزيد جمالا
قمرٌ مشرقٌ يزيد جمالا / كلما جدَّ في السماءِ انتقالا
وسكونٌ يرقى الفضاءَ جناحا / هُ على الأرضِ يضفوانِ جلالا
هذه ليلةٌ يشفُّ بها الحس / نُ ويهفو بها الضياءُ اختيالا
جَوُّها عاطرُ النسيم يثير الش / شَجوَ والشعرَ والهوى والخيالا
وإذا النهرُ شاطئاً ونميراً / يتبارى أشعةً وظلالا
وسَرى فيه زورقٌ لحبيبي / نِ شجيينِ يَنشدانِ وصالا
يبعثانِ الحنينَ في صدرِ ليلٍ / ليس يدري الهمومَ والأوجالا
شَهِدَ الحبَّ منذ كان رِوايا / تٍ على مسرحِ الحياةِ تَوالى
وجرَتْ ملءَ مِسمعيهِ أحادي / ثُ عفا ذِكرُها لديهِ ودالا
ذلك الباعثُ الأسى والمثيرُ الن / نارَ في مهجةِ المحب اشتعالا
لم يجِبْ قلبُه لميلادِ نجمٍ / لا ولم يبكِ للبدور زوالا
بيد أنَّ القضاءَ أوحى إليهِ / ليذوقَ الآلام والآمالا
فأحسَّ الفؤادَ يخفق منهُ / ورأى النور جائلاً حيث جالا
واستخفَّتْهُ من شفاه الحبي / بين شؤون الهوى فرقَّ ومالا
وتجلَّتْ له الحياةُ وما في / ها فراعتْهُ فِتنةً وجمَالا
فجثا ضارعاً أرى الكونَ ربي / غير ما كانَ صورةً ومثالا
لم يكن يعرفِ الصبابةَ قلبي / أو تعي الأذنُ للغرامِ مقالا
أتراها تغيَّرتْ هذه الأر / ضُ أم الكونُ في خياليَ حالا
ربِّ ماذا أرى فرنَّ هتاف / مُسْتَسرُّ الصَّدى يجيبُ السؤالا
إنَّ هذا يا ليلُ ميلادُ شاعِرْ /
وتجلِّي الصَّدى الحبيبُ الساحرْ
وتجلِّي الصَّدى الحبيبُ الساحرْ / في محيطٍ من الأشعَّةِ غامرْ
وسكونٍ يبثُّ في الكون روعاً / وقفتْ عِندَهُ الليالي الدوائرْ
واستكانَ الوجودُ والتفتَ الده / رُ وأصغتْ إلى صداه المقادرْ
لم يَبِنْ صورةً ولكن رأتهُ / بعيونِ الخيالِ مِنَّا البصائرْ
قال يا شاعري الوليدَ سلاماً / هزت الأرضَ يوم جئْتَ البشائرْ
فإليك الحياةَ شتَّى المعاني / وإليكَ الوجودَ جَمّ المظاهِرْ
لا تَقُلْ كم أخٍ لك اليومَ في الأر / ضِ شقيِّ الوجدانِ أسوانَ حائرْ
إن تكنْ ساورَته في الأرض آلا / مٌ وحَفَّتْ به الحدودُ العواثرْ
فلكيْ يَسْتَشِفَّ من خَلل الغي / بِ جمالاً يُذكي شبابَ الخواطرْ
ولكيْ ينهلَ السعادةَ من نب / عٍ شهيِّ الورود عذبِ المصادرْ
فلكم جاءَ بالخيالِ نبيٌّ / ولكم جُنَّ بالحقيقةِ شاعرْ
إنما يسعدُ الوجودُ وتشقو / نَ وإني لكم مثيبٌ وشاكرْ
ولكم جنتي اصطفيتكم اليو / مَ لتُحيُّوا بها جميلَ المآثرْ
فانسقوها جداولاً ورياضاً / واجعلوها سَرْحَ النهي والنواظرْ
اجعلوا النهرَ كيف شئتمْ ومُدّوا / شاطِئيهِ بين المروجِ النواضرْ
ماؤه ذوبُ خمرةٍ وسنا شم / سٍ وريّا وردٍ وألحانُ طائرْ
وضَعوا هضبةً تُطلُّ عليه / ذاتَ صخرٍ منَوّرِ العشب عاطِرْ
واغرسوا النخلة الجنيَّةَ فوق النب / ع في الموقفِ البديعِ الساحرْ
واجعلوا جنتي قصيدةَ شاعِرْ /
أدخلوا الآن أيها المحسنونا
أدخلوا الآن أيها المحسنونا /
جَنةً كنتم بها توعدونا /
اجعلوها من البدائع زونا /
واملأوها من الجمال فنونا /
املأوها فنّاً وليس فتونا /
وانشروا الصفو فوقها والسكونا /
غير لحنٍ يرفّ فيها حنونا /
تتغنى به الطيورُ وُكونا /
وسناً مُشرِقٍ يضيءُ الدجونا /
سرمديِّ الشعاعِ يمحو المنونا /
رائقِ النورِ ليس يُعشي العيونا /
وتغنوْا بها كما تشتهونا /
وصفوها جداولاً وعيونا /
ووروداً نديَّةً وغصونا /
لا تثيروا بها الهوى والمجونا /
واحذروا أن تذكّروا المجنونا /
فلقد ثابَ من هواهُ شجونا /
وخلا مهجةً وجفَّ شؤونا /
وهو في جنتيه أسعدُ شاعِرْ /
أيها الشاعرُ اعتمدْ قيثارَكْ
أيها الشاعرُ اعتمدْ قيثارَكْ / واعزفِ الآنَ مُنْشِداً أشعارَكْ
واجعلِ الحُبَّ والجمالَ شعارَكْ / وادْعُ ربّاً دعَا الوجودَ وبارَكْ
فزها وازدهى بميلاد شاعِرْ /
لوجهكَ هذا الكونُ يا حسن كلُّهُ
لوجهكَ هذا الكونُ يا حسن كلُّهُ / وجوهٌ يفيضُ البشرُ من قَسَماتِها
وتستعرضُ الدنيا غريبَ فنونها / وتعرِبُ عن نجواكَ شتَّى لغاتِها
ولولاكَ ما جاشَ الدجى بهمومها / ولا افترَّ ثغرُ الصبحِ عن بسماتِها
ولا سَعِدَتْ بالوهمِ في عالم المُنَى / ولا شَقِيَتْ بالحبِّ بين لِدَاتِها
ولا حَبَتِ الفنَّانَ آياتِ فنِّه / ولا رُزِقَ الإبداع من نفحاتِها
بكَرْتَ إلى الروضِ النضيرِ فزاحمتْ / إليكَ ورودُ الأرض نوْرَ نباتِها
وألقتْ بأنداءِ الصباحِ شفاهُها / على قدميكَ العذبَ من قُبلاتِها
تَشهَّى خُطىً فيها الرَّدَى وكأنها / تصيبُ حياةَ الخلد بعد مماتِها
ومِلْتُ إلى الأدْواحِ فانطلقتْ بها / صوادحُ طار الصمت عن وُكُناتِها
ومَدّ شعاع الفجر رَيِّقَ نورهِ / يحيّيك يا ابن الفجر من شَعفاتِها
فوا أسفا يا حسنُ لِلحظة التي / تطِيشُ لها الأحلامُ من وثباتِها
ووا أسفا يا حسنُ للفرقةِ التي / يعزُّ على الأوهامِ جمع شتاتِها
وما هيَ إلَّا الصمت والبرد والدُّجى / ودنيا يَشِيع الموتُ في جنباتِها
فضاءٌ يروعُ الريحَ فيه نشيجُها / وتفزعُ فيه البومُ من صرَخاتِها
وتنتشر الأزهارُ من عذَباتِها / وتَعْرى الغصونُ النُّضْرُ من ورقاتِها
ويغشى السماءَ الجهمُ من كلِّ ديمةٍ / تخدِّد وجه الأرضِ من عبراتِها
هنالِكَ لا الوادي ولا العالمُ الذي / عَرَفْتَ ولا الأيامُ في ضحكاتِها
ولكنْ ردَى النفسِ التي كنتَ حُبَّها / ونافثَ هذا السحرِ في كلماتِها
مَضَتْ غيرَ شعرٍ خلَّدتْ فيه وحيها / إليكَ فخذْ يا حسنُ وحيَ حياتِها
عندما ظلَّلني الوادي مساءَ
عندما ظلَّلني الوادي مساءَ / كان طيفٌ في الدجى يجلس قربي
في يديه زهرةٌ تقطرُ ماءَ / عَرفتْ عيني بها أدمعَ قلبي
قلتُ من أنتَ فلبَّاني مجيبا / نحن يا صاحِ غريبانِ هنا
قد نزلنا السهلَ والليلَ الرهيبا / حيث ترعاني وأرعاكَ أنا
قلت يا طيفُ أثرتَ النفس شَكا / كيف أقبلتَ وقُلْ لي من دعاكَا
قال أشفقتُ من الليلِ عليكا / فتتبَّعْتُ إلى الوادي خُطاكا
ودنا مني وغنَّاني النشيدا / فعرفتُ اللحنَ والصوتَ الوديعا
هو حُبِّي هامَ في الليل شريدا / مثلما هِمْتُ لنلقاكَ جميعا
وتعانقنا وأجهشنا بكاءَ / وانطلقنا في حديثٍ وشجونْ
ودنا الموعدُ فاهتجنا غناءَ / وتنظّرناكَ والليلُ عيونْ
أقبلَ الليلُ فأقبِلْ موهنا / والتمسْ مجلسنا تحتَ الظلالِ
وافِني نصدحْ بألحانِ المنى / ونعب الكأسَ من خمر الخيالِ
أقبلِ الليلةَ وانظر واسمعِ / كلُّ ما في الكونِ يشدو بمزارِكْ
جئتُ بالأحلامِ والذكرى معي / وجلسنا في الدجى رهنَ انتظاركْ
سترى يا حسنُ ما أعددتُه / لكَ من ذخرٍ وحسن ومتاعِ
هو قلبي في الهوى ذوَّبته / لكَ في رفَّافِ لحنٍ وشعاعِ
وهو شعرٌ صَورتْ ألوانُه / بهجةَ الفجرِ وأحزان الشفقْ
ونشيدٌ مثَّلتْ ألحانُهُ / همساتِ النجم في أُذْن الغسقْ
ذاك قلبي عارياً بين يديكْ / أخذتْهُ منك روْعاتُ الإله
فتأملْه دماً في راحتيكْ / وذَماءً منكَ يستوحي الحياهْ
باكيَ الأحلامِ محزونَ المنى / ضاحكَ الآلام بسّامَ الجراحْ
لم يكن إلَّا تقياً مؤمنا / بالذي أغرى بحبيكَ الطماحْ
يتمنَّى فيكَ لو يَفْنى كما / يتفانى الغيمُ في البحرِ العُبابْ
أو يُلاشي فيك حَيّا مثلما / يتلاشى في الضحى لُمح الشهابْ
زهرةٌ أطلعها فردوسُ حُبِّكْ / استشفَّتْ فجرَها من ناظريكْ
خفقت أوراقُها في ظلِّ قربِكْ / وسَرَتْ أنفاسها من شفتيكْ
هيَ من حسنكَ تحيا وتمونْ / فاحمِها يا حسنُ إعصارَ المنونْ
أوْلها الدفءَ من الصدرِ الحنونْ / أو فهبْها النورَ من هذي العيونْ
دمعُها الأنداءُ والعطرُ الشَّجا / وصدى أنَّاتِها همسُ النسيمْ
فاحبُها منكَ الربيعَ المرتجى / تصدحِ الأيامُ باللحنِ الرخيمْ
أيها الملَّاحُ قمْ واطوِ الشراعا
أيها الملَّاحُ قمْ واطوِ الشراعا / لِمَ نطوي لُجَّةَ الليل سراعا
جَدِّفِ الآن بنا في هِينةٍ / وجهة الشاطىء سيراً واتباعا
فغداً يا صاحبي تأخذنا / موجةُ الأيام قذفاً واندفاعا
عبثاً تقفو خُطى الماضي الذي / خلْتَ أنَّ البحرَ واراهُ ابتلاعا
لم يكنْ غيرَ أويقاتِ هوىً / وقفتْ عن دورةِ الدهر انقطاعا
فتَمَهَّلْ تسعدِ الرُّوحُ بما / وَهِمَتْ أو تطربِ النفسُ سماعا
وَدَعِ الليلةَ تمضي إنها / لم تكنْ أولَ ما ولَّى وضاعا
سوف يبدو الفجرُ في آثارها / ثم يمضي ودواليكَ تباعا
هذه الأرضُ انتشتْ مما بها / فغفتْ تحلم بالخلدِ خداعا
قد طواها الليلُ حتى أوشكتْ / من عميقِ الصمتِ فيه أنْ تُراعا
إنَّهُ الصمتُ الذي في طيِّه / أسفرَ المجهولُ والمستورُ ذاعا
سَمِعَتْ فيه هُتافَ المنتهَى / من وراءِ الغيب يُقريها الوداعا
أيها الأحياءُ غنُّوا واطربوا / وانهبوا من غفلاتِ الدهرِ ساعا
آهِ ما أروعَها من ليلةٍ / فاضَ في أرجائها السحرُ وشاعا
نَفَخَ الحبُّ بها من روحِه / ورَمى عن سرِّها الخافي القناعا
وجلا من صُوَرِ الحسنِ لنا / عبقرياً لَبِقَ الفنِّ صنَاعا
نفحاتٌ رقَصَ البحرُ لها / وهفَا النجمُ خُفوقاً والتماعا
وسَرى من جانب الأرض صدىً / حَرَّكَ العُشبَ حناناً واليراعا
بَعَثَ الأحلامَ من هجعتِها / كسرايا الطير نُفِّرْنَ ارتياعا
قُمْنَ بالشاطئِ من وادي الهوى / بنشيدِ الحبِّ يهتفنَ ابتداعا
أيها الهاجرُ عزَّ الملتقى / وأذبتَ القلبَ صداً وامتناعا
أدركِ التائهَ في بحر الهوى / قبل أن يقتلهُ الموجُ صراعا
وارعَ في الدنيا طريداً شارداً / عنه ضاقتْ رقعةُ الأرض اتساعا
ضلَّ في الليل سُراهُ ومَضَى / لا يَرى في أفقٍ منه شعاعا
يجتوي اللافحَ من حرقته / وعذابٍ يشعلُ الرُّوحَ التياعا
والأسى الخالدَ من ماضٍ عفا / والهوى الثائرَ في قلبٍ تداعى
فاجعلِ البحرَ أماناً حوله / واملأ السهلَ سلاماً واليفاعا
وامسحِ الآنَ على آلامِهِ / بيدِ الرفقِ التي تمحو الدماعا
وقُدِ الفلكَ إلى بَرِّ الرِّضى / وانشر الحبَّ على الفلكِ شراعا
أيها الشاعرُ الكئيبُ مضى اللي
أيها الشاعرُ الكئيبُ مضى اللي / لُ وما زلتَ غارقاً في شجونِكْ
مُسْلِماً رأسكَ الحزينَ إلى الفك / رِ وللسهدِ ذابلاتِ جفونِكْ
ويَدٌ تُمسكُ اليراعَ وأخرى / في ارتعاشٍ تمرُّ فوقَ جبينكْ
وفمٌ ناضبٌ به حَرُّ أنفا / سكَ يطغى على ضعيفِ أنينِكْ
لست تصغي لقاصف الرعد في اللي / لِ ولا يزدهيكَ في الأبراقِ
قد تمشَّى خلالَ غرفتِكَ الصم / تُ ودبَّ السكونُ في الأعماقِ
غيرَ هذا السراجِ في ضوئه الشَّا / حب يهفو عليكَ من إشفاقِ
وبقايا النيرانِ في الموقدِ الدَّا / بل تبكي الحياةَ في الأرماقِ
أنتَ أذبلتَ بالأسى قلبك الغضَّ / وحطَّمَت من رقيقِ كيانكْ
آه يا شاعري لقد نصَل اللي / لُ وما زلتَ سادراً في مكانِكْ
ليس يحنو الدجى عليك ولا يأ / س لتلك الدموعِ في أجفانِكْ
ما وراءَ السّهادِ في ليلك الدَّا / جي وهلَّا فرغتَ من أحزانِكْ
فَقمِ الآن من مكانِكَ واغنمْ / في الكرى غَطّة الخليِّ الطروبِ
والتمس في الفراشِ دِفئاً يُنسِّ / يكَ نهارَ الأسى وليلَ الخطوبِ
لستَ تُجزى من الحياةِ بما حُمّ / لتَ فيها من الضنى والشجوبِ
إنها للمجونِ والختلِ والزي / فِ وليست للشاعر الموهوبِ
قرَّبتُ للنورِ المشعِّ عيوني
قرَّبتُ للنورِ المشعِّ عيوني / ورفعتُ للّهبِ الأحمِّ جبيني
ومشيتُ في الوادي يمزَقُ صخرهُ / قدمي وتُدمي الشائكاتُ يميني
وعدوتُ نحو الماءِ وهو مقاربي / فنأى وردَّ إلى السرابِ ظنوني
وبدَتْ لعيني في السماءِ غمامةٌ / فوقفتُ فارتدَّتْ هنالك دوني
وأصختُ للنسماتِ وهي هوازجٌ / فسمعتُ قصفَ العاصفِ المجنونِ
يا صبحُ ما للشمسِ غيرَ مضيئةٍ / يا ليلُ ما للنجم غيرَ مبينِ
يا نارُ ما للنارِ بين جوانحي / يا نورُ أين النورُ ملء جفوني
ذهبَ النهار بحيرتي وكآبتي / وأتى المساءُ بأدمعي وشجوني
حتى الطبيعة أعرضتْ وتصاممتْ / وتنكرتْ للهارِبِ المسكينِ
إن لم يكن لي من حنانِكْ موئلٌ / فلمنْ أبثُّ ضراعتي وحنيني
آثرتَ لي عيشَ الأسيرِ فلم أُطقْ / صبراً وجُنّ من الأسارِ جنوني
فأعدتني طلق الجناحِ وخلتَ بي / للنور جنَّةَ عاشقٍ مفتونِ
وأشرتَ لي نحو السماءِ فلم أطر / ورددتُ عين الطائرِ المسجونِ
نسيَ السماءَ وبات يجهلُ عالماً / ألقى الحجابَ عليه أسرُ سنينِ
ولقد مضى عهدُ التنقل وانتهى / زمني إليكَ بصبوتي وفتوني
لم ألقَ بعدكَ ما يشوقُ نواظري / عند الرياضِ فليسَ ما يصبيني
فهتفتُ أستوحي قديمَ ملاحني / فتهدَّجَتْ وتعثَّرَتْ بأنيني
ونزلتُ أستذري الظلالَ فعِفنني / حتى الغصون غدونَ غير غصونِ
فرجعتُ للوَكْرِ القديمِ وبي أسىً / يطغى عليّ وذلةٌ تعروني
لما رأته اغرورقت عينايَ من / ألمٍ وضجّ القلبُ بعد سكونِ
ومضت بي الذكرى فرحتُ مكذِّباً / عيني ومتهماً لديهِ يقيني
وصحوتُ من خَبَلٍ وبي مما أرى / إطراقُ مكتئبٍ وصمتُ حزين
فافتح ليَ البابَ الذي أغلقته / دوني وهاتِ القيدَ غير ضنينِ
دعني أروّ القلبَ من خمر الرضى / وأُنِمْ على فجرِ الحنانِ عيوني
وأعِدْ إلى أسر الصبابةِ هارباً / قد آبَ من سفرِ الليالي الجونِ
عافَ الحياةَ على نواكَ طليقةً / وأتاك ينشدها بعينِ سجينِ
شاعَ في جوّهِ الخيالُ ورفَّ ال
شاعَ في جوّهِ الخيالُ ورفَّ ال / حسنُ والسِّحرُ والهوى والمراحُ
ونسيمٌ معطَّرٌ خفقتْ في / هِ قلوبٌ ورفرفت أرواحُ
ومنىً كلهنّ أجنحةٌ ته / فو ودنيا بها يَدِفُّ جناحُ
ومن الزهرِ حولها حلقاتٌ / طابَ منها الشذا ورقَّ النفاحُ
حَمَلَتْ كلُّ باقةٍ دمعَ مف / تونٍ كما تحمل الندى الأدواحُ
وهي في ميعةِ الصَّبا يزدهيها / ضَحكٌ لا تملّه ومزاحُ
وغناءٌ كأنَّ قمريةً سك / رى بألحانها تشيع الرّاحُ
أخلصتْ ودَّها المرايا فراحتْ / تتملّى فتشرقُ الأوضاحُ
كشفتْ عن جمالها كلَّ خافٍ / وأباحتْ لهنّ ما لا يُباحُ
مَعبدٌ للجمال والسحر والفت / نةِ يُغدى لقدسِه ويُراحُ
نام في بابه العزيزُ كيوبي / دُ ولكنْ في كفهِ المفتاحُ
إنْ يَنمْ فالحياةُ شدوٌ ولهوٌ / أو يُنبّهْ فأدمعٌ وجراحُ
دَخَلَتْ بي إليه ذاتَ مساءٍ / حيثُ لا ضجةٌ ولا أشباحُ
لم نكن قبلُ بالرفيقين لكن / هي دنيا تُتيحُ ما لا يُتاحُ
وجلسنا يهفو السكونُ علينا / ويرينا وجوهَنا المصباحُ
هتفت بي تراكَ من أنتَ يا صا / حِ فقلتُ المعذَّب الملتاحُ
شاعرُ الحبِّ والجمالِ فقالت / ما عليهِ إذا أحبَّ جُنَاحُ
واحتوى رأسيَ الحزينَ ذراعا / ها ومرتْ على جبينيَ راحُ
ورأت صُفرةَ الأسى في شفاهٍ / أحرقتها الأنفاسُ والأقداحُ
فمضت في عتابها كيف لم ند / رِ بما برَّحتْ بك الأتراحُ
إن أسأنا إليك فاليوم يجزي / كَ بما ذُقتَه رِضىً وسماحُ
ولك الليلةُ التي جمعتنا / فاغتنمها حتى يلوحَ الصباحُ
قلتُ حسبي من الربيع شذاهُ / ولعينيَّ زهرهُ اللمَّاحُ
نحنُ طيرُ الخيالِ والحسنُ روضٌ / كلُّنا فيه بلبلٌ صدّاحُ
فنِيَتْ في هواهُ منا قلوبٌ / وأصابتْ خلودَها الأرواحُ
قبلةٌ من ثغركِ الباسمِ دنيا وحياةُ
قبلةٌ من ثغركِ الباسمِ دنيا وحياةُ /
تلتقي الروحانِ فيها والمُنَى والصَّبواتُ /
لُغَةٌ وُحِّدَتْ الألسنُ فيها واللغاتُ /
نبعها القلب ومجراها الشفاه النضراتُ /
لغة قرَّ الشتيتُ الشملِ فيها وتواءَمْ /
وبها الأعينُ في غير حديثٍ تتفاهمْ /
مَنْ تُرى علّمها بالأمسِ حواءَ وآدمْ /
لمْ تَزُلْ جِدَّتُها وهيَ حديثٌ يتقادمْ /
قبلةٌ من ثغرِك الباسمِ رفَّتْ شفتاهُ /
من رحيقٍ لم يُحرِّمه على الناسِ الإلهُ /
كلما أُترِعَ منه القلبُ ضجَّتْ رئتاهُ /
مستزيداً وهوَ إن علَّ به زادَ صداهُ /
قبلةٌ من ثغركِ الباسمِ تمحو كلَّ ما بي /
وتواريني عن الناسِ وعن دنيا العذابِ /
وتُنَسِّي القلبَ ما جرَّعَ من سمٍ وصابِ /
قبلةٌ تمزجُ أنفاسَكِ بالقلبِ المُذابِ /
رُبَّ ليلٍ مرَّ أفنيناهُ ضماً وعناقا /
وأدرنا من حديثِ الحبِّ خمراً نتساقى /
في طريقٍ ضرَبَ الزَّهرُ حواليه نطاقا /
وتجلَّى البدرُ فيه وصفا الجوُّ وراقا /
ولزمنا الصمتَ إلَّا نظراتٍ تتكلمْ /
وشفاهاً عن جراحِ القلب راحتْ تتبسمْ /
صِحْتِ بي رعباً وما راعكِ قلبٌ يتحطّمْ /
نبأتني النفسُ بالبينِ غداً والنفسُ تُلهمْ /
ثم كان الغدُ ما نُبِّئتِ هجراً وفراقا /
ونسينا قبلةً ساغتْ على الأمسِ مذاقا /
غيرَ أناتٍ صحا القلبُ عليها وأفاقا /
فالتقينا وافترقنا وكأنْ لمْ نتلاقا /
إذا داعبَ الماءُ ظلّ الشَّجرْ
إذا داعبَ الماءُ ظلّ الشَّجرْ / وغازلتِ السُّحبُ ضوءَ القمرْ
وردَّدتِ الطير أنفاسَها / خوافقَ بين الندى والزَّهَرْ
وناحتْ مطوقةٌ بالهوى / تناجي الهديلَ وتشكو القدرْ
ومرَّ على النهرِ ثغرُ النسيم / يُقَبِّلُ كلَّ شراعٍ عبرْ
وأطلعتِ الأرضُ من ليلها / مفاتنَ مختلفاتِ الصُّورْ
هنالك صفصافةٌ في الدُّجَى / كأنَّ الظلامَ بها ما شعرْ
أخذتُ مكانيَ في ظلها / شريدَ الفؤادِ كئيبَ النظرْ
أمرُّ بعيني خلال السماء / وأُطرقُ مستغرقاً في الفِكَرْ
أطالعُ وجهك تحت النخيلِ / وأسمعُ صوتك عند النَّهَرْ
إلى أنْ يَمَلَّ الدجى وحشتي / وتشكو الكآبةُ مني الضجرْ
وتعجبُ من حيرتي الكائناتُ / وتُشفِقُ منِّي نجومُ السّحرْ
فأمضي لأرجعَ مستشرفاً / لقاءَك في الموعدِ المنتظرْ
بدَّدتِ يا قيثارتي أنغامي
بدَّدتِ يا قيثارتي أنغامي / ونسيتِ لحنَ صبابتي وغرامي
مرَّتْ ليالٍ كنتِ مؤنستي بها / وعزاءَ نفسٍ جمَّةِ الآلامِ
تروَين من طرب الصِّبا وحنينه / وتُذهِّبينَ حواشيَ الأحلامِ
كالبلبل الشّاكي رويتِ صبابتي / لحناً تمشَّى في دمي وعظامي
أنشودةُ الوادي ولحنُ شبابه / ذابتْ على صدر الغديرِ الطامي
شاقَ الطبيعةَ من قديمِ ملاحني / أصداؤُك الحيرى على الآكامِ
وشجا البحيرةَ واستخفَّ ضفافها / لحنٌ كفائرِ موجها المترامي
يا ربَّةَ الألحان غنِّي وابعثي / من كلِّ ماضٍ عاثرِ الأيامِ
هل من نشيدكِ ما يجدد لي الصِّبا / ويعيدُ لمحة ثغره البسَّامِ
ويصور الأحلامَ فتنةَ شاعرٍ / تُوحي الخيالَ لريشة الرسَّامِ
وادي الهوى ولَّتْ بشاشةُ دهرهِ / وخَلَت مغانيهِ من الآرامِ
طارت صوادحهُ وجفَّ غديرهُ / وذوى بشطَّيهِ النضيرُ النَّامي
واعتاضَ من هَمْسِ النسيم بعاصف / داوٍ يشقُّ جوانبَ الأظلامِ
وهو الصَّدى الحاكي لضائع صرختي / وصداكِ بين الغورِ والآكامِ
قد كُنَّ أُلَّافي ونزهةَ خاطري / وسماءَ وحي الشعرِ والإلهامِ
ما لي بهنّ سكتنَ عن آلامي / أنسينَ عهدَ مودتي وذمامي
يا ربَّة الألحان هل من رجعةٍ / لقديم لحنكِ أو قديم هيامي
فاروي أغانيَّ القُدامى وانفثي / في الليل من نفثات قلبي الدامي
علَّ الذي غنيتُ عرشَ جماله / وطفقتُ أرقبُ أفقه المتسامي
تُشجيه ألحاني فيسعدني به / طيفٌ يضنُّ عليَّ بالإلمامِ
ما لي أراكِ جمدتِ بين أناملي / وعصيتِ أنّاتي ودمعي الهامي
خرساءَ لا تتلو النشيدَ ولا تعي / سرَّ الغناءِ ولا تعيدُ كلامي
يغري الكآبةَ بي ويكسفُ خاطري / أني أراكِ حبيسةَ الأنغامِ
لِمَ أقبلتِ في الظلامِ إليَّ
لِمَ أقبلتِ في الظلامِ إليَّ / ولماذا طرقتِ بابيَ ليلا
لاتَ حين المزار أيتها الأش / باحُ فامضي فما عرفتكِ قبلا
أتركيني في وحشتي ودعيني / في مكاني بوحدتي مستقلا
لستُ من تقصدينَ في ذلك الوا / دي فعذراً إن لم أقُلْ لكِ أهلا
لا تُطيلي الوقوفَ تحتَ سياجي / لنْ تَرَي فيه للثَّواءِ محلا
ضلَّ مسراك في الظلام فعودي / واحذري فيهِ ثانياً أن يضلا
ذاك مأوايَ في تخوم الفيافي / طللٌ واجمٌ عليكِ أطلا
قد تخلّيتُ عن زمانيَ فيهِ / وهوَ بي عن زمانِهِ قد تخلّى
لن تَرَى من خلالِه غيرَ خفَّا / قِ شعاعٍ يكادُ في الليل يبلى
وخيالٍ مستغرقٍ في ذهولٍ / بات يرعى ذُباله المضمحلا
إبرحي بهوَه الكئيبَ فما في / هِ لعينيكِ بهجةٌ تتجلّى
قد نَزلتِ العشيَّ فيهِ على قف / رٍ جفَتهُ الحياةُ ماءً وظلا
كان هذا المكانُ روضاً نضيراً / جرَّ فيهِ الربيعُ بالأمس ذيلا
كان فيهِ زهرٌ فعاد هشيماً / كان فيه طيرٌ ولكنْ تولّى
فاسلمي من شقائه ودعيهِ / وحدَهُ يصحبُ السكونَ المملا
واطرقي غيرَ بابهِ إنَّ رَوحي / أحكمتْ دونه رُتاجاً وقُفلا
أوقوفاً إلى الصباح ببابي / شدَّ ما جِئتِهِ غباءً وجهلا
إبعدي من وراء نافذتي الآ / نَ ورفقاً إذا انثنيتِ ومهلا
إنَّ من تحتها هَزاراً صريعاً / سامهُ البردُ في العشية قتلا
وأزاهيرَ حوله ذابلاتٍ / مزَّقتها الرِّياحُ في الليلِ شملا
كان لي في حياتها خيرُ سلوى / فدعيني بموتها أتسلَّى
فهي بُقيا صبابةٍ ودموعٍ / جثيا عندها شعاعاً وطَلا
إن عيني بها أحقُّ من المو / تِ وقلبي بها من القبرِ أولى
جُنَّ قلبي فاستضحكتهُ المنايا / حيثُ أبكتني الحقيقةُ عقلا
لا تُطيلي الوقوفَ أيتها الأشبا / حُ فامضي فما رأيتكِ قبلا
أوَ لم تسمعي جهلتكِ من أنتِ / فعودي فما كذبتكِ قولا
كالنجمِ في خفقٍ وفي ومضِ
كالنجمِ في خفقٍ وفي ومضِ / متفرداً بعوالم السُّدُمِ
حيرانَ يتبعُ حيرةَ الأرضِ / ومصارعَ الأيامِ والأُمَمِ
مستوحشاً في الأفق منفردا / وكأنَّه في سامرِ الشُّهُبِ
هذا الزحامُ حيالَهُ احتشدا / هوَ عنه ناءٍ جِدُّ مغتربِ
مترنحاً كالعاشقِ الثملِ / ريّانَ من بَهجٍ ومن حَزَنِ
نشوانَ من ألمٍ ومن أملِ / مستهزئاً بالكونِ والزَّمَنِ
تلك السماءُ على جوانبه / بحرُ الحياة الفائرُ الزَّبدِ
كم راحَ يلتمسُ القرارَ به / هيمانَ بين شواطىء الأبدِ
تهفو على الأمواج صورته / وشعاعهُ اللمَّاحُ في الغوْرِ
نفَذتْ إلى الأعماقِ نظرتُهُ / فإذا الحياةُ جليةُ السرِّ
ويمرُّ بالأحداثِ مبتسماً / كالشمسِ حينَ يلفُّها الغيمُ
زادَتهُ عِلماً بالذي عَلِمَا / دنيا تناهى عندها الوهمُ
بَلغَ الروائعَ من حقائقها / فإذا السعادةُ توأمُ الجهلِ
هتف المحدِّقُ في مشارقها / ذهبَ النهارُ فريسةَ الليلِ
يا قلبُ مثلُ النَّجمِ في قلقِ / والناسُ حولك لا يُحسُّونا
لولا اختلافُ النورِ والغَسَقِ / مرُّوا بأفقكَ لا يُطلُّونا
فاصفحْ إذا غمطوك إدراكا / واذكر قصورَ الأدميينا
أتريدهم يا قلبُ أملاكا / كلَّا وما هم بالنبيينا
هم عالمٌ في غيِّه يمضي / مُستغرقاً في الحمأةِ الدنيا
نزلوا قرارةَ هذه الأرضِ / وحللتَ أنتَ القمةَ العليا
عُبَّادُ أوهامٍ وما عبدوا / إلَّا حقيرَ مُنىً وغاياتِ
ومُناكَ ليس يحدّها الأبدُ / دنيا وراء اللا نهاياتِ
ولكَ الحياةُ دنىً وأكوانُ / عزَّتْ معارجُها على الراقي
تحيا بها وتبيدُ أزمانُ / وشبابُها المتجدِّدُ الباقي
يا قلبُ كم من رائعِ الحلَكِ / ألقاكَ في بحرٍ من الرُّعبِ
كم عُذْتَ منه بقبَّةِ الفلَكِ / وصرختَ وحدكَ فيه يا قلبي
ومضيتَ تضربُ في غياهبِه / وتردُّ عنكَ المائجَ الصَّخِبا
تترقب البرقَ المطيفَ به / وتسائلُ الأنواءَ والسُّحبا
وخفقتَ تحت دَجاهُ من وَجَلِ / كالطيرِ تحت الخنجر الصلْتِ
وعرفتَ بين اليأسِ والأملِ / صحوَ الحياةِ وسكرةَ الموتِ
يا قلبُ عندكَ أيُّ أسرارِ / ما زِلنَ في نشرٍ وفي طيِّ
يا ثورةً مشبوبةَ النَّارِ / أقلقت جسم الكائنِ الحيِّ
حَمَّلْتَه العبءَ الذي فَرقَتْ / منهُ الجبالُ وأشفقتْ رَهَبا
وأثرتَ منه الرُّوحَ فانطلقتْ / تحسو الحميمَ وتأكلُ اللهبا
وملأت سِفَرَ المجد من عَجَبِ / وخلقتَ أبطالاً من العَدَمِ
وعلى حديثِك في فمِ الحِقَبِ / سِمَةُ الخلودِ ونفحة القِدَمِ
كم من عجائبَ فيكَ للبشرِ / أخذَتهمُو منها الفجاءاتُ
متنبئاً بالغيبِ والقدَرِ / وعجيبةٌ تلك النبوءاتُ
وعجبتُ منك ومن إبائكَ في / أسرِ الجمالِ وربقةِ الحبِّ
وتَلفُّتِ المتكبر الصَّلِفِ / عن ذِلَّةِ المقهور في الحربِ
يا حرُّ كيف قبِلتَ شِرعتَه / وقنِعتَ منه بزادِ مأسورِ
آثرت في الأغلال طلعتَه / وأبيتَ منه فكاكَ مهجورِ
فإذا جفاكَ الهاجرُ الناسي / وقسا عليكَ المشفقُ الحدِبُ
فاضت بدمعك فورةُ الكاسِ / وهَفَتْ بكفِّكَ وهي تضطربُ
وفزِعتَ للأحلام والذِّكرِ / تبكي وتنشدُ رجعةَ الأمسِ
وودِدْتَ لو حُكِّمتَ في القَدَرِ / لتعيدَ سيرتَها من الرَّمْسِ
ووهِمْتَ ناراً ذات إيماضِ / فبسطتَ كفَّك نحوها فزَعا
مَرَّتْ بعينكَ لمحةُ الماضي / فوثبت تُمْسِكُ بارقاً لَمعا
وصحوتَ من وهْمٍ ومن خَبَلِ / فإذا جراحُك كُلَّهن دَمُ
لجَّتْ عليك مرارةُ الفشلِ / ومشى يحزُّ وتينَك الألمُ
والأرضُ ضاق فضاؤها الرحبُ / وخَلتْ فلا أهلٌ ولا سَكنُ
حالَ الهوى وتفرَّق الصحْبُ / وبقيتَ وحدكَ أنتَ والزَّمنُ
وصَرختَ حين أجنّك الليلُ / مُتمَرِّداً تجتاحُكَ النَّارُ
وبدا صراعُك أنت والعقلُ / ولأنتما بحرٌ وإعصارُ
ما بين سلمِكما وحربِكما / كونٌ يَبِينُ ويختفي كونُ
وبنيتما الدُّنيا وحسبكما / دنيا يقيمُ بناءَها الفنُّ
على الصخرةِ البيضاءِ ظللني الدُّجى
على الصخرةِ البيضاءِ ظللني الدُّجى / أسِرُّ إلى الوادي نجيَّةَ شاعرِ
سمعتُ هديرَ البحر حولي فهاجَ بي / خوالجَ قلبٍ مُزبد اللجِّ هادرِ
وقفتُ أشيعُ الفكرَ فيها كأنما / إلى الشاطئِ المجهولِ يسبحُ خاطري
وقد نشرَ الغربُ الحزينُ ظلالَهُ / على ثَبَجِ الأمواجِ شُعْثَ الغدائرِ
ومن خَلْفها تبدو النخيلُ كأنها / خيالاتُ حِنٍّ أو ظلالُ مساحرِ
ألا ما لهذا البحر غضبانَ مثلما / تنفَّسُ فيه الريحُ عن صدرِ ثائرِ
لقد غمر الأكواخَ فوق صخوره / ولجَّ بها في موجه المتزائرِ
وأنحى على قطَّانها غيرَ مُشفقٍ / بهم أو مجيلٍ فيهمو عينَ باصرِ
وما لي كأني أبصرُ الليلَ فوقه / يرفُّ كطيفٍ في السماواتِ حائرِ
ألا أينَ صيادوهُ فوق ضفافِه / يهيمون في خلجانهِ والجزائرِ
وبحارةُ الوادي تلفَّعُ بالدُجى / وتُنْشِد ألحانَ الربيع المباكرِ
لقد غرقوا في إثر أكواخهم به / وما لمسوا من حكمِه عفوَ قادرِ
وسجَّاهمُ باليمِّ زاخرُ موجهِ / وأنزَلهم منه فسيحَ المقابرِ
أصِخْ أيها الوادي أما منك صرخةٌ / يدوِّي صداها في عميق السرائرِ
أتعلمُ سِرَّ الليل أم أنت جاهلٌ / بلى إنه يا بحرُ ليلُ المقادِرِ

المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025