القوافي :
الكل ا ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ط ع غ ف ق ك ل م ن و ه ء ي
الشاعر : عبد الغَفّار الأَخْرس الكل
المجموع : 377
أتذكر أطلالاً تعفَّتْ وأرسُما
أتذكر أطلالاً تعفَّتْ وأرسُما / بذاتِ الفضا في الجزعِ مِنْ أَيمن الحمى
منازل أحباب بها نزلَ الهوى / فلم يُبقِ إلاَّ مدنف القلب مغرما
عرفنا الهوى من أين يأتي لأهله / بها والغرام العامريّ من الدمى
لئنْ أصبحت تلك المنازل باللوى / قصارى أمانيَّ الهوى فلطالما
وقفتُ عليها والهوى يستفزُّني / فأرسلتُ فيها الدمع فذًّا وتوأما
كأَنِّي على الجرعاء أوقفت عبرة / جرت بربوعِ المالكيَّة عَنْدَما
وما أسأر البين المشتُّ بقيَّةً / من الدمعِ إلاَّ كانَ ممتزجاً دما
فأصبحتُ أستسقي السحاب لأجلها / وما بلّ وبل السحب من مثلها ظما
خليليَّ إنَّ الحبَّ ما تعرفانه / خليليَّ لو شاهدتما لعلمتما
قفا بي على رسم لميَّة دارس / لكي تعلما من لوعَتي ما جهلتما
وإنْ لم تساعدني الجفونُ على البكا / بآثار ميٍّ فاسعداني أنتما
بعيشكما إنْ تبصراني برامة / فلنْ تبصرا إلاَّ فؤاداً متيَّما
وممَّا شجاني في الدجنة بارق / بكيت له من لوعتي فتبسَّما
سرى موهناً والليل كالفرع فاحم / فقلتُ أهذا ثغر سعدى توهما
وأورى حشا الظلماء كالوجد في الحشا / وكالقلب يا ظمياء لمَّا تضرَّما
وشوَّقني ثغراً ظمئتُ لوردِه / وهل أَشتكي إلاَّ إلى ورده الظما
شربتُ الحميَّا واللمى منه مرَّةً / فلم أدرِ ما فرق الحميَّا من اللمى
وعيشاً سلبناه بأسنمة النقا / وما كانَ ذاكَ العيش إلاَّ منمنما
رعى اللهُ أحباباً رعينا عهودهم / وعهداً وصلناه ولكن تصرَّما
وغانية من آل يعرب حكَّمَت / هواها بقلبي ضلَّةً فتحكما
أَحَلَّتْ مهاة الأبرق الفرد في الهوى / دماً كانَ من قبل الغرام مُحرَّما
وفي ذلك الوادي سوالب أنفسٍ / رمينَ بأحداق السوانح أسهما
وكم من فؤادٍ قد جرحن ولم نجد / لما جرحت سود النواظر مرهما
أرى البيض لا يرعين عهداً لعاشقٍ / وإن أوثق الصبُّ العهود وأبرما
وفي الناسِ مَن إنْ تبتليه وَجَدته / وقد كانَ شهداً في المذاقة علقما
وإنِّي نظرتُ الناس نظرة عارفٍ / وأبصرتهم خَلقاً وخُلقاً وميسما
فما أبصرتْ عيني كمحمود ماجداً / ولا كشهاب الدين بالعلم معلما
من السَّادة الغرّ الميامين ينتمي / إلى خيرِ خلق الله فرعاً ومنتمى
ولمَّا تعالى بالفضائل رفعة / تخيلته يبغي العروج إلى السما
هو الصارم الماضي على كلِّ ملحد / من الله لم يفلل ولن يتثلَّما
سل الفضلَ منه واسأل البرَّ تغتدي / بأفضل ما حدثت عن من تقدَّما
لقد ضاق صدر الهوى عن كتم فضله / فأظهره إذ كانَ سرًّا مكتما
بدت معجزات الحقّ حين ظهوره / فأعجز فيها المبطلين وأفحما
إذا المطْعن المقدام شامَ يَراعَه / لما ظنَّه إلاَّ وشيجاً مقوَّما
وينشق من ظلماء ليلِ مداده / صباح هدًى لا يترك الليل مظلما
له الكتب ما أبقت من الغيّ باقياً / ولا تركت أمراً من الدين مبهما
وما هو إلاَّ رحمة الله للورى / به ينقذ الله الأنام من العمى
فلو حققت عين الحقيقة ذاته / لقلنا هو النور الذي قد تجسما
كريمٌ فما أعطى ليُمدح بالندى / ولكنه يعطي الجزيلَ تكرّما
مواطر أيديه المواطر دونها / تهاطل إحساناً وتمطرُ أنعما
وهيهات يحكيك السحاب وإن همى / نوالاً وفيض البحر علماً وإن ظمى
نراك بعين النقد أفضل من نرى / ولم نرَ أندى منك كفًّا وأَكرما
وأقسمت لو أثريتَ أَو نلت ثروةً / لما تركت جدواك في الأرض معدما
علومك ما حِيزتْ لشخصٍ جميعها / فهل كانَ ذاكَ العلم منك تعلما
حويت علوم الدِّين علماً بأسرها / وأصبحت للعلم اللَّدُنيّ ملهما
تُشيِّد دين الله بالعلم والتقى / ولو لم يشيِّده علاك تهدّما
حميت حدود الله عن متجاوزٍ / فلم نخشَ من خرقٍ وأنتَ لها حمَى
وإنَّ الذي أعطاكَ ما أنتَ أهله / أنالَكَ شأناً لا يزال معظَّما
فنلْ أجرَ هذا الصَّوم واهنأ بعيده / ورمْ مجدعاً أنفَ الحسود ومرغما
وإنِّي منى أدعُ لمجدك بالبقا / دعوتُ لنفسي أن أعزَّ وأكرما
فلا زلت فخر المسلمين وعزّها / ألا فليفاخر فيك من كانَ مسلما
وميضُ البرق هيَّج منك وجدا
وميضُ البرق هيَّج منك وجدا / فكدت تظنُّه من ثغرِ سعدى
ألمَّ بنا بجنحِ الليل وهناً / كما جرّدت من سيف فرندا
توقَّد في حشا الظلماء حتَّى / وجَدنَا منه في الأحشاء وقدا
وجدَّ بنا الهوى من بعد هزلٍ / وكم هزل الهوى يوماً فجدَّا
خليليَّ اذكرا في الجزع عَهدي / فإنِّي ذاكر بالجزعِ عهدا
وأيَّاماً عهِدتُ بها التصابي / وكانَ العيش بالأحباب رغدا
زمان كم هصرتُ به قدوداً / لباناتِ النقا وقطفت وردا
ولذَّات لأيامٍ قصار / قَضَت أيَّامها أن لا تردا
بعيشك إن مررت بدارِ ميٍّ / وهاتيكَ الطلول فلا تعدَّى
لنقضي يا هُذَيْمُ بها حقوقاً / عَلينا واجباتٍ أن تؤدَّى
أتذكرُ يوم أقبلنا عليها / على إبلٍ تقدُّ السَّيرَ قدَّا
وعُجنا العيس عن نجدٍ حثيثاً / وخلَّفنا وراء العيس نجدا
فروَّينا منازلَ دارساتٍ / بها صرف النوى أزرى وأودى
بواعث لوعةٍ ودموع عينٍ / أمدَّ العينَ منها ما أمدَّا
لئنْ خُلِقَتْ منازلنا فإنِّي / رأيت الوجدَ فيها مستجدَّا
ملكتُ وقوف جانحةٍ إليها / ولم أملِكْ لهذا الدمع ردَّا
وكانتْ للغرامِ ديارُ ميٍّ / مراحاً كلّ آونةٍ ومغدى
بودّكما رفيقيَّ ارفقا بي / إذا راعَيتُما للصبِّ ودَّا
أعيناني على كلفي لعلِّي / أرى من هذه الزفرات بُدا
ولي كبدٌ إلى الأحبابِ حرَّى / فهل تلقى لها يا سعدُ بَردا
أحبَّتَنا وإنِّي قبلَ هذا / شريت هواكمُ بالرُّوح نقدا
أزيدكُمُ دنوًّا واقتراباً / وقد زدْتُمْ مصارمةً وبعدا
عِديني يا أُميمَة بالتداني / وإنْ لم تنجزي يا ميُّ وعدا
أرى سيفي فأذكر منك لحظاً / وخطَّاري فأذكر منك قدَّا
أمنك الطَّيف واصلني وولَّى / فما بلّ الصَّدا مني وصدَّا
ولو أهديته أخرى لعيني / لأنعمني بل أسدى وأهدى
تهدّى من زرودَ إلى جفوني / وما أدري إذاً أنَّى تهدَّى
ولو أدَّى إليك حديث وجدي / عرفت إليك منِّي ما يؤدَّى
جفتني الغانيات فلا سبيلٌ / إلى سلمى ولا إسعاف سعدى
وخاصمتُ الزمانَ فخاصمتني / حوادثُ لم تزلْ خصماً ألدَّا
فإنْ أظهرتُ للأيَّامِ منِّي / رضًى عنها فقد أضمرت حقدا
سأترك للنياق بكلِّ أرضٍ / ذميلاً من توقُّصِها ووخدا
كما لابن الجميل أبي جميل / نياق مطالب الرَّاجين تحدى
فتبلغ مقصداً وتنال عزًّا / كريم لو يفتني منه قصدا
فكم يولي الجميل أبو جميلٍ / ونوليه به شكراً وحمدا
ويوشك إنْ سقَتْ يده جماداً / بجدوى أنبتتْ شيحاً ورندا
إذا يمَّمته يَمَّمتُ يمناً / وإنْ طالعته طالعتُ سعدا
لقد نالَ العلاءَ ومدَّ باعاً / إلى ما لا ينال وجازَ حدَّا
هو الجبل الأشمّ من الرَّواسي / تخرُّ له الجبال الشمُّ هدَّا
أدامَ اللهُ في الزوراءِ ظِلاًّ / له منه علينا قد أمدَّا
وآمنَ أهلَها كَيدَ الرزايا / وإن لسائرِ الأرزاء كيدا
فوقرها وقد مارت وقور / إذا حرَّكته حرَّكت طودا
وأيّة أزمةٍ لم يُدعَ فيها / ولم يمدد لها باعاً أشدَّا
ومكرمة وإحسان وفضل / وما فيها سعى ولها تصدَّى
جميل ابنِ الجميل لكلِّ حرٍّ / يؤمل منه إحساناً ورفدا
فقلْ للوفدِ غايته إليه / أَوَفْدَ الأكرمين نعمت وفدا
بجودٍ منه يترك كلَّ حرٍّ / له في ذلك الإحسان عبدا
وفيض يدٍ يكاد البحر منها / على طولِ المدى أن يستمدَّا
مرير السخط نشهد أن ما في / يثيب عفاته ضرباً وشهدا
أبيٌّ لا يضام وَرُبَّ ضيمٍ / سعى لينال جانبه فأكدى
شجاعٌ ما انتضى الصمصام إلاَّ / وصيَّر مفرقَ الأعداء غمدا
قوام الدِّين والدُّنيا جميعاً / وسيف الله والركنَ الأشدَّا
مناقبك التي مثل الدراري / نظمت بها لجِيدِ الدهر عقدا
وجودكَ للوجودِ به حياة / ولولا أنتَ مهجته تردَّى
وبعض الجود منقصةٌ وذمٌّ / وجودكَ لم يزلْ عزًّا ومجدا
بروحي منك أبيضُ مشرفيٌّ / وأمضى من شفير السيف حدَّا
يضيءُ ضياءَ منصلتٍ صقيلٍ / تجرَّد من قرابٍ أو تَبَدا
وإنِّي قد عَرَفتُ الناس طرًّا / ولم أعرف له في الناسِ نِدَّا
فَضَلْتَ العالمين بكلِّ فضلٍ / فلا عجب إذا أصبحتَ فردا
وَفَدَّتْكَ الأماجد والأعالي / ومثلك في الأماجد من يُفدَّى
وما في الماجدين أجلُّ قدراً / ولا أورى وأثقب منكَ زندا
ولا أوفى وأطولُ منك باعاً / ولا أعلنُ إلى العلياءِ جدَّا
فَدُمْ واسلمْ كما نهوى وتهوى / تَسرُّ مُوالياً وتغيظُ ضدَّا
فإنَّكَ إنْ سَلِمْتَ مَعَ المعالي / فلا نخشى لكلِّ الناس فقدا
إذا نَبَتِ الدِّيارُ بحرِّ قومٍ
إذا نَبَتِ الدِّيارُ بحرِّ قومٍ / فليسَ على المُفارقِ من جناحِ
ومنذُ وجَدتُ من همِّي رسيساً / إلى روحي وأعوزني ارتياحي
وما صَعَّرْتُ للأيام خدِّي / ولم أخفِضْ لنائبةٍ جناحي
وضاقَ بيَ الخناق فلمتُ نفسي / وإن لم يلحُني باللَّوم لاحي
وقد أصبحتُ في زمنٍ ممارٍ / يريني الجدَّ من خللِ المزاحِ
رَفَضْتُ إقامتي وَرَكِبْتُ أمراً / حَريًّا أن يكونَ به صَلاحِي
تسيرُ بنا بلُجِّ البحر فُلك / كمثل الطَّير خافقة الجناحِ
وما زلنا بها حتَّى حللنا / صَبَاحاً في كويت آل الصبَّاحِ
لدى قوم أعزّ الناس جاراً / وأندى بالنوال بطون راحِ
أباةٌ لا يطوف الضَّيم فيهم / ولا جار لهم بالمستباحِ
غيوث مكارمٍ وليوث حربٍ / وأكفاءُ الشجاعةِ والكفاحِ
نزلت بهم على سعةٍ ورحبٍ / وأنس وابتهاجٍ وانشراحِ
فقومٌ ساد عبد الله فيهم / فبالبأسِ الشَّديدِ وبالسَّماحِ
إذا نزلوا لعمرُ أبيكَ أرضاً / حَموهَا بالأسِنَّةِ والرِّماحِ
فكم بدأوا بمكرمةٍ وثنَّوا / وكم نحروا العدى نحر الأضاحي
سَقَوا أعداءهم حمرَ المنايا / بسمر الخطِّ والبيضِ الصفاح
وما زالت مكارمهم تنادي / لدى الآمال حيَّ على الفلاحِ
بأيديهم شكيمة ذي اقتدارٍ / تَرُدُّ الجامحين عن الجماحِ
همُ وضعوا أفاويق المعالي / كما رَضَعَ الفَصيلُ من اللقاحِ
إذا ما زرتُهم يوماً وفى لي / ضميني للزيارةِ بالنجاحِ
بهم أطلَقتُ ألسنَة القوافي / بما تمليه من كَلِمٍ فصاحِ
لقد مُزجَتْ محبَّتهم بروحي / مزاج الرَّاح بالماءِ القراحِ
كأَنَّ مديحُهم عندي عقارٌ / به كانَ اغتباقي واصطباحي
ثمِلْتُ بهم وما خامَرْتُ خمراً / ولا راحي بسطتُ لكأس راحِ
ألذُّ من المدامة للندامى / وها أنا في هواهم غير صاحِ
ولو أنِّي اقترحتُ على زماني / وأعطاني الزمان على اقتراحي
لما فارقتُهم يوماً ومالي / إذا وُفِّقْتُ عنهم من براحِ
ويأبى ذاكَ لي قَدَرٌ متاح / ونحنُ بقبضةِ القدر المتاحِ
بلغتُ بحمد الله ما أنا طالبُ
بلغتُ بحمد الله ما أنا طالبُ / زماناً وهنَّتني لديكَ المطالبُ
فأصبحتُ لا أرجو سوى ما رجوتهُ / مراماً وما لي في سواكَ مآربُ
وقد كنت من غيظي على الدهر عاتباً / فما أنا في شيءٍ على الدهر عاتبُ
لئن كانَ قبلَ اليوم والأمس مُذنباً / فقد جاءَني من ذنبه وهو تائبُ
وجدتُ بك الأيام مولاي طلقةً / وسالمني فيك الزمان المحاربُ
وقد شِمتُ من جدواكَ لي كلَّ بارقٍ / ونوؤك مرجوٌّ وغيثُك ساكبُ
فلا الأملُ الأقصى البعيدُ بنازحٍ / لديَّ ولا وجهُ المطالب شاحبُ
وهل تنجح الآمالُ وهي قصيَّة / وتبلغُ إلاَّ في نداكَ الرغائبُ
لقد حَسُنَتْ فيك الرعيَّة بعدما / أساءَت إليها بالخطوب النوائبُ
وألهمتها فيما تصدَّيتَ رشدَها / ألا إنَّ هذا الرشدَ للخير جالبُ
كففتَ يدَ الأشرار من كلِّ وجهةٍ / فلا ثمَّ منهوبٍ ولا ثمَّ ناهبُ
ومن لوزير قلَّد الأمر ربَّه / نظيرك شيخاً حنكته التجاربُ
بصيرٌ بتدبير الأمور وعارفٌ / بمبدئِها ماذا تكون العواقب
أذلَّ بكَ الأخطارَ وهي عزيزة / فهانتْ عليه في علاك المصاعب
تريه صباح الرأي والأمر مُبهم / فتنجاب من ليلِ الخطوب الغياهبُ
ألَنْتَ له في قسوة البأس جانباً / فلانَ له في قسوة البأس جانبُ
فأصبح لم يعرض عن الناس لطفه / ويحضر فيهم بأسه وهو غائبُ
وبأسكَ لا البيض الصوارم والقنا / وجودك لا ما تستهلُّ السحائبُ
وما زلت حتَّى يدرك المجد ثأرَهُ / وتُشْرِقُ في آفاقهنَّ المناقبُ
بأيديك سحرُ الخطّ لا الخطّ تنثني / فتثني عليها المرهفات القواضبُ
تخرُّ لك الأقلام في الطرسِ سُجَّداً / لما أنتَ تمليه وما أنتَ كاتبُ
إذا شئت كانت في العداة كتايباً / وهيهات منها إذ تصولُ الكتايبُ
تقرّط آذان الرجال بحكمةٍ / حكتها اللئالي رونقاً أو تقاربُ
متى أفرِغتْ في قالب الفكر زيَّنتْ / وزانت من الألباب تلك القوالب
بهنَّ غذاء للعقولِ وشِرْعَةٌ / تسوغ وتصفو عندهنَّ المشاربُ
تصرَّفتَ في حلوِ الكلام ومرِّهِ / فأنتَ مُجِدٌّ كيف شئتَ ولاعبُ
ذَهَبْتَ بكلٍّ منهما كلَّ مذهب / ذهاباً وما ضاقت عليك المذاهبُ
فمن ذكر وجدٍ يسلب المرءَ لبَّه / على مثله دمع المتيَّم ذائبُ
ومن غَزَلٍ عَذب كأنَّ بُيُوته / مسارحُ آرام النقا وملاعبُ
وفي الباقيات الصالحات مثوبة / من الله ما يبدو من الشمس حاجبُ
دَمَغْتَ بها من آل حربٍ عصابةً / تناقشهم في صنعهم وتحاسبُ
تناقَلَها الركبانُ عنك فأَصبحت / تُجابُ بها أرض وتطوى سباسبُ
مغيظاً من القوم الذين تقدَّمت / لهم في المخازي الموبقات مكاسبُ
غضبت بها لله غير مَداهنٍ / وغيركَ يخشى كاشحاً ويراقبُ
مواهب من ربٍّ كريمٍ رُزِقْتَها / وما هذه الأشياء إلاَّ مواهبُ
أروح أجرُّ الذيل أسحب فضله / وإنِّي لأذيال الفخار لساحبُ
بمن لم يقم في الأكرمين مقامه / ولا نابَ عنه في الحقيقة نائبُ
فقد وجدت بغداد والناس راحةً / وقد أَتْعَبَتْها قبل ذاكَ المتاعبُ
قضى عمري طال في العزِّ عمره / أقاربه مسرورة والأجانبُ
وإن قلتُ ما جاء العراق ولا نرى / نظيراً له فينا فما أنا كاذبُ
بنادرة الدُّنيا وفرحةِ أهلها / أضاءَت لنا أقطارها والجوانبُ
أمولاي ما عندي إليك وسيلة / تقرّبني زلفى وإنِّي لراغبُ
محاسنُ شعري ما إذا أنا قستها / بشعرك والإِنصاف فهي مثالبُ
وإنِّي مع الإِطناب فيك مقصِّرٌ / وإن كانَ شعري فيك ممَّا يناسبُ
أهنِّيكَ فيه مَنصِباً أنت فوقَه / بمرتبة لو أنصفتك المراتبُ
فإنَّك شرَّفتَ المناصبَ كلَّها / وما أنتَ ممَّن شرَّفَتْهُ المناصبُ
وَهَنَّيْت نفسي والعراق وأهلَهُ / وكلَّ امرئ أهل لذاك وصاحبُ
وزفَّت إليه كلَّ عذراء باكرٍ / كما زفَّت البيضُ الحسانُ الكواعبُ
قوافٍ بها نشفي الصدورَ وربَّما / تَدبُّ إلى الحسَّاد منها عقاربُ
شكرتُكَ شكر الروض باكره الحيا / وشكرك مفروض ومدحك واجبُ
وليسَ يفي شعري لشكرك حقَّهُ / ولو نُظمتْ للشعر فيك الكواكبُ
وممَّا حباهُ الله من طيِّب الثنا / مشارقها مملوءة والمغاربُ
وكلِّي ثناء في علاك وألسن / إذا كنت ممدوحي وأنت المخاطبُ
وإنِّي لأبدي حاجةً قد حجبتُها / إليك وما بيني وبينك حاجبُ
سواي يروم المالَ مكترثاً به / ويرغبُ في غير الذي أنا راغبُ
وإنَّك أدرى الناس فيما أريده / وأعلمهم فيما له أنا طالبُ
وكيف وهل يخفى وعلمك سابق / بمطلبي الأسنى وفكرك ثاقبُ
فلا زلتَ طلاَّع الثنايا ولم تزلْ / تطالعني منك النجوم الغواربُ
أتراكَ تعرفُ عِلَّتي وشَفائي
أتراكَ تعرفُ عِلَّتي وشَفائي / يا داءَ قلبي في الهوى ودَوائي
ما رقَّ قلبك لي كأن شكايتي / كانت لمسمع صخرةٍ صمَّاء
والشوق برَّح بي وزاد شجونَهُ / يا شدَّ ما ألقى من البرحاء
عجباً لمن أخذ الغرامُ بقلبه / أنَّى يعد به من الأحياء
هل يعلم الواشون أن صبابتي / كانت بلحظ مها وجيد ظباء
وتجرُّعي مضضَ الملام من التي / حلت عقيب الجزع في الجرعاء
لم يحسن العيش الذي شاهدته / من بعد ذات الطلعة الحسناء
فمتى أبلُّ صدىً بمرشف شادن / نقض العهود ولا وفى لوفائي
وجفا وملّ أخا الهوى من بعد ما / كنا عقيدي ألفةٍ وإخاء
ونأى بركب الظاعنين عشية / أين الركابُ وأينَ ذاك النائي
أصبحتُ لمَّا ماسَ عدل قوامهِ / أشكو طِعان الصعدة السمراء
وأجيبُ سائلَ مهجتي عن دائها / دائي هواك فلا بليت بدائي
لم يدر واللمسِ الممنع طبّه / أن الدواء بمقتضى الأدواء
عُج يا نديم على الكؤوس ميمِّماً / وأدِر عليَّ سلافة الصهباء
وأعد حديثَك لي بذكر أحبّةٍ / كانوا بدور سناً لعين الرائي
مرت بنا أخبارهم فكأنها / أرَجُ الصّبا عن روضة غناء
وتحاكمتْ بي في الهوى أشواقُهم / فقضى عليَّ الحبُّ أيَّ قضاء
لو كنت أدري غدركم بمحبكم / ما كنتُ أمكِنكُمْ على أحشائي
لامَ النصيحُ فما سمعتُ ملامَه / وصَدَدْتُ عنه لشقوتي وعنائي
ما كانَ أرشدني إلى سبل الهوى / لو أنني أصغي إلى النصحاء
كيف المنازلُ بعد ساكنة الحمى / عهدي بها قمريَّة الأرجاء
لما وقفت على منازلها ضحىً / حَيَّيتُها بتحيَّةِ الكرماء
عادتنيَ الأيَّام في سُكانها / كعداوة الجُهَّال للعلماء
هل أصبح الدهر الخؤون معاندي / أم كانت الأيام من خصمائي
ما للَّيالي إن نظرْنَ فضائلي / نظرتْ إليَّ بمقلة عمياء
إنِّي أصون الشعر لا بخلاً به / عن أن يذل بساحة اللؤماء
أن كنت تثني بالجميل على امرئ / فعلى جميل أبي الثناء ثنائي
أعيى المناضلَ والمناظرَ فارتقت / علياؤه قدراً على العلياء
متوقد مثل الضرام فطانة / وبلطف ذاك الطبع لطف الماء
فتبلَّجت منه شموس فضائلٍ / ظهرت على الدنيا بغير خفاء
وعلت على أفهامنا ألفاظه / فتمثَّلت بكواكب الجوزاء
تلك الرويّة والسجيَّة لم تزل / أقمار أفقٍ أو نجوم سماء
كم قد أفيضت من يديه لنا يدٌ / شكراً لهاتيك اليد البيضاء
إيْ والذي جعل العلى من مجده / فرح الصديق وغمَّة الأعداء
شِمنا بوارق نائل من سيله / متتابع الإحسان بالآلاء
هيهات يحكي جوده صوب الحيا / والغيث موقوف على الأنواء
بحر إذا التمس المؤمِّلُ ورْده / فاضت عليه زواخر الأنداء
إن قيل في الزوراء أصبح قاطناً / فاعلم بأنَّ المجدَ في الزوراء
نُشرت علومك في البلاد جميعها / كالصُّبح إذ ملأ الفضا بضياء
ولك الذَّكاءُ كأنّما برهانه / يكسو سناه تبلّج ابنِ ذكاء
ونظرتَ في الأشياء نظرة عارف / حتَّى عرفت حقائق الأشياء
وكشفتَ من سر العلوم غوامضاً / فيهن كانت حيرة الحكماء
أجريت حكم الله بين عباده / فعَلَتْ بحكمك راية الإفتاء
وكأنما يوحى إليك فقد بدت / لك معجزات النظم والإنشاء
فَعَلَت لك الأقلام في مهَج العدى / ما تفعل الأبطال في الهيجاء
خرسٌ إذا أنطقتَها بأنامل / أخرَسْتَ فيها ألسن الفصحاء
أبكيتها فتضاحكت لبكائها / روضُ الفضائل لا رياض كبار
فإذا مدحت مدحت غير مراهن / فيها وغير معرض لرياء
فاهنأ بهذا العيد إنك عيده / يا فرحتي دون الورى وهنائي
وأجزْ عبيدك في رضاك فإنه / وأبيك غايةُ مطلبي ورجائي
لا زلت منفرداً بما أدَّيته / من رفعةٍ وفضيلة وعلاء
قَدَحت في مزجها بالماء ناراً
قَدَحت في مزجها بالماء ناراً / فأعادت ظلمةَ اللَّيل نهارا
شمس راحٍ في الدجى يحملها / طلعة البدر إذا البدر استنارا
عُتِّقَتْ في الدَّنِّ حتَّى إنها / لتعي ما كانَ في الماضي وصارا
فسلوها كيف كانت قبلنا / عادٌ الأولى صغاراً وكبارا
أيّ نادٍ للهوى يومئذٍ / يوم نادينا إلى اللهو البدارا
وجلوناها عروساً طالما / حبيب من حَبَب المزج نثارا
وكسونا بالسَّنا جسم الدجى / وخلعنا في اللذاذات العذارا
وسعى ساقٍ بها تحسبُه / غصناً يهدي إلينا الجلَّنارا
علَّمَ الغصن التثني والصّبا / طرب الأنفس والظبي النفارا
وبما فُضِّل من بهجته / تفضل المرو على البيض العذارى
سمحٌ ممتنعٌ قيل له / أدِرِ الكأسَ علينا فأدارا
فترى الناس سكارى في هوى / ذلك الساقي وما هم بسكارى
يا شبيه الورد والآس وما / أحسن التشبيه خدًّا وعزارا
بأبي أنتَ وإن جلَّ أبي / عاطنيها مثل خدَّيك احمرارا
واسقني من فيك عذباً سائغاً / إنَّ بي منك ومالسكر خمارا
بين ندمانٍ أراقوا دَمَها / بنت كرم تسلبُ الشيخ الوقارا
حنفاءٍ حلَّلوا ما حرّمت / ورأوا في أخذها رأي النصارى
ركبوا لِلَّهو في مضماره / أشقراً يصدم أجراهم عثارا
وكميتاً ما جرتْ في حلبةٍ / للوغى يوماً ولا شقَّت غبارا
فكأَنَّ الكأسَ فيما فَعَلَتْ / أدركتْ عند عقول القوم ثارا
كلُّ مختال بها في عزَّةٍ / قد مضى يسحبُ في الفخرِ الإِزارا
وإذا ما عاودته نشوةٌ / ألبسته تاج كسرى والسوارا
خَفَّ بالراح فلو طارَ امرؤٌ / قبل هذا اليوم بالراح لطارا
وسمرنا بالذي يطربنا / من حديث وشربناها عقارا
وتناشدنا على أقداحها / مِدَحاً تزهو نظاماً ونثارا
بأغرٍّ أبلج من هاشم / أبلَجَ المحتد فرعاً ونجارا
تشرق الأقمار في غُرَّته / فهو الشمسُ التي لا تتوارى
سرّ رمز المجد مبنى بيته / علم السؤدد سرًّا وجهارا
كالحيا المنصبِّ بل أندى يداً / والحسام العضب أو أمضى شفارا
تلك أيديه التي إحداهما / تورثُ اليُمْنَ وبالأخرى اليسارا
مستفاض الجود منهلُّ الندى / يوم لا تلقى به إلاَّ الأوارا
والقوافي الغرّ في أيَّامه / يجتنيها بأياديه ثمارا
في زمانٍ مذنبٍ لم يعتذر / بكريم لبني الفضل اعتذارا
ترك الدهر ذليلاً طائعاً / لمنيع من أعزّ الناس جارا
ولي الفخر بأنِّي شاعر / لأناس لبسوا التقوى شعارا
هم أقاموا عَمَدَ الدِّين وهم / أوضحوا في الحقِّ للخلق المنارا
كلّ حِلي من فخارٍ وعُلًى / كانَ حِلياً من حُلاهم مستعارا
في سبيلِ الله ما قد أنفقوا / من أيادٍ فاسألوها نضارا
أمَّةٌ يستَنزَلُ الغيثُ بهم / وبهم تَستكشِفُ الناس الضرارا
فإذا استنجدتهم كانوا ظبا / وإذا استمطرتهم كانوا قطارا
جبروا كلّ مهيض للعُلى / وأنابوا الكفر ذلاًّ وانكسارا
أجَّجوا نيرانها يوم الوغى / بمواضيهم وإن كانوا بحارا
في مقامٍ قَصُرَتْ فيه الخُطا / بالطَّويلات وما كنَّ قصارا
فعليهم صلوات أبَداً / تَتولاّهم غُدُوًّا وابتكارا
أو لستَ الآن من بعدهم / قبساً من ذلك النور أنارا
طالما سيّرتها قافيةً / غرَّة لم تتَّخذ في الأرض دارا
حاملات مثل أرواح الصبا / من شذى مدحك شيحاً وعرارا
هذه أيَّام أنواء الحيا / إنَّ أنواءَكَ ما زالت غزارا
فاسقني فيهنَّ سحًّا غدقاً / أجلب العزّ وأستقصي الفخارا
واتَّخذني لك ممَّن لم يجِد / عنك في معترض المدح اصطبارا
وابق للعيد وحزْ في مثله / مفخراً يسمو وصيتاً مستطارا
قَلبٌ يَذوبُ ومهجةٌ تَتَقطَّع
قَلبٌ يَذوبُ ومهجةٌ تَتَقطَّع / وجوًى يهيجُ به الفؤاد المولَعُ
لي بعد مَن سكن الغضا نار الغضا / تطوى على الزفرات منها الأضلع
ما زِلتُ تُصْبيني الصّبا بهبوبها / سَحراً وتبكيني البروق اللُّمَّعُ
وتهيجني الورقاء ما إنْ أصْبَحَتْ / تشدو على فنن الأراك وتسجع
تُملي عليَّ حديث فرط شجونها / في الشجوِ وفي صُحفِ الغرام فأطمعُ
وقضى ادِّكار الظاعنين بأنَّه / لا يستقرُّ لمستهامٍ مضجعُ
أرأيتَ أنَّ المزمعين على النوى / عزَموا على أخذ القلوب وأزمعوا
لو كنتَ يومَ البين حاضرَ لوعتي / لرأيت كيف تصوب تلك الأدمعُ
أشكو إليك وأنت أبصر بالهوى / ما أودعوا يا سعد ساعة ودّعوا
هم أهرقوا دمعي المصونَ وأوقدوا / في القلب غُلَّةَ وامقٍ لا تنقعُ
ولقد رعيتُ لهم هناك وما رَعوا / وحَفِظْتُ وُدَّهم القديم وضيَّعوا
وأخذت أذكرهم وبينَ جوانحي / كبدٌ تكادُ لما بها تتصدَّعُ
حُيِّيت يا دار الأحبَّة في اللوى / بحياً يصوبك في العشيِّ ويقلعُ
حتَّى يراقَ على ثراك فترتوي / بعد الظما تلك الطلول الخشع
كانت منازلنا تروقُ بأوجهٍ / غَرَبَتْ فأينَ تقول منها المطلعُ
يا عهدنا الماضي وليسَ براجعٍ / أفترجعنَّ بما مضيت فترجعُ
واهاً لعيشك يا نديم بمثلها / والكأسُ من حدق الأوانس تترعُ
حيث الصبا غضٌّ وأعلاق الهوى / ممَّا تُغَرُّ بها الملاح وتخدعُ
نجد الهوى رطْبَ المَجَسِّ فواصلٌ / لا ينثني وملايمٌ ومُمَنَّعُ
ونروض باللّذّات كلَّ أبيَّةٍ / منها لنا فيها القياد الأطوعُ
نكصَتْ على أعقابها أسرابها / وخلا من الظبيات ذاك المربعُ
ويحَ المتيّم من فراقِ أحبَّةٍ / عفَتِ المنازلُ بعدهم والأربعُ
يتجرَّع المرَّ الزعاف وإنَّما / كأس الصدود أقلُّ ما تتجرع
ولربما احتمل السلوَّ لوَ انَّه / يصغي إلى قول العذول ويسمع
لي في المنازل حيثُ رامة وقفةٌ / فيها لمن عانى الصبابة مصرعُ
إنَّ الأحبَّةَ في زرود ولعلعٍ / سُقي الغمامَ بهم زرودُ ولَعْلَعُ
هتفَ النوى بهم ضحًى فتبادروا / فيه إلى تلف المشوق وأسرعوا
يا هَلْ تراهم يألفون وهل ترى / يَهَبُ الزمان لأهله ما ينزع
يشتاقهم أبداً على شحط النوى / قلبٌ به حُرَقٌ وعينٌ تدمعُ
أنفكُّ أستشفي بطيب حديثهم / أو يشتفي هذا الفؤاد المُوجعُ
لا تسألنِّي كيف أنتَ فإنَّني / جَلدٌ على الأيام لا أتضعضعُ
صفعتْ قذال المطمعات أبوَّتي / وقفا الدنيَّةِ بالأُبوَّة يُصفعُ
أنا من جميل أبي جميل لم أزلْ / أُدعى إلى المجد الأثيل فأتبع
عنه المكارم في الوجود تنوعت / أجناسها والجنس قد يتنوّع
أفْنَتْ عطاياه الحطامَ وإنَّه / لله أو لسبيله ما يَجْمَعُ
لولاه ما عرف الجميل ولا زها / في غيره للفضل روضٌ ممرعُ
متهلّلٌ بجمال أبهج طلعةٍ / ممَّن تشير إلى علاهُ الإصبعُ
ترجى المنافع من لَدُنه وإنَّما / نالَ المعالي من يضرّ وينفعُ
أينَ الضياغمُ من علاه إذا سطا / هو لا مراء من الضياغم أشجعُ
في موقف ترد النفوس من الردى / والهامُ تسجدُ والصوارمُ تركعُ
والحرّ يطرب حيث صادية الظبا / تروى وساغبة القشاعم تشبع
ذو رأفة في العالمين وشدَّةٍ / تومي لعاتية الأُمور فتخضعُ
قطعت أراجيف الرجاء لأهلها / وكذلك العضب المهنَّد يقطعُ
لله درّك لو وزنت بك الورى / لرجحت حينئذٍ وقدرك أرفعُ
يا من رأيت به المديح فريضة / ومن المدايح واجب وتطوّع
فإذا رضيت فما الشهاد المجتنى / وإذا غضبت فما السمام المنقع
شكراً لسالفة الصنايع منك لي / حيث المكارم والمكان الأَرفعُ
بلَّغتني نعماً خطبت بشكرها / فأنا البليغ إذا خطبت المصقعُ
ونشرتُ بعد الطيّ فيك قصائدي / طيب الثناء عليك فيها يسطعُ
لولا مدايحك الكريمة لم تكن / تصغي له أذنٌ ويطرب مسمعُ
أكبتّ حسَّادي بنعمتك التي / أمستْ تذلّ لها الخطوب وتخضع
أتنالني أيدي الزمان بحادثٍ / يوماً وجانبك الأغرّ الأمنع
قسماً بمن رفع السماء فأصبحت / زهر النجوم بنظم مدحك تطمع
إنَّ الأُبوَّة والرياسة والعُلى / من غير وجهك شمسها لا تطلعُ
في كلِّ يومٍ من علاك صنيعة / أنت المجيد لها وأنت المبدعُ
والناس إلاَّ أنت في كبّارها / صمٌّ عن الفعل الجميل إذا دُعوا
تالله إنَّك واحدٌ في أهلها / ولأنت أنت المشتكى والمفْزَعُ
ما ضلَّ عن نيل الغِنى ذو حاجة / وإلى مكارمك الطريق المهيعُ
ترجو نَداك وتتَّقي منك العِدى / فالبأس بأسُكَ والسَّماحة أجمعُ
تعطي وتمنع نائلاً وأبوَّة / لا كانَ من يعطي سواك ويمنعُ
الله يعلم والعوالم كلُّها / إنِّي لغيرِ نَداك لا أتوقعُ
لا زالَ لي من بحرِ جودك مورد / عذب ووبل سحابة لا تقلعُ
فلئن طمعتُ فلي بجودك مطمعٌ / ولئن قنعتُ فلي بجودك مقنعُ
أدارَ الكأس مترعةً شرابا
أدارَ الكأس مترعةً شرابا / وأهداها لنا ذهباً مذابا
وقد غارت نجوم الصبح لمَّا / رأته وهو قد كشفَ النقابا
وقالَ ليَ الهوى فيه اصطحبها / وطِبْ نفساً بها فالوقت طابا
ونحنُ بجنَّةٍ لا خلدَ فيها / ولا واش نخاف به العقابا
ونارُ الحسن في وَجَنات أحوى / من الغلمان تلتهب التهابا
أدرها يا غلام عَليَّ صرفاً / وأرشفني بريقتك الرضابا
أدرها مُزَّة تحلو وَدَعني / أُقبِّل من ثناياك العذابا
أراش سهامَ مقلته غريرٌ / إذا أرمى بها قلباً أصابا
وطافَ بها على الندمان يسعى / كأَنَّ بكفِّهِ منها خضابا
وشَرِبٍ يشهدون الغيَّ محضاً / إذا الشيطان أبصرهم أنابا
عكفت بهم على اللَّذَّات حتَّى / قرعت بهم من الغايات بابا
متى حجب الوقار اللَّهو عنهم / رأوا أنْ يرفعوا ذاك الحجابا
وقاموا للَّتي لا عيبَ فيها / يرَوْنَ بتركها للعاب عابا
كأَنَّ مجالس الأفراح منهم / كؤوس الرَّاح تنظمهم حبابا
تريك مذاهباً للقومِ شتَّى / وتذهب في عقولهم ذهابا
تحرَّينا السرور وَرُبَّ رأيٍ / أرادَ الخِطْءَ فاحتمل الصوابا
وما زلنا نريق دمَ الحميَّا / ونشربها وقد ساغتْ شرابا
إلى أن أقلعت ظلم الدياجي / كما طيَّرتَ عن وكرٍ غرابا
وغنَّتنا على الأَغصان وُرْقٌ / نهزّ لهنَّ أعطافاً طرابا
وقد ضحكَ الأَقاح الغضُّ منَّا / وأبصرَ من خلاعتنا عجابا
وظلّ البان يرقص والقماري / تغنِّيه انخفاضاً وانتصابا
وفينا كلُّ مبتهج خليعٍ / طروب شبَّ عارضه وشابا
إذا شرب المدام وأطربته / أعادَ على المشيبِ بها الشبابا
ألا بأبي من العشَّاق صبٌّ / متى ذكر الغرام له تصابى
بكُلِّ مهفهفِ الأعطاف يعطو / بجيد الظبي روع فاسترابا
إذا وطئ التراب بأخمصيه / تمنَّى أن يكون له ترابا
وأيم الله إنك مستهام / إذا استعذبت في الحبِّ العذابا
أعدْ لي ذكر أقداحٍ كبارٍ / ملاءً من شربك أو قرابا
وخلِّ اليوم عنك حديث سلمى / فلا سلمى أريد ولا الربابا
ومن قول الشجيّ سألت ربعاً / خلا ممَّن أُحبّ فما أجابا
وخذ بحديث سلمانٍ فإنِّي / أحبّ به الثناء المستطابا
يهاب مع الجمال ولا يدارى / ويوصف بالجميل ولا يحابى
فلو فاكهته لجنيت شهداً / ولو عاديته لشهدت صابا
ولم ترَ قبله عينٌ رأته / جميلاً راح محبوباً مهابا
ينوب عن الصَّباح إذا تجلَّى / وما ناب الصَّباح له منابا
بنفسي من أفديه بنفسي / وما فدَّاه من أحدٍ فخابا
رغبت عن الأنام به فأضحى / يطوِّقني أياديه الرغابا
فكان ليَ الثناء عليه دأباً / وكان له الندى والجود دابا
هم الرأس المقدَّمُ من قريش / يريك الناس أجمعها ذنابا
وهم من خير خلق الله أصلاً / وفرعاً واحتساباً وانتسابا
ويرضى الله ما رضيت قريشٌ / ويغضب إنْ هم راحوا غضابا
ففيهم شيَّد الله المعالي / وفيهم أنزل الله الكتابا
أولئك آلُ بيتٍ أنزلوها / تراثاً عن أبيهم واكتسابا
شواهق من جبال المجد تسمو / مفاخرها وأبنية رحابا
وأخلاقاً مهذَّبة لِداناً / وإيماناً من الجدوى رطابا
إليكم ننتمي وبكم نباهي / من البحر الشرايع والعبابا
وفي الدَّارين ما زلنا لديكم / نجوز الأجر منكم والثوابا
وأبلغ ما يكون به التَّمنِّي / دنوًّا من جنابك واقترابا
زماناً راعني بنواك شهراً / فما لي لا أريع به الركابا
فليس العيدُ ما أوفى بعيدٍ / ولم أشهد به ذاكَ الجنابا
وعاتبنا بفرقتك الليالي / على ما كانَ حزناً واكتئابا
فأمَّا أقصر الأَشراف باعاً / فأطولهم مع الدُّنيا عتابا
فيا قمراً عن الزوراء غابا / زماناً للتنزُّه ثمَّ آبا
طلعت طلوع بدر التِّمِّ لمَّا / غَرَبْتَ فلا لقيت الاغترابا
وجئت فجئتنا بالخيرِ سيلاً / تُسيلُ به الأباطح والهضابا
فإنَّك كلَّما استُسقيت وبلاً / سقيت وكنت يومئذٍ سحابا
فمن مِنَح شرحتَ لنا صدوراً / ومن مِنَنٍ تقلّدها الرقابا
ولمَّا أنْ نظمتُ له القوافي / ولجت بها على الضرغام غابا
وقمتُ عليه أُنشدُها وأهدي / لحضرته الدعاء المستجابا
إذا منع اللئيم ندى يديهِ / أبى إلاَّ انصباباً وانسكابا
لِمَن السوابقُ والجيادُ الضُمَّرُ
لِمَن السوابقُ والجيادُ الضُمَّرُ / تخدي ويزجرها الغرام فتعثَرُ
حفَّت بها أُمَمُ الرِّجال كأَنّها / زمرٌ تساق إلى الجنان وتحشر
يَتَشرَّفون بحمل ثَوبِ نبيِّهم / فوق الرؤوس هو الطراز الأخضر
وحلاوة الإِيمان حشو قلوبهم / ولسانهم عن ذكره لا يفتر
يبكون من فرحٍ به بمدامعٍ / كالدّرّ فوقَ خدودهم تتحدر
كلٌّ له ممَّا اعتراه صبابة / كبدٌ تذوب ومهجة تتسعر
مترجّلين كأنّما مالت بهم / راحٌ يسكِّر ذكرها أو تسكر
وترى السَّكينة والوقار عليهم / والخيل من تيه بها تتبختر
حَمَلَت ثياب نبيِّنا وسعت به / سعياً على أيدي الليالي يشكر
وتفاخروا في لَثْمها وتبركوا / حقًّا لمثلهم بها أن يفخروا
أمُّوا بها النّعمان حتَّى شاهدوا / إشراقَ نور ضريحه فاستبشروا
حيث الهدى حيث المكارم والتقى / حيث الفضائل منه عنه تنشرُ
أرضٌ مقدَّسةٌ وترب طاهر / ومشاهد فيها الذنوب تكفر
وبكوا سروراً في معاهد أُنسِهِ / غشَّى عيونهم السنا فاستعبروا
لاحتْ لهم هذي القباب فهلَّلوا / وبدا لهم هذا المقام فكبَّروا
هذا إمامُ المسلمين ومذهب ال / حقَّ المبين وسرّه والمظهر
هذا مداد العلم هذا بابُه / إنَّ العلوم بصدره تتفجَّر
هذا صباح الحقّ هذا شمسه / قد راقَ منظره ورق المخبر
هذا الذي في كلِّ حالٍ لم يزل / عَلَماً على الأَعلام لا يتنكر
هذا الذي أوفى الفضائل كلَّها / فازَ المُقِرُّ بها وخابَ المنكِرُ
هذا المنى هذا الغنى هذا التقى / هذا الهُدى هذا العُلى والمفخر
هذا الإِمامُ الأعظم الفرد الذي / آثاره تبقى وتفنى الأَعصر
إنْ تنكر الأَرفاض فضل إمامِنا / عَرَفوا الحقيقة والصواب فأنكروا
لُعِن الرَّوافض إنَّما أخبارهم / كذِبٌ على آل النبي تُزَوّر
السَّادة الغرّ الميامين الأُلى / قد نزّهوا ممَّا سمته وطُهروا
كذبت عليهم شيعة مخذولة / قالوا كما قالَ اليهود وكفَّروا
وكذا الهشامان اللَّذان تزندقا / فقضى بكفرهما الإِمام وجعفر
ساؤوا رسول الله في أصحابه / وبقولهم بالإِفك وهو يكفر
لعنوا بما قالوا وغُلَّت منهم ال / أيدي وذلّوا بعدها واستحقروا
هتكوا الحسين بكلِّ عامٍ مرَّةً / وتمثَّلوا بعداوةٍ وتصوَّروا
وَيلاهُ من تلك الفضيحة إنَّها / تُطوى وفي أيدي الروافض تُنْشَرُ
كتموا نِفاقاً دينَهم ومخافةً / فلو اسْتُطِيعَ ظهوره لاستظهروا
أو كانَ ينفذ أمره لتأثَّروا / أو كانَ يَسمع قولهم لتحيَّروا
لا خير في دين ينافون الورى / عنه من الإِسلام أو يتستَّروا
ليس التقى هذي التقيّة إنَّما / هذا النّفاق وما هواه المنكر
هم حرَّفوا كَلِمَ النَّبيّ وخالفوا / هم بدَّلوا الأَحكام فيه وغيَّروا
لو لم يكن سَبُّ الصَّحابة دينَهم / لتهوَّدوا في دينهم وتنصَّروا
سبُّوا أئمَّتنا وأنجمَ ديننا / من نرتجي يوم المعاد ونذخر
قد جاهدوا في الله حقّ جهاده / وتطاولوا لكنَّهم ما قصَّروا
فتحوا البلاد ودوَّخوها عنوة / جمع الضلال بفتحها يتكسر
إنَّ الجهاد على الروافض لازمٌ / ويثاب فاعله عليه ويؤجر
من لم يعادِهمُ فذاك مذبذبُ / أو لم يكفرهم فذاك مكفَّر
يا قدوة الإِسلام يا عَلَم الهُدى / إنَّ الهُدى من نور علمك يظهر
ولقد ورثت عن النَّبيِّ علومه / فجرت لديك فإنَّما هي أبحر
جئناكَ في ثوب النَّبي محمَّدٍ / فيه الفخار وفيه ما نتخيَّر
ومنوّرٍ بضريح أفضل مرسلٍ / يا حبَّذا ذاك الضريح الأَنور
ومعفّرٍ بترابِ أشرفِ حضرةٍ / فالمسك بعض أريجه والعنبر
هو رحمةٌ للعالمين ورأفةٌ / وهو البشير لخلقه والمنذر
متوسِّلين بسترِ قبرِ محمَّدٍ / ستر به قبر الرَّسول مسَتَّر
يا ربَّنا بمحمَّدٍ وبآلِهِ / مَن منهم أثر الهداية يؤثر
وبصحبة النَّاصرين لدينه / من أوضحوا سبل الهُدى إذ أظهروا
يا ربّ بالعلماء أعلام الهُدى / العاملين بما تقول وتأمر
نحنُ العبيد كما علمت بحالنا / والعَبْدُ يا ربّ العباد مقصّر
كل يرجّي فضل رحمة ربِّه / ويخاف إيعاد الذنوب ويحذر
متذلِّلين مقصّرين لذنبهم / يا من يذلّ لعزِّهِ المستكبر
فاسبل علينا ثوب حلمك مالنا / إلاَّ بحلمك يا كريمُ تَسَتُّرُ
واغفر بعفوك يا غفور ذنوبنا / إنَّ الذنوب بجنب عفوك تغفر
وانصر إمام المسلمين وجيشه / نعم الإِمام لما به نستنصر
يا ربّ سامحْنا على هفواتنا / فذنوبنا ممَّا علمنا أكبر
هذا عليٍّ قد أتى متوسِّلاً / يرجو الثواب إذا الخلايق تحشر
فأجبه بالغفران واخذل ضدَّه / يا من يفوز بعفوه المستنصر
واعلِ على رغم الأعادي قَدْرَهُ / وانصره إنَّك سيِّدي مَن تنصرُ
دمِّر به أهل الضلال جميعها / ليفرّقوا في سيفه ويُدمَّروا
أيِّد به الدِّين القويم فإنَّه / ذو غيرة بالدِّين لا يتغيَّرُ
لا يتَّقي في الله لومة لائمٍ / خصم الأَعادي والعدوُّ الأكبرُ
عادَ المتيَّم في غرامِكَ داؤُه
عادَ المتيَّم في غرامِكَ داؤُه / أهُوَ السَّليمُ تَعودُهُ آناؤُه
فتأجَّجتْ زفراته وتَلَهَّبَتْ / جمراتهُ وتوقَّدت ومضاؤُه
حسبُ المتيَّم وَجْدُهُ وغرامه / وكفاه ما فعلت به برحاؤُه
بالله أيَّتها الحمائم غرِّدي / ولطالما أشجى المشوقَ غناؤُه
نوحي تجاوبك الجوانح أنَّةً / وتظلُّ تندبُ خاطري ورقاؤُه
هيهات ما صدق الغرام على امرئٍ / حتَّى تذوب من الجوى أحشاؤُه
إن كانَ يبكي الصبّ لا من لوعة / أخذت بمهجته فممَّ بكاؤه
بترقرق العبرات وهي مذالة / سرٌّ يضرّ بحاله إفشاؤه
يا قلب كيف علقت في أشراكهم / أو ما نهاك عن الهوى نصحاؤه
لا تذهبنَّ بك المذاهب غرّة / آرام ذيَّاك الحمى وظباؤه
وبمهجتي من لحظ أحور فاتنٍ / مرض يعزُّ على الطبيب شفاؤه
هل يهتدي هذا الطبيب لعلَّتي / إنَّ الغرامَ كثيرة أدواؤه
واللَّيل يعلم ما أَجَنَّ ضميره / من لوعتي وتضمَّنَتْ أرجاؤه
ما زلت أكتحل السواد بهجركم / أرقاً ويطرف ناظري أقْذاؤه
حتَّى يشقّ الصّبح أردية الدجى / وتحيل صبغة ليله ظلماؤه
زعم العذول بأنَّ همّي همّه / ومن البليَّة همّهُ وعناؤه
يدعوه الفؤاد إلى السلوّ ودونه / للشوق داع لا يردُّ دعاؤه
لا يطمئنَّ بيَ الملام فما له / منِّي سوى ما خابَ فيه رجاؤه
حكمَ الغرام على ذويه بما قضى / ومضى عليهم حكمه وقضاؤه
يا رحمة للمغرمين وإنْ تكنْ / قتلى هواك فإنَّهم شهداؤه
ما كانَ داء الحبّ إلاَّ نظرةً / هي في الصّبابة داؤه ودواؤه
في الحيِّ بعد الظاعنين لما به / مَيْتٌ بكته لرحمة أحياؤه
أحبابه النائين عنه أأنتم / أحبابه الأدنون أو أعداؤه
حفظ الوداد فما لكم ضيَّعتموا / ووفى بعهدكم فدامَ وفاؤه
وجزيتموه على الوفاء قطيعةً / أكذا من الإِنصاف كانَ جزاؤه
ما شرع دين الحبّ شرعة هاجر / صدق الخلوص لودّه شحناؤه
خاصمت أيَّامي بكم فرغمتها / والحرُّ أوغادُ الورى خصماؤه
سفهاً لرأي الدهر يحسب أنَّني / ممَّن يُراع إذا دهتْ دهياؤه
ألقى قطوب خطوبة متبسِّماً / وسواي يرهب في الخطوب لقاؤه
إنِّي ليعجبني ترفُّعُ همَّتي / ويروق وجهي صونه وحياؤه
لا تعجبنَّ من الزمان وأهلِهِ / هذا الزمان وهذه أبناؤه
ليس المهذَّب من تطيش بلبِّه / نعماؤه يوماً ولا بأساؤه
تمضي حوادثه فلا ضرَّاؤه / تبقى على أحدٍ ولا سرَّاؤه
لا بدَّ من يومٍ يُسَرُّ به الفتى / وتزول عن ذي غمَّة غمَّاؤه
ولربَّما صدئ الحسام وناله / قين فعاد مضاؤه وجلاؤه
أوَ ما تراني كيف كنت وكانَ لي / من كانَ أفخر حليتي نعماؤه
عبد الغنيّ أبو جميل وابنه / وكذا بنوه وهكذا آباؤه
نسبٌ أضاءَ به الوجود وأشرقتْ / في مشمخر علائِه أضواؤه
جعل الإِله لنا نصيباً وافراً / من اسمه فتقدَّستْ أسماؤه
هذا القريب من العُفاة عطاؤه / هذا الرحيب بمن ألمَّ فِناؤه
ضربت على قلَل الفخار قِبابه / وبدا لمشتطِّ الدِّيار سناؤه
إن كانَ يُعرَف نائلٌ فنواله / أو كانَ يُعْلَمُ باذخ فعلاؤه
شيخٌ إذا الملهوف أمَّ بحاجةٍ / في بابه نشطتْ لها أعضاؤه
يفدي النزيل بما له وبنفسه / نفسي ونفس العالمين فداؤه
مُتَنَمِّرٌ إن سيم ضيماً أدميت / منه البراثن واستشاط إباؤه
فيه من الضرغام شدَّة بطشه / ومن المهنَّد بأسه ومضاؤه
رُفعت له فوقَ الكواكب عِمَّةٌ / وأحاطَ بالبحر المحيط رداؤه
حدِّث ولا حرجٌ ولست ببالغ / ما تستحقّ لها به آلاؤه
بهر العقول جميله وجمالُه / وجلاله وكماله وبهاؤه
هذي معاليه فما نظراؤه / غير النجوم عُلًى ولا أكفاؤه
تالله لم تظفر يداه بثروةٍ / إلاَّ ليفتك جوده وسخاؤه
راحتْ ذوو الحاجات يقتسمونها / فكأَنَّهم في ماله شركاؤه
وجدانه فقد الثراء لنفسه / ولغيره أبداً يكون ثراؤه
يمسي ويصبح بالجميل ولم يزلْ / يثني عليه صبحه ومساؤه
لله منبلج السَّنا عن غُرَّةٍ / لا الصُّبح منبلجاً ولا أضواؤه
لو تنزل الآيات في أيَّامه / أثنى عليه الله جلَّ ثناؤه
لا بدَّل الله الزمانَ بغيرِه / حتَّى تُبدَّلُ أرضُه وسماؤه
ما في الزمان وأهلِهِ مثلٌ له / إذ لم تكن كرماءه لؤماؤه
وَقْفٌ على الصنع الجميل جنابه / فكأَنَّما هو لو نظرت غذاؤه
وطعامه وشرابُه وسماعه / ومرامه ورجاؤه وصفاؤه
ولربَّما لمعت بوارق غيثه / فانهلَّ عارضه وأُهرِقَ ماؤه
ولقد تجود بكلِّ نَوْءٍ مُزْنُهُ / جود السَّحاب تتابعتْ أنواؤه
إنِّي أؤمل أن أكون بفضله / ممَّن يؤمَّل فضله وعطاؤه
بيتُ المروءة والأُبوَّة والندى / ومحلَّه ومكانه ووعاؤه
سبحان من خلق المكارم كلَّها / في ذلك البيت الرفيع بناؤه
أصبحت روض الحزن من سقيا الحيا / راقتْ محاسنه وراقَ هواؤه
يسري إليه نسيم أرواح الصبا / فتضوع في نفحاتها أرجاؤه
يمري عليها الربّ كلّ عشيَّة / وتجودها من صيّب أنداؤه
عهد الربيع بفصله وبفضله / أبداً يمرُّ خريفه وشتاؤه
ما زالَ يوليني الجميل تكرُّماً / مولًى عليَّ من الفروض ولاؤه
وكأَنَّما اصطبح المدامة شاعر / بمديحه فقريضه صهباؤه
فالله يبقي المكرمات وها هما / متلازمان بقاؤها وبقاؤه
أعادك يا سعد عيد الهوى
أعادك يا سعد عيد الهوى / وأنت مُلِمٌّ بدار اللّوى
فأصبحت تنحر فيها الجفون / كما تنحر البُدن يوم القِرى
فمن حقّ طرفي هذي الدموع / ومن شأن قلبي هذا الجوى
فما غير قلبي يصْلى الفضا / ولا غير طرفي يفيض الدما
وكيف وقفت على أربع / عَفَتْ قبل هذا بأيدي البلى
أتدفع فيها بها ما ترى / فكيف تداوي الأسى بالأسى
ولِمَ لا اتَّبعت كلام النصوح / وكفكفت دمعك لما جرى
إلى أن تحقَّقْتَ أنَّ الغرام / يعيد القويَّ ضعيف القوى
وحتى أطعت الهوى والشجيُّ / يعاصي الملام لطوع الهوى
فإن تلحُني بعدها مرَّةً / جزيتك يا سعد بئس الجزا
ولمتُكَ في عبرات تفيض / ووجد يقطع منك الحشا
وقلت تسلّ عن الظاعنين / فإنَّ السلوّ بأمر الفتى
ألم تك من قبلها لمتني / فماذا الوقوف وماذا البكا
وقد كنتُ مثلك بين الطلول / أساجل بالدمع وَبْلَ الحيا
وأروي الدِّيار بماء الجفون / قلم يرق دمعي وفيها ظما
وما برحت عبراتي بها / تبلّ الغليل وتروي الصَّدى
وأذكر فيها على صبوتي / زمان التصابي وعهد الصبا
قَضَيْتُ لديه بما أشتهي / ولكنَّه قد مضى وانقضى
أغازل غِزلانَه للوصال / وأشرب للَّهوِ كأس الطلا
وأسمع من نغمات القيان / كلاماً يعشقني بالدمى
يحضُّ على ما يسرُّ النفوس / ويدعو إلى ما هو المشتهى
ينادمني كلُّ عذب الكلام / يشابه بالحسن بدر الدجى
وألقى الزمان بهم باسماً / كوجه الكريم وزهر الرُّبا
فإن ترني بعدهم راضياً / ولو بالخيال فما عن رضا
ولكنَّها زفرات تهيج / فأذكر يا سعد ما قد مضى
وإن جاشتِ النفس من وجدها / فتعليلها بحديث المنى
وأخرج من ذكرهم بالقريض / بمدح عليٍّ خدينَ العُلى
ففي مدحه ما يزيل الهموم / وفي شكره يستفاض الندى
فلا بعده للمنى منتهى / ولا غيره للعُلى مرتقى
تواضَعَ وهو عليُّ الجناب / رفيع المحلّ وسامي الذُّرا
بآثاره أبداً يقتفى / وأقواله أبداً يقتدى
ملاذ الجميع لمن قد دنا / من العالمين ومن قد نأى
أعاد مناقب آبائه / حياة العُفاة وحتف العدى
ويرتاح للبذل يوم العطا / فينفق أنفس ما قد غلا
فإمَّا سألت ندى كفّه / فسل ما تشاء وثق بالغنى
وأعجبُ ما فيه يعطي الجزيل / ويلحق ذاك الجدى بالجدى
ففيه مع الجود هذا الحياء / وفيه مع البأس هذا التُّقى
أليسَ من القوم سادوا الأنام / فهم سادةٌ لجميع الورى
عليهم تنزَّل وحي الإِله / ومنهم تبلج صبح الهُدى
وكيف يفاخرهم غيرهم / إذا كانَ جدّهم المصطفى
يلوذ بحضرتهم من يخاف / خطوب الليالي ويخشى الأذى
حماةٌ بهم يأمن الخائفون / نوائبَ من شدَّةٍ تُتَّقَى
لهم عند ضيق مجال الرجال / عزائم ليست لبيض الظبا
أكارم لا نارهم في الظلام / توارى ولا جارهم في عنا
مضوا وأتى بعدهم فرعهم / ومن قد مضى مثل من قد أتى
مهابٌ إذا أنتَ أبصرته / فتحسبه من أسود الشرى
يجيب إذا ما دعاه الصَّريخ / همام يلبِّي إذا ما دعا
صفا من يديه غير النوال / لمن يجتديه فخذ ما صفا
أُؤمِّلُ منه بعيد المرام / وأرجو به فوق ما يرتجى
وإنِّي بنظمي مديحي له / كمن شرب الرَّاح حتَّى انتشى
ولا زال في كلِّ عيد يعود / بأرفع مجدٍ وأعلى بِنا
بوادي الغضا للمالكية أرْبُعُ
بوادي الغضا للمالكية أرْبُعُ / سقتها الحيا منَّا جفونٌ وأدْمُعُ
ومرتبع قد كانَ للريم ملعباً / على أنَّه للضيغم الوَردِ مصرع
يقطّع فيها مهجة الصب شوقاً / وما الشَّوق إلاَّ مهجة تتقطَّع
حَبَسْتُ بها صَحْباً كأَنَّ قلوبهم / من الشَّوق في تلك المنازل تُخْلَعُ
على مثل معوج الحنيَّة ضُمَّر / نبوع بها البيد القفار ونذرع
تحنُّ إلى أعلام سلعٍ ولعلع / لقد فتكت بالحبّ سلع ولعلع
كأنْ فُصِدَتْ من أخدعيها وما جرى / لها بدمٍ قان هنالك أخدع
وما هي إلاَّ عبرة دمويَّة / يجودُ بها في ذلك الربع مدمع
فحيَّت رسوم الدَّار وهي دوارس / جفون بما تسقى بها الدَّار تترع
كأَنَّ مطيَّ الركب في الشعب أصبحتْ / لها عند ذاك الشعب قلب مضيَّع
نريك بها من شدَّة الوجد ما بنا / فكلٌّ له منَّا فؤاد مُروَّع
ولما نزلنا ليلة الخيف بالنقا / وفاضت على أطلال رامة أدمع
بحيث الهوى يستنزف العين ماءها / ويستهتر الصبر الذي لا يرقّع
ذكرنا بها أيَّان لهو كأَنَّها / عقيلة مال المرء بل هي أنفع
وبتنا وأسياف من الشهب في الدجى / تُسَلُّ وزنجيّ الظلام يجدع
تحرّك ذات الطوق وجدي وطالما / تبيت على فينانة البان تسجع
تردد والأَشجان ملءُ حديثها / قديم الهوى من أهله وترجع
وما ساءها بالبين ركبٌ مقوَّضٌ / ولا راعها يوماً خليطٌ مودع
فهل أنت مثلي قد أضرَّ بك الهوى / وهل لك قلب لا أبالك موجع
لئن نشرت طيّ الغرام الذي لها / فقد طُوِيَتْ منِّي على الوجدِ أضلع
بنفسي من الجانبين بالطرف جانباً / له شافع من حسنه ومشفع
يجرِّعني ما لم أذقه من النوى / إلاَّ من حميّا الوجد ما أتجرَّع
بذلت له من أدمع كنت صنتها / ذخائرها وهو الحبيب الممتع
ويا ربَّما أدميت طرفي بوامضٍ / من البرق في الظلماء يخفى ويلمعُ
وقلتُ لسعد حين أنكر لوعتي / عداك الهوى إنِّي بظمياء مولعُ
تولَّت لنا أيام جمع وأقلعت / فلم يبقَ في اللَّذَّات يا سعد مطمع
وأصبح بالحيِّ العراقي ناعباً / غرابٌ بصرف البين للبين أبقع
وغابت بدور الظاعنين عشيَّةً / بأنضاء أسفارٍ تخبّ وتوضع
أراني مقيماً بالعراق على ظما / ولا منهل للظامئين ومرتع
وكيف بورد الماء والماء آجن / يُبَلُّ به هذا الغليل وينقع
لعلَّ وما تجدي لعلَّ ورُبَّما / غمائم غمّ أطبقت تتقشع
يعود زمان مرَّ حلوُ مذاقه / وشمل أحبَّائي كما كانَ يجمع
فقد كنتُ لا أعطي الحوادث مقودي / وإنِّي لريب الدهر لا أتوجَّع
كأنِّي صفاةٌ زادها الدهر قسوةً / من الصم لا تبلى ولا تتصدَّعُ
فسالمتُ حرب النائبات فلم تزلْ / تقودُ زمامي حيث شاءت فأتبع
وكنت إذا طاشت سهام قسيّها / وقتني الردى من صنع داوود أدرع
فمن جوده إنِّي رُبِيتُ بجوده / وزير له الإِحسان والجود أجمعُ
وَرَدَّ شموس الفضل بعد غروبها / كما ردَّها من قبل ذلك يوشع
وقام له في كلِّ منبر مدحة / خطيب من الأَقلام بالفضل مصقع
ومستودع علم النبيِّين صدره / ولله سرٌّ في معاليه مودعُ
كأَنَّ ضياء الشمس فوقَ جبينه / على وجهه النور الإِلهي يسطعُ
وزير ومر الحادثات يزيده / ثباتاً وحلماً فهو إذا ذاك أروع
إذا ضعضعَ الخطب الجبال فاًنَّه / هو الجبل الطود الذي لا يضعضعُ
عرانينه قد تشمخر إلى العُلى / أشمُّ إلى الأَعلام في المجد أفرعُ
أمدَّ على قطر العراقين ظلّه / إذا عصفت في الملك نكباء زعزعُ
ويُقْدِمُ حيث الأسد تحجم رهبةً / ويسطو وأطراف المنيَّة شرع
يمدُّ يداً طولى إلى ما يرومه / فتقصر أبواعٌ طوالٌ وأذرعُ
إذا ذَكَرَ الجبَّارُ شدَّةَ بأسِه / يلين لمن يلقاه منه ويخضعُ
لقد سارَ من لا زال ينهل قطره / سحاب عن الزوراء بالجود مقلع
فما سالَ يوماً بعد جدواه أبطحٌ / بسيب ولن تسقى من الغيث أجرعُ
ولا مرَّ فيها غير طيب ثنائه / أريج شذًى من طيِّب المسك أضوعُ
ولا عمرت في غير أنواع مدحه / بيوت على أيدي الفضائل ترفعُ
أبا حسن هل أوبةٌ بعد غيبةٍ / فللبدر في الدُّنيا مغيب ومطلعُ
لئن خَلِيَتْ منك البلاد التي خلت / فلم يخل من ذكرى جميلك موضعُ
ففي كلِّ أرض من أياديك ديمة / وروض إذا ما أجدى الناس ممرعُ
يفيض الندى من راحتيك وإنَّها / حياضٌ بنو الآمال منهنَّ تكرعُ
وإنِّي على خصب الزمان وجدبه / إليك وإن شطَّ المزار لأهرعُ
ولو أنَّني وُفِّقتُ للخير أصبحت / نياقي بأرض الروم تخدي وتسرع
إلى مالكٍ ما عن مكارمه غنًى / وغير ندى كفَّيه لا أتوقَّعُ
فألثم أقدام الوزير التي لها / إلى غاية الغايات ممشًى ومهيع
وأُثني عليه بالَّذي هو أهله / وأُنْشِدُهُ ما قلتُ فيه ويسمعُ
لِيَهْنِكُمُ زواجٌ في هناءِ
لِيَهْنِكُمُ زواجٌ في هناءِ / به انشرحت لأقوامٍ صدورُ
ترون الخير مجلوباً إليه / وفي أطرافه الخير الكثير
ويطرب في مغانيكم محبٌّ / يبوح لكم بما كتم الضمير
تَقَرّ العين فيكم إن تراكم / وفي أخلاقكم كرمٌ وخيرُ
إذا سُدتُم وكنتم حيث أهوى / وما فيكم بمكرمة قصور
ولا عجباً إذا ما ساد شبلٌ / أبوه ذلك الأسد الهصور
ألا يا عمَّ أبناءٍ كرام / تَعمُّ به السعادة والحبور
ومهدي العالمين إلى رشاد / يلوح به لعلم منك نور
بذكر تطمئن به قلوب / ووعظ قد تلين له الصخور
تهنّ بذلك التزويج ممن / بها الأيام تشرق والشهور
وسُرَّ به كما تبغي وأرّخ / ففي تزويج نعمان سرور
إلى إحسان مولانا الرفاعي
إلى إحسان مولانا الرفاعي / بكشكول الرَّجاء مددت باعي
هو القطب الذي لا قطب يدعى / سواه في الأنام بلا نزاع
عريض الجاه ذو قدر كريمٍ / طويل الباع بل رحب الذراع
تَولَّدَ من رسول الله شبلٌ / به دانت له كلُّ السباع
وقبّل كفَّ والده جهاراً / غدت بالنور بادية الشعاع
وشاهدنا الثقات وكل فرد / رآها بانفراد واجتماع
فتلك فريّة لم يخط فيها / سواه من مطيع أو مطاع
عشقت طريق حضرته عياناً / وأما الغير يعشق بالسماع
بذكر جلاله وعلاه نمشي / رويداً فوق أنياب الأفاعي
فماء زلاله يروي غليلي / وروضي إن تنكرت المراعي
ولم أعبأ بجعجعة وطحن / فذاك الصخر خرّ من اليفاع
مجيري إن تعاقبت الرزايا / وغوثي إن تكاثرت الدواعي
إذا ما الدهر جلَّلَنا بخطب / وأورث صدعه سوء الصداع
بهمته العليّة إن توالت / نكيل خطوبه صاعاً بصاع
أبا العلمين سيِّدنا المفدى / على وجل أتيتُ إليك ساعي
أتيتك زائراً أبغي قبولاً / ففيك توصلي ولك انقطاعي
أتيت إليك أشكو من ذنوب / تولدها بنا قبح الطباع
فما كذبت بما أرجو ظنوني / ولا خابت بنا تلك المساعي
لقد عصرتنيَ الأيام حتَّى / جرى من مقلتي لبن الرضاع
لك الهمم التي شهد المعادي / بها إذ لا سبيل إلى الدفاع
إذا خفقت رياح العزم منها / أمِنَّا في حماه من الضياع
وليس سواه في حزم وعزم / يبين لنا المضيع من المضاع
فهذا ملجأ من حلَّ فيه / يَعُدْ من غير خوف وارتياع
أُمَرِّغُ حُرَّ وجهي في ترابٍ / به التمريغ للجنَّات داعي
وقفنا والجفون لها مسيل / بهاتيك الأماكن والبقاع
فكم من مقلة للشوق أذرت / وأجرت دمعها دون امتناع
فيا بن الأكرمين جعلت مدحي / بكم خير ارتداء وادّراع
إذا ما رمت أنّ أحصي ثناكم / طلبت بذاك غير المستطاع
ألا إنَّ الذنوب لقد توالت / وجاءت وهي حاسرة القناع
فقد أصبتنيَ الدنيا إليها / وغرَّتني بأنواع الخداع
فخذ بيدي بأرض الحشر يوماً / يساوي بالجبان وبالشجاع
وأدركني ومن نفسي أجرني / وأنعم في قبولك باصطناعي
فقد ناجيتها لما أتينا / رويدك وابشري أن لا تراعي
وإنِّي عُدتّ في نفسي وجسمي / مليئاً بالهدى والانتقاع
بلى روحي لديك لقد أقامت / تشاهدُ نقطة السر المذاع
أُوَدِّعُ حضرة ملئت جلالاً / وليس لنا سواها اليوم راعي
كريم بالسلام لدى حضوري / ولكني بخيل بالوداع
هل تركتم غير الجوى لفؤادي
هل تركتم غير الجوى لفؤادي / أو كحلتم عيني بغير السُّهاد
قد بعدتم عن أعين فهي غرقى / بدموعي ولي فؤادٌ صادي
ثم وكّلتم السهاد عليها / يمنع العين عن لذيذ الرقاد
مَن مجيري من الأحبة يجفون / وتعدو منهم عليَّ الغوادي
علموا أنني عليل ومن لي / أن أرى طيفهم من العواد
نزلوا وادي الغضا فكأن ال / دمع مني سيول ذاك الوادي
تركتني أظعانهم يوم بانوا / وحدا فيهم من البين حادي
بين دمع على المنازل موقو / فٍ وشمل مشتت بالبعاد
وفؤاد يروعه كل يوم / ذكر أيامنا الحسان الجياد
يا رفيقي وأين عهدك بالجزَع / سقاه الغمام صوب عهاد
وسقت دارنا بميثاء مزن / من ذوات الإبراق والإرعاد
تتلظى كأنَّما أوْقَدَتْها / زفراتي بحرّها الوقاد
فتظنّ البروق منها سيوفاً / مذهبات سُلَّت من الأغماد
موقراتٍ بما حملن من الماء / رواءً إلى الديار الصوادي
ملقيات أثقالها باذلات / ما لديها على الرُّبا والوهاد
فترى الروض شاكراً من نداها / نعمة بالأزهار والأوراد
تتوالى على ملاعبَ للِغز / لان فيها ومصرع الآساد
أربعٍ كلَّما وقفت عليها / كانَ طرفي فيها من الأجواد
ومناخٍ لنا يريق من الأجفان / غير الذي تريق الغوادي
فلنا فيه ما لهذي المطايا / حرقة في القلوب والأكباد
كنت أرجو برداً من الوجد لكن / ما لحر الغرام من إبراد
إنَّ في الظاعنين أبناءَ ودٍّ / لم يراعوا في الود عهد ودادي
أين ميعاد من هَوِيت هواه / ومتى نلتقي على ميعاد
وتمادى هذا الجفاء وما هذا / التجافي منه وهذا التمادي
لا أرى الدهر باسماً أو أراني / بعد رغم المنى أنوف الأعادي
منشداً في أبي الثناء ثناءً / خالد الذكر دائم الإنشاد
كم قصدناه بالقصيد وما زا / ل من الناس كعبة القصاد
ووردنا بحراً طمى وأُفيضت / من أياديه للأنام الأيادي
ووجدنا منه حلاوة لفظ / شق فيها مرائر الحساد
في لسان بحدِّهِ قد رمى / رؤوس الإلحاد بالأعضاد
فإذا سوّدت يداه كتاباً / فبياض العلى بذاك السواد
وصباح الحق المبين لعيني / ينجلي من سواد ذاك المداد
عارف بالغايات من مبتدأها / ولغايات كل شيء مبادي
وإذا المسلمون رامت هداها / كانَ من بينها الإمام الهادي
زاجر بالآيات عن منهج الغيّ / ومهدي إلى سبيل الرشاد
وارثٌ علم جده سيد الر / سل وسر الآباء في الأولاد
سؤدد في الأماجد السادة ال / غر قديماً والسادة الأمجاد
فاتك بالكلام في كل بحث / فتكات الحسام يوم جلاد
سعدت هذه البلاد بشهم / عزّ وجدان مثله في البلاد
جامع للعلوم شفع المعالي / مفرد الفضل واحد الآحاد
نال ما لم ينل سواه ومن / دون ورد الآمال خرط القتاد
والقوافي تروي أحاديث عل / ياه صِحاحاً قويّة الإسناد
كيف نحصي ما قد حويت وهل / تحصى نجوم السماء بالأرصاد
إن تُعدد مناقباً لك قوم / عجزت عن نهاية الأعداد
يا عماد الدِّين القويم وما زل / ت عظيم البنا رفيع العماد
إنَّما أنت آية الله للنا / س جميعاً ورحمة للعباد
وببغداد ما حللت مقيماً / فالمقام المحمود في بغداد
لم أزل أرتجيك في هذه الد / نيا وأرجوك بعدها في المعاد
أنا عمّا سواك أغنى البرايا / ولما يُرتجَ من الزهاد
طوقتني النعماء منك ونعما / ؤك مثل الأطواق في الأجياد
غمرتني مكارم منك تترى / يا كريم الآباء والأجداد
نائل من علاك كل مرام / بالغ من نداك كل مراد
حزت أجر الصيام والعيد وافا / ك بما تشتهي بخير معاد
كل عيد عليك عاد جديداً / فهو عيد من أشرف الأعياد
أسيرُ وقد جازت بنا غاية السُّرى
أسيرُ وقد جازت بنا غاية السُّرى / ولاحت خيام للحمى وقبابُ
سوابحُ في بحر السراب كأنها / بغارب أمواج السراب حباب
تحنّ إلى أيام سلعٍ ورامةٍ / وما دونها في السالفات قراب
إذا خوطبت في ذكر أيامها الألى / ثناها إلى الوجد التليد خطاب
كأن حشاها من وراء ضلوعها / تقاطر من أجفانها وتذاب
وعاتبت الأيام فيما قضت به / وهل نافع منك الفؤاد عتاب
إلى الشيخ عبد القادر العيس يمَّمت / فتمَّ لها أجر وحق ثواب
وما لسوى آل النبيّ محمّدٍ / تحثّ المطايا أو يناخ ركاب
كأنَّ شعاع النور من حضراتهم / تشق حشا الظلماء فهي حراب
عليها من الأنوار ما يبهر النهى / وينصل فيها للظلام خضاب
يراها بعيني رأسه كل ناظر / وما دونها للناظرين حجاب
فلله قبر ضمّ أشرفَ راقدٍ / لديه كما ضم الحسام قراب
جناب مريع عظم الله شأنه / فجلَّ له قدر وعز جناب
تصاغر كبَّار الملوك جميعها / بحضرة باز الله فهي ذباب
ويستحقر الجبار إذ ذاك نفسه / فيرجو إذا ما راعه ويهاب
قصدناك والعافون أنت ملاذهم / وما قصدوا يوماً علاك وخابوا
تلين الرزايا في حماك وإن قست / وكم لان منها في حماك صلاب
بك اليوم أشياخ كبار تضرعوا / إلى الله فيما نابهم وأنابوا
على فطرة الإسلام شبت وشيَّبت / مفارقهم سود الخطوب فتابوا
قد استعبرت أجفانهم منك هيبة / ومالت لهم عند الضريح رقاب
يمدون أيدي المستميح من الندى / وما غير إعطاء المرام جواب
تُنال بك الآمال وهي بعيدة / وتقضى بك الآمال وهي صعاب
وأنَّى لنا يا أيها الشيخ جيئة / إلى بابك العالي وليس ذهاب
إلى أن ترينا الخطب منفصم العرى / وللأمن من بعد النزوح إياب
وحتى نرى فيما نرى قد تقشعت / غيوم غموم واضمحل ضباب
إلام نعاني غصةً بعد غصةٍ / ونرمى بأسهام الأذى ونصاب
أبا صالح قد أفسد الدهر أمرنا / وضاقت علينا في الخطوب رحابُ
وتالله ما ننفكّ نستجلب الرضى / علينا من الأيام وهي غضاب
وتعدو كما تعدو الذئاب صروفها / علينا وأحداث الزمان ذئاب
وإنا لفي دهر تسافل بعدما / أقيم مقام الرأس فيه ذناب
فوا عجباً مما نراه بجيله / وأكثر أحوال الزمان عجاب
يذاد عن الماء النمير ابن حرة / وللنذل فيها مورد وشراب
وتعلو على أعلى الرجال أراذل / وتسطو على ليث العرين كلاب
فلا خير في هذي الحياة فإنها / عقاب وما لا تشتهيه عقاب
حياة لأبناء اللئام وجودها / نعيم وللحر الكريم عذاب
إلى الله مما نابنا أيّ مشتكى / ولله ما نُرمى به ونصاب
إذا ما مضى عنا مصاب أهالَنا / دهانا مصاب بعده ومصاب
وأحداثُ أيام تشبُّ ولم تَشِبْ / كأن لم يكن قبل المشيب شباب
تَشُنُّ علينا غارة بعد غارة / فنحن إذاً غُنمٌ لها ونهاب
فيا آل بيت الوحي دعوة ضارع / إلى الله يدعو ربه ويجاب
صلاح ولاة الأمر إن صلاحهم / يعود علينا والفساد خراب
بحيث إذا راموا الإساءة أقلعوا / أو اجتهدوا فيما يَسُرُّ أصابوا
مواردكم للحائمين كأنها / موارد من قطر الغمام عذاب
وهل ينبغي الظمآن من غير فضلكم / وُروداً وماء الباخلين سراب
نعفّر منا أوجهاً في صعيدكم / عليهنّ من صبغ المشيب نقاب
فلا دونكم للقاصدين مقاصد / ولا بعدكم للطالبين طلاب
مفاتيح للجدوى مصابيح للهدى / فأيديكم في العالمين رغاب
بكم يرزق الله العباد وفيكم / تنزَّل من رب السماء كتاب
وأنتم لنا في هذه الدار رحمة / إذا مسَّنا فيها أذىً وعذاب
ومن بعد هذا أنتم شفعاؤنا / إذ كانت الأخرى وقام حساب
لأعتابكم تزجى المطي ضوامراً / وتطوى فلاة قفرة ويباب
إذا كنتم باب الرجاء لطالب / فما سد من دون المطالب باب
يا ليلةً في آخر الشَّهر
يا ليلةً في آخر الشَّهر / قد جئتِ بعد الصَّوم بالفطرِ
كشف الصباح لنا حوادثها / وتكشَّفت عن مضمر الغدر
أصبحتُ منها غير مفتقر / أبداً إلى حرس على وكر
هجمت عليَّ بحادث جلل / وهجومها من حيث لا أدري
خطبٌ ألمَّ ويا لنازلةٍ / طلعت عليَّ به مع الفجر
في ليلة ليلاء تحسبها / يوم الفراق وليلة القبر
ما جنَّ حتَّى جنَّ طارقه / طرق المبيت بطارق الشر
وأظن أن الشمس ما كسفت / إلاَّ لتكشف بعدها ضري
ولقد أقمت مقام ذي سفه / صَعُبَ المقامُ به على الحر
في منزل أخذوا مساحته / يوماً فما أوفى على شبر
يا مؤجري داراً سُرِقتُ بها / لا فُزتَ بعد اليوم بالأجر
لولا الضرورة كنت مرتحلاً / عنها وكنت نزلت في قفر
دامي العيون على أُصَيبِيَةٍ / سوء الحظوظ وأوجه غر
ما عندهم صبر على أمَل / يرجونه في العسر لليسر
فرحوا بزينتهم ولو عقلوا / لم يفرحوا بغلائل حمر
من كل مبتهج بكسوته / طرب الشمائل باسم الثغر
ناموا وما انتبهوا لشقوتهم / إلاَّ انتباه الخوف والذعر
يتلفَّتون إلى غلائلهم / فدموعهم من فقدها تجري
ضاقت بهم بغداد أجمعُها / واليوم ضاق لضيقهم صدري
ونظيرة الخنساءِ مكثرة / بالنوح باكية على صخر
ولقد عجبت لها ويعجبني / أمران ما اتفقا على أمر
أبكي على حظٍّ منيت به / وهي التي تبكي على القِدر
هذا وتضحكني مقالتها / كيف البقاء بنا مع الفقر
فكأنما كانت وأين لها / في نعمة موصوفة الخير
هل كنت قبل اليوم في سعة / وملابس من سندس خضر
أوَ ما ذكرت العمر كيف مضى / لا كانَ ذاك العمر من عمر
إذ تذكرين جلاجلاً سرقت / ولقد نسيت الجوع في شهر
وبنوك يومئذ بمسغبة / خمص البطون حواني الظهر
صفرٌ يسوؤك ما عرفت بهم / من شؤم وقع حوادث غبر
وعددت ألف قضيّة سلفت / تطوى الضلوع بها على الجمر
ما أنكرت منهنَّ واحدة / فلطمتها بأنامل عشر
وعذرتها وعذلت عاذلها / والعذل بيَّنَ بَيِّنَ العذر
وقع البلاء فلم يُفِدْ جزع / فتعلّلاً بعواقب الصبر
بعد الرجاء بموطن خشن / يلقي الكرام بجانب وعر
بَلَدٌ كبارُ ملوكِه بَقَرٌ / صاروا ولاة النهي والأمر
لا يفقهون حديث مكرمة / فيهزّهم نظمي ولا نثري
أصبحتُ أشقى بين أظهرهم / فكأنني أصبحت في أسر
يرقى الدنيُّ إلى مراتبهم / حتَّى يريك النعل في الصدر
وإذا سألتهمُ بمسألةٍ / بخلوا ولو بقلامة الظفر
ذهب الذين أنال نائلهم / وأعدّهم من أنفس الذخر
إنْ ساءَني زمنٌ سرِرت بهم / وكفيت فيهم صولة الدهر
ومدحتهم وشكرت نعمتهم / بغرائب الأبيات من شعري
ولئن شكرت بمثلها أحداً / فأبو الجميل أحقّ بالشكر
لم يبق من أهل الجميل سوى / عبد الغني ونيله الوفر
إلاَّ تداركني برحمته / إنِّي إذاً وأبي لفي خسر
وترحَّلت بي عن مَباركِها / ولاّجة في المهمه القفر
ومبدّد الأموال مهلكها / بالمكرمات لخالد الذكر
قسماً به وجميل مصطنع / من فضله قسماً لذي حجر
لولاه ما علق الرجاء ولا / عرف الجميل بأهله ذا العصر
ما زال أندى من مجلّلة / بالقطر تملي سائر القطر
فانشر ثناءك ما استطعت على / عبق العناصر طيب النشر
مزجت محبته بأنفسنا / مثل امتزاج الماء والخمر
لفضائل شهد العدو بها / ومناقب كالأنجم الزهر
درع يقي من كل نائبةٍ / لا ما يقي في البرد والحر
أمعلّلي بحديثه كرماً / حَدِّثْ ولا حرج عن البحر
وإذا أثابك من مكارمه / فمثوبة في الأجر والفخر
أدعو له ولمن يلوذ به / في العالمين دعاء مضطر
أنْ لا يزال كما أشاهده / كالبدر أو في رفعة البدر
أجابَ ما سألتْهُ لما انثنى
أجابَ ما سألتْهُ لما انثنى / يرنو بألحاظ كألحاظ المها
وأثبت الحب له دلائلاً / بصبّه منها النحول والضنى
يا رشاً ملكته حشاشتي / فجار في حكم الغرام واعتدى
رعياً رعاك الله في مستغرم / إن لم تراع ذمَّةً فيك رعى
يا قلب خَفِّضْ لوعةً وجدتها / فربما واصل من كانَ جفا
لا توسعاني بالهوى ملامة / إن الجمال قائدي إلى الهوى
نظرتُ سِرباً بالعقيق نظرة / فأورثتني نظرتي هذا الأسى
حيّ العقيق فاللوى من مربع / نهبت فيه طربي فالمنحنى
زمان لهو صبوة قضيته / ذاك زمان قد تقضّى ومضى
وكلما هب الصبا من نحوهم / زاغ عن الصبر فؤادي وصبا
مالي وللأيام لا كانت فقد / أصمتنيَ الأحداث في سهم الردى
تَخَوَّنَتْني كلَّ يوم نكبةٌ / ضرامها في كل آن تُحتَضا
هل علم الدهر الذي أساءني / أيّ أخي عزم وذي فضل قلى
آه على عمر مضى أكثره / ولم أنل فيه من الدهر المنى
مضى بي العمر وكاد مسرعاً / أن ينجلي صبح المشيب والجلا
وعاند الدهر العبوس مطلبي / إذا جنيت الورد أضحى لي سفا
وإن حلبنا ما نروم دَرّه / كانت عزوزاً لا ترد بالروا
إنَّ اللَّيالي حمَّلتني ثقلاً / تنوء من ثقل به شمُّ الذُّرا
واتَّقدت من الغرام لوعة / كأنما نيرانها نار الفضا
فسعرت من حر أنفاسي بها / لظىً أذاب حرُّه شحم الكلى
يا مانعي المورد من رضابه / ما آن للظمآن ورد من أضا
وروضة يطربني الورق إذا / تَذكَّرَ الإلف لمغداه شدا
كأنَّما الطلّ على أغصانها / قلائد الدر على غيد الطلا
ونسَّمَتْ ريح الصبا عرارها / فهزّ عطفيه لها بانُ النقا
إذا انتشقنا أرجاً من طيبها / كأنْ نشقنا أرجاً من الشذى
أنعِم به مُرْتَبَعاً كأنَّه / بتلكما الغيد محاريب الدُّمى
تعاهدتها من حيّيٍ ماطر / يسقي أهاضيب الحجاز والرُّبا
يا حادي العيس ذميلاً سيره / يهجهج العيس إلى ربع الخلا
تمشي هزيزاً وهزيزاً تارة / إن هزّها حادي الهوينا وحدا
هل أنت موفٍ بالوقوف ساعة / بأربع غيرها خطب البلى
لم يبق إلاَّ سفعة في دمنة / وأرسماً مثل الخيال وجثا
فمسبلاً فيها بقايا أدمع / فناشداً فيها قلوباً وحشا
بالله إنْ عُجت على ربوعها / حي الربوع النازلين في منى
واهاً لصبٍّ كله صبابة / لا يستفيق من تباريح الجوى
يكاد وجداً يتلظَّى وهوىً / وما استقر ساعة ولا سجا
قد حُرِمَ النَّوم على أجفانه / فبات يرعى الفرقدين والسها
أرشفة من ريق من أحبُّه / فتنطفي جذوة وجد في الحشا
وكلَّما نهنهت دمعاً واكفاً / كأنَّما ينصبّ من مزن الحيا
يا عين لا تلوين بي في عبرة / لعلَّ أنْ يبتَلّ بالماء صدى
دعوت دمعي فأجاب طائعاً / ورمت للقلب اصطباراً فعصى
فلا تلمني إنْ بكيت عَنْدَما / فإن دمع العين في العين سرى
إذا رجوتُ مطلباً بادرته / وما عقدت حبوةً على الرَّجا
أعْدَدتُ للبيداء هُوجاً ضُمَّراً / أنْحرُ في أخفافها أدم الفلا
تلوي التليل للحمى تلفتاً / وتسبق الريحَ إذا الريحُ جرى
مهما تحث لمطلب ومقصد / تقاصرت فيها فسيحات الخُطا
وحيث ناويت النوى أنويتها / وكلُّ حَرٍّ أبصر الذل انتوى
وصارم أبيض لو جرّدته / ظننت برقاً لاح علويّ السنا
إذا تصديت به لضربة / فلقت في غراره أمّ الصدى
معتقلاً أسنَّةً خطَّيةً / كأن في طعانها سفع الذكا
إنِّي ومن أنالني من العلى / مراتباً من دونها وخز القنا
إذا رأيت الذُّلَّ رحَّلْتُ له / أنضاء أسفارٍ وناوحت النوى
نجائباً مثل الظليم ترتمي / لدى الفيافي الغفل أنأى مرتمى
ولم أرِدْ مَوْرِدَ عذبٍ شابَهُ / ضيمٌ رأى تكديره لما صفا
ونازعتني شيمة لا ترتضي / إلاَّ المعالي غايةً ومنتهى
وكم هجرت موطناً من أهله / والدار من سكانها قد تجتوى
وربّ طِرف لا يرى الطرف له / إثْراً إذا الطرف اقتفى
يجتاز بي فدافداً دوية / لا تهتدي لمفحص فيها القطا
أفري أديم القاع في حافره / لما طوى البطنان واجتاز المدى
ضافي السبيب أعوجيٌّ ووأوأٌ / ولم يكن أسفى وما فيه سفا
ولائم جسارتي قلت له / إنَّ القضاء كائن لا يتقى
وكيف أخشى ما قضى الله به / وإنَّما الإنسان أهداف القضا
ولا أبالي والوقار شيمتي / أأحْسَنَ الدهر المسيء أم أسا
يا رُبَّ عزمٍ بالدنا جرَّدتُه / كأنَّه حدّ الحسام المنتضى
وموقف من الوغى شَهِدْتُهُ / ترشح بالموت العوالي والظبا
وإنني كذلك القيل الذي / إذا بدا تأجج الحرب اصطلى
سلّم إليَّ الأمر وانظر باسلاً / لا يخطئ الأغراض يوماً إن رمى
أسطو بماضي الشفرتين أحدبٍ / غراره يبتّ أوداج العدى
وحاسد من غيظه فضائلي / حاكى شؤوني بالنهى وما حكى
وفي سواد القلب كنت جاعلاً / وداده حتَّى بدا لي ما بدا
وخرشفيٍّ لا يوارى عيبه / قطعة لؤم صيغ من طين الخنا
لو كانَ عيناي بأم رأسه / لما درى بنفسه إلاَّ قذى
والظلم واللؤم طباع بالفتى / يكتمه العجز ويفشيه القوى
قابلت أفعالاً له بمثلها / ولا يلين جانبي إذا قسا
وقد تنوَّرت الأنام خبرةً / فزال عن عينيَّ من ذاك العمى
وقد عَلِمْتُ أنَّ قلبي مفعمٌ / بما لقي من أهله وما رأى
من لي بخلٍ إن رأى بي زلةٍ / سامحها وعثرةً قال لعا
وهل صديق يرتجى وفاؤه / هيهات هذا أمَلٌ لا يرتجى
ولست بالغمر الذي ما جرّب ال / دهر ولا ذاق السرور والعنا
بل كل خطب خطر بلوته / حتَّى تروى القلب فيه فارتوى
يا ربة القرطين هل من ليلة / تحكي من الوصل ليالينا الألى
ليلة غاب الواشي عن مَحَلِّنا / فكنت أجلو بالدجى شمس الضحى
حمراء لم تقطب بمزج صرفها / فهي كورد الجلّنار تجتنى
لله أيام قضينا شطرها / منادمي أبلج معسول اللمى
عاطيته مشمولة كريقه / لو جليت في جنح ليل لانجلى
مهفهف يميس تيهاً قدُّه / كأنَّما مال به ريح الصبا
وباللّوى كانَ لنا معاهد / سُقيت صوب المزن يا دار اللوى
مرَّت ليالينا وأوطار بها / كأنها أضغاث أحلام الكرى
أموعد المشتاق في وصاله / إنجازك الوعد لمحتاج متى
هذي عرى الصبر التي عهدتها / قد فُصِمَتْ بالوجد هاتيك العرى
إنَّ الأماني باللّبيب ضَلَّةٌ / وما عسى يجدي لعل وعسى
وإنها لحسرة ما تنقضي / أو إنني أقضي بتصريف القضا
هل عائد لي زمنٌ عبرة بذي الغضا / وهل يريني الدهر ما كنت أرى
ولي بأحوال الزمان عبرة / كفى الزمان عبرة لذي النهى
أخبرني هذا الدنا عن القضا / بفطنة تدني إلينا ما نأى
قد ابتليت وبَلَوْتُ أمْرَها / فلا أبالي بعدها بما أتى
عَهْدُك في هذا الزمان قد مضى / وذلك الغصن الرطيب قد ذوى
سلكت من كلِّ الفجاج وعرها / وذقت منها ما أمر وحلا
قد قذفتني في البلاد غربتي / وقد أرتني كلَّ ما رمت النوى
ما كنتُ أرضى بالعراق مسكناً / لو لم يكن في أرضها أبو الثنا
السيّد المحمود في خلاله / وفائض البحرين علماً وندى
يقول من ناظَرَه في علمه / ما بعد هذا غايةٌ ومنتهى
لا هو بالفظِّ الغليظ قلبه / وبالوغى أشدّ من صمّ الصفا
تخاله حين تراه ضاحكاً / كروضة باكرها قطر النّدى
غمر الرّواء لم تزل راحته / منهلَّةً لمن نأى ومن دنا
المقتني الحمد الطويل ذكره / والحمد للإنسان أسنى مقتنى
شهم الجنان لوذعيٌّ فاضِلٌ / أشمّ عرنين العلى عالي الذرا
فاق الأنام بالتقى وبالحجى / وزينة المرء التقى مع الحجى
وزينة الإنسان بل وفخره / إمَّا بأفضالٍ وإما بتقى
سعى إلى الفضل فنال ما ابتغى / وليس للإنسان إلاَّ ما سعى
مكارم الأخلاق فيها مولع / ما اعتام شيئاً غيرها ولا انتضى
ما زال يرقى بالحجى وبالنهى / حتَّى رقى بالعلم أعلى مرتقى
لا يختشي في الله لوم لائم / أفتى على الحقّ وبالحقّ قضى
يقذف من فيه الجمان لفظه / بحر ولكن بالعلوم قد طمى
ما انقبضت راحته عن سائل / وما سمعنا منه هجراً ولغا
تدرّع البأس الشديد قلبه / وفي رداء الفضل والتقوى ارتدى
إلى ذُرا جرثومةٍ طيبةٍ / إذ ينتمي القرم ولمّا ينتمى
ألْهَمَهُ الله علوماً بعضها / لو نشرت سَدَّ بها رحب الفضا
قريحة مثل الركام سيلها / أو هي كالنار إذا اشتدَّت صلا
تجري بما يطلب منها غيثها / وليس بالبدع من الغيث الجدى
فكم أبان من خفايا علمه / حتَّى الذي عنَّا اختفى فيه خفا
فأفحم الجاهل في عبارة / أوضح فيها ما انطوى وما انشرى
وألقَمَ الجاحد منهم حجراً / فبان فعل السيف منا والعصا
تَبَيَّن الرشد من الغيّ به / وزال إظلام الضلال بالهوى
فهل له في ذا الورى مشابهٌ / هيهات ما بين الثريا والثرى
لو كانَ في العالم مثل علمه / لفاخرت جميع أقطار الورى
أزال سقم الشك في تحقيقه / فكم صدور في معانيها شفى
دوَّن ما أجاب في مجلِّدٍ / تذكرة لمن روى ومن وعى
مشتملاً على العلوم كلّها / وحاز فيه كل فضل وحوى
أرسلها إليهم فأيقنوا / أنَّ ببغداد الكمال قد ثوى
وراح للسلطان أيضاً مثله / فحاز إذ ذاك السرور والهنا
لدى أمير المؤمنين والذي / صيَّره الله على الخلق ذُرا
حامي حمى الإسلام والغوث الذي / يغاث فيه المستغيث إذ دعا
خليفة الله على عباده / وذروة فيه الخطوب تتقى
لو كانَ في البحر ندى يمينه / لا نساغ ما البحر عذباً في اللها
والنصر والإقبال بعض جنده / إذا سطا أو إن رمى أو إن غزا
وهادم الكفر بسيف باتر / حتَّى ترى عمادها العالي هوى
لاذت سلاطين الورى ببابه / ترجو مراضيه وتأبى إن أبى
وإنَّ هذا الدينَ في أيَّامه / أعاده من المشيب للصِّبا
طاعته فرض علينا واجبٌ / ويل لمن عن أمره السامي عتا
إذا أتاه بطشه استبلّ لا / يعرف إلاَّ عفوه من ملتجا
أمَدَّ من همَّته وعزمه / ظِلاًّ على الإسلام منه قد ضفا
خلافة جاءت له وراثة / عن جدّه عن النبيّ المصطفى
إنَّ علينا أكبر الفرض بأنْ / ندعو له بالنصر في طول المدى
إذ نظم الملك وشاد سمكه / وقد أباد من طغى ومن بغى
لما عليه عرضت أسئلة / وردّها إلى معاليه أتى
فكان عالي أمره بطبعه / ونشره في كل أقطار الملا
ليستفيد الناس من علومه / ويهتدى فيه وفيه يقتدى
وراكبٍ من المعالي سابقاً / ما عثر الجدّ به ولا كبا
لو ظلَّ مني أملٌ أنشِدُه / إليك من دون الأنام لاهتدى
مفتي العراقين ومولاي الذي / ألوذُ فيه حيث ما أمري وهى
مأوى أولي الفضل وشمس عزهم / والملتجى والمقتفى والمنتدى
والضّيف تغدو عن معالي فضله / شاكرة من فضله حسن القرى
تضرب في دسيعة مائدة / مما عليها من جذور يشتوى
ما تشتهي الأنفس فيها مائدة / يذهب عند مسّها مسّ الطوى
ما علمت بأنَّ في عراقنا / سوابقاً بالعلم تعدو المرطى
نحن وشكراً للذي صيّرنا / ينابع العلم وأعلام الهدى
إذا أتانا جاحدٌ مُباحثٌ / راح وفي فيه اغتذى عفر الثرى
أقْسِمُ بالربِّ العظيم شأنه / ومن على العرش تجلَّى واستوى
ما لَكَ في الدنيا نظيرٌ في ندىً / ولا حجىً ولا نهىً ولا عُلى
لو كانَ يدري الشرك ما حويته / من العلوم الغامضات لبكى
عذراً لحُسَّادك فيما جحدوا / لا تدرك الجونةُ أبصار السخا
مقالة المنصف فيك جهرة لا / شك كل الصيد في جوف الفرا
ذو جدوة هاطلة إذا اجتدى / ونخوة عالية إذا انتخى
درى أمير المؤمنين بالذي / أظهَرْتَه وفي سواه ما درى
ولو رآك طرفه لما ارتضى / إلاَّ بأنْ تسمو إلى أوج السما
قد سر فيك قلبه من سمعه / ولا يفيد الأذْنَ تصوير الرؤى
لله ما هذا الوزير إنَّه / عليٌّ المولى حباك بالرضا
مُعَمِّرٌ بغداد في إحسانه / من بعد ما أبادها ريب الوبا
وراض أهل البغي بالقتل فلن / تسمع في ديارهم إلاَّ الوعى
إذ يختلي الأعناق ضرب سيفه / كأنها العيس وقد لسَّت خلا
إذا امتطى العزم وصال صولة / قدّ الرؤوس جازلاً مع المطا
لو نالت المزن نوال كفه / لما اشتكى الظمآن من عيم الظما
لو كانَ للّيل سنا آرائه / أضاء من صباحها وما عسا
وعارف بالناس ذو فراسة / أخفت له ما قد توارى واختفى
أعلاك أعلى رتبة ومنصب / ذاقت أياديك به طعم الشرا
تقدّ فيك المعضلات كلها / لأنت سيف ولك الفضل جلا
تلقى هزبراً نابه حسامه / إبّان حُمَّ الأمر وانشقت عصا
الثابت الجأش الوقور جانباً / ما ارتاع من حادثة ولا انثنى
ولست منهم إن نأوا وإن دنوا / وهل يقال الدرّ من هذا الحصى
أنَّى لهم بما به أكمدتهم / وباعهم مع طول باعيك ورا
فدتك نفسي من هزبر باسل / وقلَّ من نفسي لعلياك الفدا
وقف على العافين ما تملكت / يمينه مما علا وما غلا
هل العلى إلاَّ يد مبسوطة / يؤمها لوِردها من اعتفى
وصارم مجرَّد مرهفة / مجوهر الإفرند محدود الشبا
وحسن خلقٍ وأحاديث عُلىً / لو أنس العاشق فيه لسلا
يهتزّ عِطف سامعيها طرباً / كأنَّما ذاق المدام فانتشى
وعزة بالدين بل ورفعة / وغيرة يحمى لها ويحتمى
وكلّ ما ذكرته وقلته / فيك على رغم العدى قد انطوى
من ذا يهنِّي العلم في سميذع / أصبحَ بعد الهدم في أسمى البنا
قد كانَ مخفياً فلما جاءه / محمود ذو المجد ابتدا وأنفا
إليك منِّي سيِّدي قصيدةً / فأنت حسبي من غناء وكفى
قصّرت يا مولاي في مقصورة / مضمونها الشكر عليك والثنا
فإن تنل منك الرضا جائزة / فهو الثراء للفقير والغنى
لو أنَّ هذا العيد أضحى ألسناً / تتلو لك الشكر الجميل ما وفى
ألا إنَّ هذا الفؤادَ اضطرمْ
ألا إنَّ هذا الفؤادَ اضطرمْ / فهلْ من خمودٍ لهذا الضَّرَمْ
وفي كلِّ جارحةٍ لوعةٌ / تثور وفي كل عضوٍ ألَمْ
وأيقَظَ وَجْدِيَ برقٌ يلوح / وقد نام عن أعينٍ لَم تَنَمْ
ولما سرى موهِناً في الدجى / بكيت له عن جوىً وابتسمْ
وباحت دموعي بسرّي المصون / وسرّ الصبابة لا يَنْكتِمْ
فللّه برق أثار الغرام / وللَّه دمع جرى وانسجم
تصامَمْتُ عن عاذلي في الهوى / وما بي ودينِ الهوى من صمم
فمَنْ مُنصفي من غرامٍ ظلوم / ومن منصفي من حَبيب ظَلَمْ
فلا سَلِمَ الصَّبرُ من مغرم / إذا ذكر الحي في ذي سَلَم
أعَلِّلُ نفسي بنيل المنى / وما لي إلي نيلها مقتحم
ومن لي بعزم الجريّ الأبيّ / فلا ينثني عزمه إن عزم
وإنِّي على شغفي بالخمول / أروم من الدهر ما لم يُرَم
وقد شَيَّبتني صروف الزمان / وصرف الزمان يشيب اللمم
فما لي أقمت بأرض العراق / ولولا خمولي بها لم أقم
وكنت ترحَّلْتُ عن موطنٍ / إذا كنت في غيره لم أُضَم
إلى قائد عسكر المسلمين / ومقدامهم في الحروب الدهم
عليّ الرضا مشرفيّ القضا / وغيث العطاء غياث الأمم
قريب النوال مجيب السؤال / منيع المنال رفيع الهمم
جَزيل الثواب مجيد الضّراب / شديد العقاب إذا ما انتقم
أذَلَّ الطغاة وأردى الكماة / وساق الصناديد سوق الغنم
إذا حارب الأُمَم الفاجرين / تصدَّعَ من شعبها ما التأم
بسيف مبيد ورأي سديد / وعزم شديد وأنفٍ أشم
حسام الدولة عبد المجيد / مليك الملوك وسيف خذم
يقدّ به الهام ممَّن عَصاه / وَيَفلق في شفرتيه القمم
وإن هالتِ الحرب يوم النزال / تصدّى لأهوالها واقتحم
وحسبك أنَّ المليك اصطفاه / وولاّه دفع الأهمَّ الأهم
فكان إذا استخون الغادرين / رأى من عليّ وفيّ الذمم
ففي مثل صدق عليّ الرضا / تَبَلَّج صُبحُ الرّضا وابتسم
فقرّبه من علاهُ المليكُ / فكان المبجَّلَ والمحتشم
وفي عدل هذا المليك العظيم / نجاة الرعية من كلِّ غم
إذا أبْعَدَته ملوك الزمان / تُقَبّلُ منه مكان القدم
به اعتصمت من جميع الخطوب / وفي مثل دولته المعتصم
بصنعٍ أجاد وفضلٍ أعاد / وقرنٍ أباد وأنفٍ رغم
وتلك المواهب بين الملوك / مواهب كانت له في القدم
تلوذ برأفته الخائفون / فتأمن من كلِّ أمرٍ مهم
ومن كانَ باباً لنيل المراد / فلا شك في بابه المزدحم
مناهله شرعة الواردين / بحيث النوال وحيث الكرم
صوارمه نقمة تُتَّقى / وأنظاره نعمة تُغْتَنَم
وقد خلق الله كلتيهما / لحتف دنا أو لرزقٍ قسم
أعاد إلى الملك شرخ الشباب / وعهد الشبيبة بعد الهرم
رقاها ببيض السيوف الحداد / فما برح الداء حتَّى انحسم
فأينع في روضها ما ذوى / وشيّد من ركنها ما انهدم
حمى حوزة الدِّين في صارم / إذا صُرم الموت فيه انصرم
فتهدي الأنام لسلطانه / بحسن الثناء وطيب الكلم
دعاء لدولته يستجاب / وعهد لخدمته يلتزم
وفيتَ له يا عليّ الرضا / وهل ينفع الغادرين الندم
وقمت لدولته قائماً / لكربٍ ألمَّ وخطبٍ هجم
وللَّه دَرُّك من صادق / إذا مُيّز الصدق والمتهم
ولاحت خفايا صدور الرجال / وأصبح أمرهُمُ قد عُلم
ألا لا برحت سرور الوجود / بمن أوجد الخلق بعد العدم
عليك نعيد الثناء الجميل / وفيك البداية والمختتم
وقد نظم العبد فيك القريض / فصِلْ من قبولٍ لها من نَظَم
يَؤُمُّ جنابَ عليّ الجناب / ومن حقّ حضرته أن تُؤَم
تلوح معاليه للناظرين / ولا مثلَ نارٍ بأعلى علم
فأنطقَ بالمدح حتَّى العُجُم / وأسمع بالصيت حتَّى الأصم
محبَّتُه أُغرزت في القلوب / وشكرانه ساغ في كل فم
لقد شملتنا له نعمة / وقد أوجب الله شكر النعم
فيا ليتني كنت في ظِلّهِ / وكنت أكون كبعض الخدم
أفوز بباب عليّ الجناب / فأروي محاسن تلك الشيم
وأنْشِدُه الشعر عن أخرسٍ / يترجم عنه لسان القلم
رُمينا بأدهى المعضلات النوائب
رُمينا بأدهى المعضلات النوائب / وفقدُ الذي نرجو أجلُّ المصائب
وغائب قوم لا يرجّى إيابه / وما غائب تحت التراب بآيب
نؤمِّل في الدنيا حياةً هنيَّةً / وما نحن إلاَّ عرضة للمصائب
ونَغْتَرُّ في برق المنى وهو خُلَّبُ / وهيهات ما في الآل ماءٌ لشارب
نصدّقُ آمالاً محالاً بلوغها / ومن أعجب الأشياء تصديق كاذب
تسالِمُنا الأيام والقصد حَرْبُنا / وما هي إلاَّ خدعة من محارب
ونطمع أن تبقى ويبقى نعيمُها / فلم يبق منها غير حسرة خائب
فلا تحسبنّ الدهر يوفي بعهده / أبى الله أن يرعى ذماراً لصاحب
وإنَّ الليالي لا تدوم بحالة / وهل تترك الأحداث كسباً لكاسب
يروقك منها ما يسوؤك أمرها / وإنَّ الردى ما راق من حد قاضب
وجود الفتى نفس الحمام لنفسه / فلولاه لم يسلك سبيل المعاطب
وتسعى به أنفاسُه لحمامه / وكم أصبح المطلوب يسعى لطالب
كأنَّا من الآجال وهي كواسر / من الأسد الضرغام بين المخالب
ولا يدفعُ السيفُ المنيَّةَ والقنا / وتمضي سيوف الله من غير ضارب
وكلٌّ لمطلوب الردى وهو لاعب / كأنَّ المنايا لا تجدُّ بلاعب
فمن لفؤاد راعه فقد إلْفِهِ / فأصبح من أشجان نهب ناهب
وجفن يهلُّ الدمع من عبراته / على طيّب الأعراق وابن الأطايب
على عمر الرماضان ذي الفضل والنهى / أحاطت بي الأحزان من كلِّ جانب
أذَبْتُ عليه يوم مات حشاشتي / وأمسيت في قلبٍ من الحزن ذائب
بكيت وما يجدي الحزين بكاؤه / وضاقت علينا الأرض ذات المناكب
فتىً كانَ فينا حاضراً كلَّ نكبة / فغاب ولكن ذكره غير غائب
تذكّرُني آثاره بفعاله / فأبكي عليها بالدموع السواكب
صبور على البلوى غيور إذا انتخى / جميل السجايا الشمِّ جمّ المناقب
وما زال بالآداب والفضل مُفْعَماً / ولكنَّه إذ ذاك صفر المصائب
وقد كانَ مثل الشهد يحلو وتارة / لكالصلِّ نَفَّاثاً سموم العقارب
وكم أخبر التجريبُ عن كنه حاله / ويَظْهَرُ كَنهُ المرء عند التجارب
لسان كحدّ السيف ماضٍ غرارُه / وأمضى كلاماً من شفار القواضب
وكم صاغ من تبر القريض جمانة / وأفرغ معناها بأحسن قالب
وزانت قوافيه من الفضل أفْقه / فكانت كأمثال النجوم الثواقب
وأدرك فضلَ الأوَّلين بما أتى / فقصَّر عن إدراكه كلُّ طالب
معانٍ بنظم الشعر كانَ يرومها / أدقّ إذا فكرت من خصر كاعب
لوى ساعد المجد المنون من الورى / بموت أشمٍّ من لؤي بن غالب
فتىً كانَ يصميني الرَّدى في حياته / ولما توفيّ كانَ أدهى مصائبي
فتىً ظَلت أبكي منه حيًّا وميّتاً / أصبْتُ على الحالين منه بصائب
رَعَيْتُ له من صحبة كلَّ واجب / ولو أن حيًّا ما رعى بعض واجبي
سقى الله قبراً مزنة الحيا / وبُلّغَ في الجنَّات أعلى المراتب
ولا زال ذاك القبر ما ذَرَّ شارق / تجود عليه ذاريات السحائب
ألا يا شهاب الدِّين صبراً على الأسى / وليس يهون الصعب عند الصعائب
نعزيك بالقربى على كل حالة / وفي عزّ ربّ المجد عزّ الأقارب
فإنك أرعى من عليها مودة / وإنك أوفى ذمةً للمصاحب
وإنك ممن يهتدى بعلومه / كما يهتدي الساري بضوء الكواكب
عن البحر عن كفيك نروي عجائباً / ولا حَرَجٌ فالبحر مأوى العجائب
إذا كنتَ موجوداً فكلّي مطامع / ونيل الثريا من أقلِّ مآربي

المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025