القوافي :
الكل ا ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ط ع غ ف ق ك ل م ن و ه ء ي
الشاعر : علي محمود طه الكل
المجموع : 155
رزءُ العروبةِ فيكَ والإِسلامِ
رزءُ العروبةِ فيكَ والإِسلامِ / رزءُ النُّهَى وفجيعةُ الأقلامِ
هو مأتمُ الأحرار في متوثّبٍ / بصفوفهم مستقتلٍ مقدامِ
أأنا المثاليين صوتُكَ لم يزل / في الشرق وحيَ براعةٍ وحسامِ
ونداءَ فادٍ تسأل الدنيا به / أصريعَ حربٍ أم شهيد سلامِ
لخلاص دارٍ أو فكاك عَشِيرةٍ / خُضْتَ الحياةَ كثيرةَ الآلامِ
واجتزتَ جِسْرَ العمر بين عواصف / هُوجٍ وموجٍ مُزْبدٍ مترامي
وشهرتها حرباً على مستعمر / مُتجبّرٍ أو غاصبٍ ظلَّامِ
تلقَى ببسمتك العريضةِ نارها / في موكب من ذائدين كرامِ
متفرِّقين على البعاد منازلاً / متجمِّعين على هوىً ووئامِ
كالبحر ماجَ وفي غواربهِ التَقى / سيلُ الرُّبَى وشوامخ الأعلامِ
وقفوا الحياة على الجهاد وقرَّبوا / دعَةَ النفوس وصحَّةَ الأجسامِ
إِرثُ الجدود الصيد أنت وهَبتَهُ / قلماً يصاول دونه ويحامي
وشبابَ مهدور الدماءِ مجاهد / في اللّه عَن عربٍ وعن إِسلامِ
الشاعرُ الغرِّيدُ نازحُ جَنّة / مَسْحُورةِ الأفنانِ والأكمامِ
أفياؤها ظُللُ الدهور وأرزها / أعلامُ آلهةٍ على آطامِ
قامت على جَبلٍ أشمّ سماؤه / مسرَى البيان ومسبحُ الإِلهامِ
تُهدِي إِليه بكل مغربِ كوكبٍ / أشواقَ نِضوى لوعة وغرامِ
أُمُّ تحنُّ إلى لقاءِ نجيبها / وأبٌ هو الوطن المشوق الظامي
يتساءَلان متى الإِيابُ ويومُهُ / يومُ الرحيل ولات حين مقامِ
مرَّتْ جنيفُ بخاطري فتمثَّلتْ / صُوَرُ الشهيد كأنهنَّ أمامي
متوحِّداً في غُرْبةٍ متوقِّداً / بصبابةٍ متفرِّداً بسقامِ
شيحٌ يدبُّ على عصاهُ وقلبُهُ / متوثِّبُ الآمال والأحلامِ
يطوي الثمانين الوضاءَ مَليئَةً / بمواكبٍ للذِّكريات ضخامِ
وجلائل للمأثرات مواثل / وجَحافل للحادثات جسامِ
هيهات ما أوهتْ قواه ولا ثَنَتْ / من خطوهِ عن غاية ومرامِ
هيهات ما نالتْ على إرهاقها / من قلبه في نَضْرَةٍ ووسامِ
هيهات ما شابتْ بِمُرِّ مذاقها / فيه حلاوةَ روحه البسَّامِ
طَلْقُ الجبين على نديِّ شمائل / كالفجر بين أشعةٍ وغَمَامِ
يا ابن الإمارة نافضاً من إِرثها / يَدَهُ لِنُصْرَةِ مبدأٍ وذمامِ
حين الغِنَى والجاهُ فتنةُ معشر / عن قومهم متخلفين نيامِ
صف كيف أبصرت الحياة وأنت في / عزِّ الملوكِ وهيبة الحكّامِ
ورأيتَ دنيا المالكين بعالم / متخوِّن متلوِّن هَدَّامِ
تومِي إليكَ قصورُهم وكأنها / عينٌ مقرَّحةٌ وقلبٌ دامي
ومشيتَ تُنذرُ والوغَى مُتَسَعِّرٌ / والأرض غرقى في دم وضِرامِ
في حومةٍ من قاهرين تربَّصوا / بالمضعفين منافذَ الأيامِ
عَنَتِ الشعوبُ لسيفهم فتألَّبوا / يتنازعون مصايرَ الأقوامِ
يأبى يَراعُك أن يُفارق راحةً / خُلِقَتْ لردِّ تحيّةٍ وسلامِ
بيضاءُ ملهَمةُ البنان مِزاجُها / فَيْضٌ من الأضواءِ والأنغامِ
أخذتْ خِناق الظلم فاسْتحذَى لها / وارتدَّ يستر وجهه بِلِثامِ
وَتَعَقَّبَتْهُ تهزُّ قبضة ثائر / فإِذا الحديدُ بها صديعُ حطامِ
وإِذا الحصونُ الشامخاتُ حجارةٌ / منثورةٌ والنارُ سُحبُ قتامِ
وإِذا المجاهدُ تحتَ غار جهاده / طُهْرُ اليدين مُخضَّبُ الصمصامِ
روحٌ يَهزُّ الشرق من أعماقه / وسنىً يمزِّق عنه كل ظلامِ
وَيَدٌ تُعانِقهُ برغم مَنيَّةٍ / وفَمٌ يُقَبِّلُهُ برغم حِمامِ
كم شهيدٍ فيكِ مهدور الدِّماء
كم شهيدٍ فيكِ مهدور الدِّماء / لا تُراعِي أنتِ أمُّ الشُّهداءْ
كلُّ غالٍ من مناعٍ ودمٍ / لكِ يا مصرُ وما عزَّ الفداءْ
إيهِ يا مصرُ خُذي ما شئتِهِ / ولداعي المجد منا ما يشاءْ
قيل أودى بأمين قاتلٌ / كيف يُودي ببنيك الأُمنَاءْ
كيف يُودَى بفتىً من خُلقِهِ / كلُّ معنىً من سماحٍ ووفاءْ
كمنَ الغدر لهُ ثم رمى / عن يدٍ عسراءَ شعواءَ الرّماءْ
صاعداً يرقى على سُلَّمهِ / دَرَجَ المجد ومرموقَ العلاءْ
دمُهُ المسفوك حُبٌّ وندىً / ومزاجٌ من حياءٍ وإِباءْ
ورحيقٌ عَطِرٌ من نفحه / يثْمَل الأعداءُ قبل الأصدقاءْ
وهوىً للوطن الحر الذي / خرَّ في حومته بعض ذماءْ
لو أتاهُ نبأٌ عن قتله / قال وهمٌ وأحاديثُ افتراءْ
فتنةٌ حمراءُ شَبَّتْ نارها / شهواتٌ يَنتحينَ الأبرياءْ
عربدتْ هوجاءَ واستشرتْ قُوى / واستبدَّتْ بعقول الضعفاءْ
باطلٌ إن مرّت الرِّيحُ به / طارَ عن صاحبهِ وهو هباءْ
وإِذا ما لمح النُّورَ جَرَى / وتخفَّى تحت جنحٍ من مساءْ
لا تقولوا طائشٌ في رأيهِ / إِنما الرأيُ من الغدر براءْ
إِنما الناسُ لهمْ آراؤهم / وهمو الأحرار فيها الطُّلقاءْ
وعلى ودٍّ وبرٍّ وهدى / لهمو فيها فراقٌ ولقاءْ
غير ما مسَّ دماً فاجهر به / وتَحدَّ الحاكمين الأقوياءْ
واذكر الأوطان لا تأخذ بما / يكتب الحقدُ ويُمليهِ العداءْ
ليس من مصر ولا من أهلها / مُزْهِقُ الأرواح أو مُجري الدماءْ
يا زعيمَ الشعب هذي محنةٌ / فوق ما يحمل طوقُ الزعماءْ
ليست الأُولى وقد كنتَ لها / غَرَضاً منه لك الرُّوحُ وقاءْ
قدَّرَ اللّه وما قدَّرهُ / ليس يُعْفى منه سكانُ السماءْ
من يكن مثلَكَ في إِيمانه / كيف أدعوه لصبرٍ أو عزاءْ
إِنني أرثي لمصر رجلاً / مصرُ منا فيهِ أحرى بالرثاءْ
يا فرحتي للبحرِ أرجعُ ثانياً
يا فرحتي للبحرِ أرجعُ ثانياً / متفرداً بعبابهِ وسائهِ
أقصى منايَ سفينة ممشوقة / وبزوغُ نجم أهتدي بضيائهِ
وصريرُ دفّتها وعَزفُ رياحهِ / وخفوقُ قلعٍ أبيضٍ في مائه
وأرى الضباب يرفُّ فوقَ جبينهِ / في شاهبٍ من لونهِ وروائهِ
يجلوه ألاق رماديّ السنى / متطلعٌ بالفجرِ خلفَ فضائهِ
يا فرحتي للبحر أرجعُ ثانياً / كيما ألبّي المدّ في طفراتهِ
هذا المزمجرُ لست أنكرُ صوتهُ / إنّ الوضوحَ يشيع في نبراتهِ
أقصى منايَ لديه يومٌ عاصفٌ / يهفو رقيق الغيم في سبحانهِ
ورشاشُ موجٍ مستطارٌ تحتهُ / زبدٌ يفور الرغو ملءَ كراتهِ
وضجيج زُمّج مائهِ متخبطا / بالموج وهو يثيرُ من صرخاتهِ
يا فرحتي للبحرِ أرجع ثانيا / جوّابَ آفاقٍ غريب مسالك
أطوي مسارح طيره ومسابحاً / للحوت عبرَ طريقيَ المتشابكِ
حيثُ الرياح كأنما وخزاتها / حدُّ المدى وشبا الحسام الفاتكِ
أقصى منايَ روايةٌ محبوكةٌ / من نسيجِ قرصانِ طروبٍ ضاحكِ
ولذيذُ أحلامٍ وقد طاب الكرى / وتزايلت صورٌ هناك تواركي
إن يكُن قلبك الشجيّ المعنّى
إن يكُن قلبك الشجيّ المعنّى / أرهقتهُ حياتُنا أعباء
مثل نسرٍ دامي الجناحين مضنى / مستميتاً يصارعُ الإعياءَ
حاملا فوق مسترَقّ جناح / مثل قلبي من بؤسِ هذي الحياة
عالما قاتلاً سحيقَ النواحي / بارد الجوّ حالك الظلمات
رازحاً في عذابه يتلوّى / مثقَلاً في فوادحِ الأعباء
كلّما ضجّ تحتهنّ تنزّى / جرحُه الخالدُ السخين الدماء
أو يكُن بات لا يرى الحب هذا ال / كوكب الهادي الصدوقَ الوفيّا
من له وحده يضيء ويجلو ال / كون في ناظريه أفقا وضيّا
أو تكُن روحك السجينة عافت / ذلك الخبزَ في الحياة طلابا
هو زاد الأسير في القيدِ باتت / نفسه من موارد الحتف قابا
يتَلَقّاه مكرَهاً بيدَيه / ملقيا من يمينه المجدافا
وهو يحني للبحر شاحب وجهِ / بينما يندبُ الحياة اعتسافا
وهو بينا يقتافُ في الهدّارِ / منفذا بين موجه للفرارِ
إذ يرى فوقَ منكبٍ منه عاري / وصمةَ الذلّ صوّرَت بالنار
أو يكُن جسمُك الحيّ عرَتهُ / هزّةٌ من عواطفٍ كامنات
بعد ما ملّ عالما أرهقته / في حماه جوارح النظرات
باحثاً في قصيّ تلك الحزون / ليُداري جماله الفتّانا
عن مكانٍ من العيون مصونِ / فيه يحمي جلاله أن يهانا
أو تكُن منك عافتِ الشفتانِ / كاذبَ القول تستقيه سماما
أو يكن قد تورّدَ الخدّان / خَجَلاً من رؤىً ملئنَ أثاما
فاهجري المدن وارحلي لا يسمك / ذلّ عيش فيهنَ غيرُ طليقِ
إرحلي الآن لا ينل قدميكِ / دنَسٌ من غبارِ هذا الطريق
أشرقي من سماء فكركِ حينا / وانظريها في ذلّة وإسار
نصِبَت للخلائقِ المرهقينا / كصخورٍ قدّت من الأقدار
وانظري للحقول والغاباتِ / حرّةً طلقةً كهذا البحرِ
حولَ تلكَ الجزائرِ المعتماتِ / ولتَكُن في يديكِ طاقة زهرِ
تجدين الطبيعةَ الان منكِ / في انتظارٍ رهيبة الإصغاء
والثرى مرسلا على قدميك / من تعاشيبه سحاب الماء
وإذا الأرضُ من غروبِ الشمسِ / رتّحتها تنَهّدات الوداعِ
وإذا هذهِ الزنابقُ تمسي / وهي تهتزّ بالأريجِ المضاعِ
واختفى في فضائه الجبل النا / ئي ومدّت معابد الصفصاف
ناصلات الألوانِ في صفحةِ الما / ء غصونا نفيّة الأفوافِ
وتهادى هنالك الشفَقُ العا / ني ليلقى وساده في الوادي
فوقَ عشبٍ من الزمرّد فتّا / ن وعشبٍ مذهّبِ الأبرادِ
تحت هذه الجزوع مستحيياتِ / حيث هذا النبعُ الفريد النائي
بين هذي الخمائل الحالماتِ / وهي تهتزّ رغدةً في الفضاء
حيث يسري متخفياً في حجبهِ / لائذا بالكروم مثل الظل
ملقيا في الغدير شاهبَ ثوبِه / فاتحا في المساء سجنَ الليلِ
فوقَ طودي نَبتٌ كيف تحامى / خطواتِ الصياد عند الدبيب
عالياً عن جباهنا يتسامى / وهو مثوى الراعي ومأوى الغريبِ
فتعاليَ هنا نجدد ذماما / ونخبّىء خطيئة وغراما
قدّسَت من خطيئة لا أثاما / قد دفعنا لفعلها إلهاما
وإذا كان ذلك العشبُ خفضا / وهو يهتزّ هزّة المرتاع
فتعالي إني أدحرج أرضا / لك تحت الظلام بيت الراعي
هو بيتٌ يسري على عجلاتِ / سمتَ عينيك سقفهُ المزدان
عاطرُ البابِ معتمُ الرحباتِ / مثل خدّيكِ لونه المرجان
فيه ظلّ وفي زهرٌ نضيرُ / بينها خلوة لنا وتداني
مخدعٌ صامت الفراش وثيرُ / يلتقي فيه شعرنا في حنانِ
أسألكم ويح من يجيبُ
أسألكم ويح من يجيبُ / ما خطبكم لم يمُت نجيبُ
ما مات من أضحك المآسي / من قدَرٍ صنعُه عجيبُ
وصيّر الدمعَ في المآقي / على ابتساماتهِ يذوب
وجمّل العيش للحزانى / فكل حالٍ به تطيب
وأنصف الدهر من حظوظٍ / تخطىء في الناس أو تصيب
ومثّل الزيّف من حياةٍ / مرقع ثوبها القشيبُ
كادت لتمثيله الليالي / تبكي وتستعبر الخطوب
وكاد منه الزمان يغضي / خزيا وتستغفر الذنوب
معلّم ما له ضريب / معهدهُ المسرحُ الحبيبُ
فتىً كطيرِ الربيع روحا / موهوبةٌ نفسه وهوبُ
ألبارعُ اللفظ في بيانٍ / يحارُ في صوغه الأديب
كأنّه مائلٌ لعيني / وعهده بالنوى قريب
حلو الإشارات في سماتٍ / له بتصويرها ضروب
وصوته ملء كل سمع / تهفو لإيقاعه القلوب
أستاذ جيل إلى نداه / عواطف الجيل تستجيب
يعلم الشعب أو يسلي / من شفّه الهمّ واللغوب
في قصة مرّة حوتها / ملهاته الحلوة الطروب
أو ملحة عذبةٍ جلاها / أسلوبه الساحر اللعوب
يلقي بها ضاحكا ويمشي / وقلبه ساهم كئيب
حياتنا مثلما رآها / صوّرها ناقد لبيب
مصرية الذوق لم يثُبها / تصنّعٌ لفظه مشوب
ولم تلفق ولم تنمق / بها الأباطيل والعيوب
حقائقٌ لم يوار منها / مجاملٌ هازلٌ هيوبُ
مدرسة ما بها كتاب / ومنبرٌ ما له خطيب
لا سنّ للدارسين فيها / طلّابها فتيةٌ وشيب
ويستوي جاهلٌ لديها / وعالمٌ فاهمٌ أريبُ
ألكل فيها لهم متاعٌ / وفرٌ ومن علمه نصيب
يا لهفةَ الفن حين أودى / وما اعترى نجمَه شحوبُ
ولا زوى أفقه ظلامٌ / له على موجه وثوب
في لحظةٍ لم يجل بذهنٍ / قضاؤها الفاجع الرهيب
حيث ينادي وحيث يزجى / مشيبه الرائع الخصيب
قم يا نجيب انفض المنايا / واسمع تجد أمّةً تجيب
صحت على موكبٍ هلوعٍ / يخنقهُ الحزن والنحيب
مصر التي قدّرتك حبا / يا أيها النابغ الغريب
بمثل ما شيعتك يوم الو / داع لم تسمع الشعوب
وأنت بالعهد من هواها / ربيبها وابنها النجيب
إذا أقبلَ الليلُ يا حيرتي
إذا أقبلَ الليلُ يا حيرتي / تفقّدت في الشطّ حوريّتي
وعدت كئيبا إلى غرفتي / أراعي الكواكبَ من شرفتي
سوأشعل بالوجد سيجارتي / فلا البدرُ حبّبَ لي سهرتي
ولا البحر هدّأ من ثورتي / وحيدا تسامرني فكرتي
أأجلسُ يا بحرُ وحدي هنا / فأينَ من العين ذاك السنى
وأين من القلب تلك المنى / وأين مواعيد نادت بنا
وأين المساء الذي ضمّنا / لديك وألف ما بيننا
فيا ويح قلبيض ماذا جنى / ليحمل هذا الأسى والضنى
خلا من محيّاكِ هذا المصيف / وأقفر ذاك النديّ اللطيف
كأني به قد دهاه الخريف / فليس عليه خيالٌ مطيف
ذوي بشره فهو أفق كسيف / وبرّ حزينٌ وبحرٌ لهيف
وموجٌ له أنّة أو وجيف / وريحٌ تنوحُ وليلٌ شفيفُ
غدا يا حبيبة عند المساء / ستسأل عنا نجوم السماء
ألم يضربا موعدا للقاء / على صخرة بين رمل وماء
أجل يا حبيبة هذا الضياء / ذهبنا وعدنا بحكم القضاء
غريبين نضرب عبر الفضاء / كأننا على جفوة أو تنائي
مددت إليك يدَ الواثقِ / فعادت بلذع جوى حارقِ
وأبعدت يا رحمة الخالقِ / فمَ الحب عن نبعك الدافق
تعالي إلى روحيَ الوامق / تعالي إلى قلبيَ الخافق
تعالي على عهدكِ السابق / تعالي إلى إلفك العاشقِ
يا أيها الروحُ يهفو حوله الفرَح
يا أيها الروحُ يهفو حوله الفرَح / تحيّة أيهذا الصادحُ المَرِح
من أمّةِ الطير هذا اللحن ما سمعت / بمثله الأرض لا روضٌ ولا صدَح
أنت الذي من سماء الروح منهلُه / خمرٌ إليهةٌ لم تحوِها قدَحُ
يفيضُ قلبُك ألحانا يسلسلها / فنّ طليقٌ من الوجدانِ مسرِح
وعالياً عاليا لا زلت منطلقاً / عن الثرى تصل الآفاق آمادا
مثل السحابة من نار مسعّرَة / والبرق مؤتلقا والنجم وقّادا
يهفو جناحاكَ في أعماقِ زرقتها / وأنت تضرب في الآفاقِ مرتادا
تشدو فَتُمعن في أجوازها صعدا / فإن علوت بها أمعنت إنشادا
ومائج ذهبيّ النتور قد غرقت / في ذوبِه الشمس عبر العالم الثاني
توَهِّج السحب البيضاء حمرتهُ / فتستحيل عليها ذات ألوان
أشعةٌ ذات أمواج غدَوتَ بها / تطفو وترسب في لجيّها القاني
كأنما أنت جذلانا تراوحنا / روحٌ من الطرب العلويّ نوراني
تذوب حولك إما طرتَ في أفقٍ / غلالةُ الأرجوان الشاحب الساجي
كنجمةٍ في سماء الليل خافقة / تذوب في فلَقٍ للصبح وهّاج
يا من تطرّبني ألحان غبطَتهِ / وما رأيت له طيفا بعراج
ألا أراك فإني سامعٌ نغما / يهفو إليّ بإطرابٍ وإبهاج
وصاعدا في مضاء السهم أرسلَهُ / قوسٌ من الكوكب الفضيّ منزعه
ينأى فيخبو رويدا وهج شعلَتهِ / حتى يلاشى كأن الفجر يتبعه
ونرسل العين نرعاه هنا وهنا / وما يبين لنا من أين مطلع
حتى إذا عزّنا المرأى وأجهدنا / دلّ الشعور على أن ذاك موضعه
هذي السماء بموسيقاك مائجةٌ / والأرضُ يغمرُها من صوتك الطرَب
وصفحة الليلِ أصفى ما يكون سوى / غمامة خّلتها وحدها السحُب
وقد بدا القمرُ الوضاح يمطرها / إرسالَ ضوء على الآفاقِ ينسَكِب
يرمي السموات سيل من أشعّتها / تكاد تسبحُ في طوفانهِ الشهُب
من أنت يا من يجوب الليل منفردا / ولم تقع لي عليه بعد عينان
أي الخليقة قل لي أنت تشبهه / وأيها منك في أوصافه داني
وهذه السحبُ أصباغاً مشكّلةً / في رائعٍ من فريدِ اللون فتّانِ
لا ينزلُ الغيثُ منها مثلما نزلت / شتّى أغانيكَ في سحريّ ألحانِ
كشاعرٍ في سماء الفكر مختبىءٍ / دلّ الوجود عليه لحنُه العالي
ألحان أغنيةٍ أمسى يُرتّلها / كمرسلٍ من نشيد الخلدِ سيّال
أسلنَ بالعالم السالي خوالجَه / حتى استحال شجوناً قلبه الخالي
يعثن من ألم فيه ومن أمل / ما لم يكن منه في يوم على بال
كأن حوريةً في ظلّ شاهقةٍ / من البروج تقضّي العيشَ في خلس
لم يغمضِ النوم عينيها ولا خمدت / نيران قلب لها في فحمَةِ العلس
باتت تلطّفق آلاما تساورها / في عزلة بنشيد ساحر الجرسِ
تطوف ألحانُ موسيقاه مخدعها / كأنه الحبّ في إيقاعه السلسِ
كأن بين الربا التفّت خمائلُها / فراشةٌ من سبيك التبر جلواء
يا حسن أجنحةٍ منها مذهبةٍ / قد رقّثتها من الأسحارِ أنداء
تُري السماء صفاءً فهي إن خطرت / فللسماء بهذا اللّون إغراء
تجلو الأزاهر والأعشابَ طلعتُها / إذا بدت ولها فيهنَ إخفاء
كزهرة الحقل في غيناء سرحتها / لم يملأ النور من أجفانها حدقا
حتى إذا لفَحَتها الريح هاجرةً / زكت وأربت على أملودها ورقا
وأرّجَ الحقلَ من أنفاسها عبقٌ / يشوق كل جناحٍ نحوها خفَفا
تهفو إليها من الأنسام أجنحةٌ / من كل منطلق من عطرها سرقا
ووقعُ لحنك في الأسحارِ أرخمُ من / وقعِ الندى فوق أعشاب البساتين
قد نقّط الزهرَ المنضور سلسلُه / وجاد بالطلّ أفوافَ السرياحين
يا من على صوته في الأفق منسجماً / تصحو الأزاهرُ في أفنانها العين
كل البدائع مهما افتنّ مبدعُها / لم تعد لحنك في صوغ وتلحين
قل لي أمن ملَكوتِ الروح منطلقٌ / أم طائرٌ أنت في الآفاقِ هيمان
أيّ الخواطرِ من حسنٍ ومن بهَجٍ / يشيعها منك في الأرواحِ وجدان
لم تشرئبّ قلوبٌ من أضالعها / لغير صوتك أو تنصبّ آذانُ
حديث حب وخمر بات يسكبهُ / من جانب اللَه أنغامٌ وألحانُ
من أين تلك الأغاني أنت ترسلها / من أيّ مطّردِ الينبوع منسجمِ
من أيّ ثائرةِ الأمواجِ زاخرةٍ / أي السهولةِ والأغوارِ والقمَمِ
من أيّ ضاحية الآفاقِ صاحيةٍ / أي السهولة والأغوارِ والفمَمِ
وأيّ حبٍّ أليف منك أو وطنٍ / وأيّ جهل لما نلقاه من ألم
وفي منامكَ والآفاقُ حالمةٌ / وفي نتباهك والظلماءُ إصغاء
لا بدّ من نباءٍ للموت تعرفهُ / وفي فؤادكَ عنه اليوم أشياءُ
لأنتَ أعمق فكراً في حقائقه / مما نراه ونحن اليوم أحياء
أو لا فكيف انسجام اللحن مطّرداً / يجريه من رائق البللور لألاء
إنا نفكّرُ في ماضٍ بلا أثَرٍ / ومقبل من حياة كلها غيبُ
ومستحيل نرجّي برق ديمتِهِ / وكل ما نرتجيه منه مختلب
وكم لنا ضحكاتٌ غير صادقةٍ / ما لم يشب صفوها التبريح والوصبُ
وإن أشهى الأغاني في مسامعنا / ما سالَ وهو حزينُ اللحنِ مكتئب
هبنا على رغمِ هذا ليس يجمعُها / بالحقد أو كبرياء النفسِ أوهاق
فلا القلوب لدى البأساء جازعةٌ / ولا بهنّ إذا روعن إشفاق
فكيف كنا إذا نلقاك في فرحٍ / أو يغمر الروح لحن منه رقراق
يا أعذب الطير موسيقى وأروعَها / من كل رائق أنغام وألحان
ويا أعزّ لنا من كل ما جمعت / نفائسُ الكتب من دريّ تبيان
يا ما أحقّ اقتدار منك قدرته / بشاعر لبقِ التصورِ فنّان
أنت المبرّأ في حبّ وعاطفةٍ / يا من تعاليتَ عن أرضٍ وإنسانِ
أما تعلّمني مما يفيضُ به / غناؤكَ العذبُ تطرابا وتحنانا
ذاك الحنون الذي يهدي توافقهُ / إليّ من صدحات الخلد ألحانا
ألستَ تلهمني وحيا يفيضُ به / فمي فأملا قلب الكون إيمانا
أشدو فيلقي إليّ الكون مسمعه / يصغي إليّ كما أصغي لك الآنا
تنهدات الرياح
تنهدات الرياح /
رتيبةٌ النواح /
تجرحُ قلبي بها / قيثارةُ الخريفِ
وثم صوتٌ عابر /
منَ السنينِ الغوابر /
يهتف بي فأصغي / للهاتف المطيف
ويستفيض خيالي /
بالذكريات الخوالي /
أنشدها فأبكي / بالمدمع الذريف
وعند ذا تحملني /
وريقةٍ من فنَنِ /
قد ذبلت وانطلقت / في العاصفِ الشفيفِ
سألوني عن بياني وقصيدي
سألوني عن بياني وقصيدي / أسفاً باريس قد مات نشيدي
لك ذكراكِ ولي عهدٌ بها / كيف أنسى ذكرياتي وعهودي
أنا لا أنسى لياليّ على / روضك الرفاف بالزهر النضيد
ثمرُ الفكر ومجنى نورِه / ومراح العين والقلب العميد
خطرةٌ عابرةٌ عدت بها / عودة الغوّاصِ بالدرّ الفريد
فاعذري المزهرَ في كفّي إذا / أخسرتهُ ضجة الرزء الشديد
يوم قالوا جلّلَ القيد يدا / حطمَت بالأمس أصفاد العبيد
حملت مشعل حرّياتهم / في شراة من شباب المجد صيد
كيف يا باريس باللّه هوى / ذلك النجم من الأفق البعيد
إن ينل منك المغيرون فما / فتحوا غير تخومٍ وحدود
لستِ بنيانا ولا أرضاً ولا / غاب آسادٍ ولا جنّة غيدِ
أنت معنىً عالمُ الفكر به / يتحدّى قبضة الباغي المريد
كعبة الأحرار هذي محنةٌ / راعت الأحرارَ في أكرم عيد
صرع النورُ به وانحسرت / جبهة الشمس عن النور الشهيد
وأتى الليلُ ومن أهوالهِ / أن تُرَي بين ظلامٍ وقيود
أين من فرساي أفقٌ ضاحكٌ / مشرقٌ عن أملِ الشعب السعيد
وعلى كل طريق موكبق / صادح الأبواقِ خفّاق البنود
لكأني اليوم ألقى مأتما / وأرى الكنكرد كالقبر الحريد
حال شدو الماء في أحواضهِ / نفثة الغرقى ببحرٍ من صديد
وقفت مصر به ساخرة / من نحوسٍ تتوالى وسعود
غلَبَ الصمتُ عليها وهي في / صمتها الخالدِ طلّسمُ الوجود
ساحة الباستيل حانَ الملتقى / وتعالت صرخة الفجر الوليد
أين أبطالك ماذا أترى / ضرب الليل عليهم بالوصيد
أغمدوا أسيافهم ويح وما / عوّدوا أسيافهم حبسَ الغمود
ويحهم قد شيّعوا أعيادهم / بين عصف النار أو قصف الحديد
فوق أرض صبغت من دمهم / وتحدّت كل جبار عنيد
فوق أحجارك صرعى أمسهم / فلذاتٌ كتبَت سفر الخلود
فاذكريهم بالذي مرّ بهم / واقرئي تاريخهم ثم أعيدي
أيها العائد من غاراته / راقداً تحت قباب الأنفليد
تلك راياتك فانظر أترى / من سيوف تحتها أو من جنود
أين من موسكو ومن آفاقِها / جيشك الظافر بالجيش البديد
تطأ الأرض إلى مشرقها / موغلاً في أثر الدبّ الشريد
ففرنسا همة لا تنثني / أمشت في النار أم تحت الجليد
بالقليل الجمعِ من أبنائها / تنزع النصر من الجمع العديد
أممٌ ترسف في أحقادها / دتتها بالصفح والصنع الحميد
لم تسيّر فوقها دبّابة / أو تباغتها بطيرٍ من حديد
شرَفُ الحرب كما لقّنتَهُ / ملتقى سيفين في ظلّ البنود
فاعذر اليومَ فرنسا إنها / وثقت بالعهد في دنيا الجحود
قرَعت للنصر كأسا ويحها / صرعتها خمرة النصر التليد
رقدَت عن غدرها وانتبهت / حيثُ لا ينفع صحو من رقود
أسفرت سيدان عن مأساتها / وتهاوى حجرُ الحصن المشيد
ثغرةٌ أنفذِ منها خنجرٌ / قد تلقّته على حزّ الوريد
شهِدَ المجد لها باسلةً / خضّبت بالدم من نحر وجيد
فابعث العزّة من تاريخه / وتألّق بسناه من جديد
واطلع اليوم عليها سيرةً / وكن الشاعر واهتف بالقصيد
أيها الفاتحُ لا يغررك ما / أنت فيه من حصونٍ وسدود
لك فيّ العبرةُ المثلى فلا / تأمَنِ الزلةَ في أوج الصعود
ربّةَ النور سلاماً كلّما / هتف الشعر بماضيك المجيد
لك في كلّ خيالٍ صورةٌ / برئت من وصمة العصر الجديد
غير ذكرى يرجع الفكر بها / لليالٍ من عصور الظلم سود
لهف نفسي لدمشق ولمن / خرّ فيها من جريحٍ وشهيد
من شواظٍ يقذفُ الموت على / ركّعٍ في ساحة اللَه سجود
فأنا الشرقيّ لا أنسى الذي / حاقَ من حكمك بالشرق العتيد
ألمساواةُ التي أعلنتها / أعلنتَه بنذير ووعيد
والإخاءُ الحرّ ما كان سوى / مدفعٍ يرمي بمرد ومبيد
وطني الروحيّ إن أغضب له / فلآباء كرامٍ وجدود
وتراثٍ خالدٍ من أدب / أنا فاديه بروحي ووجودي
كفرت ثورتك الكبرى به / وهو المحسنُ يجزى بالكنود
سارَ بالإسلامِ نوراً وهدى / بسنى عيسى خطى الحقِ الطريد
ألنبيّونَ همو ثوارُه / حاملو الشعلة أعداء القيود
فخذي بالحق والروح الذي / هزّ بالثورة أركان الوجود
وابعثيها ثورة أخرى فما / يعرفُ الأحرارُ معنى للجمود
أَخِي جاوَزَ الظالمونَ المَدَى
أَخِي جاوَزَ الظالمونَ المَدَى / فحَقَّ الجِهَادُ وحَقَّ الفِدَا
أَنتركُهُم يَغصِبون العُروبَ / ةَ مَجدَ الأُبَوَّةِ والسُّؤدَدَا
وليسُوا بغيرِ صَليلِ السُّيوِف / يُجِيبُونَ صَوتاً لنا أو صدى
فَجَرِّد حُسَامَكَ من غِمدِهِ / فليس له بَعدُ أن يُغمَدا
أَخي أَيُّها العربيُّ الأَبيُّ / أَرَى اليوم مَوعِدَنا لا غَدَا
أَخي أَقبَلَ الشَّرقُ في أُمَّةٍ / تَرُدُّ الضَّلاَلَ وتُحيي الهُدَى
أخي إنَّ في القدس أختاً لنا / أعدَّ لها الذابحون المُدى
صبَرنا على غَدرهم قادِرينَ / وكُنَّا لهُم قَدَراً مُرصدا
طلَعنا عليهم طُلوعَ المَنُونِ / فطَارُوا هَبَاءً وصارُوا سُدَى
أَخي قُم إلى قِبلَةِ المشرِقَينِ / لنَحمِي الكنيسةَ والمسجِدا
يسوع الشهيد على أرضها / يعانق في جيشه أحمدا
أخي قم إليها نشقُّ الغمارَ / دماً قانياً ولظىً مرعدا
أخي ظمئت للقتال السيوف / فأورد شَباها الدمَ المُصعدا
أخي إن جرى في ثَرَاها دَمِي / وأَطبَقتُ فوق حَصَاها اليَدَا
ونادى الحِمام وجُنَّ الحُسام / وشبَّ الضِّرامُ بها موقَدا
ففتِّش على مُهجَةٍ حُرَّةٍ / أَبَت أَن يَمُرَّ عليها العِدا
وخُذ رايةَ الحقِّ من قبضةٍ / جلاها الوغى ونَماها الندى
وَقبِّل شهيداً على أَرضِها / دَعا باسمِهَا الله واستُشهِدَا
فَلسطِينُ يَفدِي حِمَاكِ الشّبابُ / فجَلَّ الفِدائِيُّ وَالمُفتَدَى
فَلَسطِينُ تَحمِيك منَّا الصُّدُورُ / فإِمَّا الحياةُ وإمَّا الرَّدَى
عكّاءُ في الساحلِ الشرقيّ شامخةٌ
عكّاءُ في الساحلِ الشرقيّ شامخةٌ / تطاولُ النجمَ أبراجاً وأسوارا
كم غرّرت بالغزاة الصيد والتفتَت / إلى جحافلهم هزوا وإصغارا
وخلّفَت نارها أقوى سفائِنِهِم / يلهو بها الموجُ أنقاضا وأطمارا
مشى لها من ضفافِ السين مقتتل / دانوا به قيصرا في الحرب جبّارا
تساءل العرب من هذا وأيّ فتىً / يلقى الكماة شديدَ البأس قهّارا
وما سفائنُه في البحر منشَئَةً / رُعنَ الحديد وهجنَ النار إعصارا
كأنّ قرطاجةً ثارت ملاحِمُها / تنازعُ الغربَ أقواما وأمصارا
ذاك الذي راع ذئب البحر مخلبُه / وقلّمَ الدبّ أنيابا وأظفارا
تعوّدَ الحرب إقبالاً فما برَحَت / تغريه بالشرق حتى ارتدّ إدبارا
ألقتهُ عكّاء عن أبوابها ورمَت / به شراعا على الدأماء منهارا
حتى أتاها فتىً من مصر تعرفهُ / في الروعِ مقتحما في النقع كرّارا
أباح سدّتها واجتاحَ ساحتَها / فسلّمت كفّهُ الزيتونَ والغارا
وقبّلت في لواءٍ تحت إمرَتهِ / من فتيةِ النيلِ مقداماً ومغوارا
سمرٌ لهم بالشموس الغرّ واشجةٌ / تضيءُ أنسابهم شهباً وأقمارا
من كلّ رامٍ كما تنقضّ صاعقةٌ / يرمي العداة حديد الظفر عقّارا
وكلّ ليثٍ غضوبٍ مثل عاصفة / منه يطيرون ألباباً وأبصارا
لم يتركوا في مجال النصر متسعاً / للاحقٍ أو لباغي السبقِ مِضمارا
وثَبنَ في موكب الطبيعَه
وثَبنَ في موكب الطبيعَه / وثوب غزلانها الوديعه
منشّراتٍ ومرسلاتٍ / غلائل الفتنة الرصيعَه
أثار دفءُ النسيم روحا / فيهنّ مشبوبة وليعه
وهاج عطر الصباح فيها / ما هاج في النحلة الرضيعه
فرحنَ يمرحن في غناءٍ / تصغي وتتلو الربى رجيعَه
يحملن وردا بها لوردٍ / ينثال بالحمرة الينيعَه
كأنما الروض قلب صبّ / اسلن فوق الثرى نجيعَه
هذا الربيع الجميل يجلو / فنون إبداعه الرفيعَه
مشي تحيّي الرياض منه / خطى على صدرها سريعَه
وديعة الخلد في يدَيهِ / وبوركت فيهما الوديعه
انتشت الأرض من شذاه / وأترعت كأنها الرصيعه
ولي فم ناضبٌ وقلبٌ / فارغةٌ كأسهُ صديعَه
عرائس الحسن لاتدعنَ الم / حبّ للهجر والقطيعَه
فإنه شاعرٌ يغنّي / أحلامهُ الحلوة البديعه
لكن يحي صبا الليالي / شدواً ويغني الهوى دموعَه
عاد ربيع الثرى وعادت / صوادح الدوحة الوشيعَه
هفت بجوقاتها إليه / مفشيةً سرّهُ مذيعَه
وزفّهُ بلبل لعوبٌ / في حضنه وردة خليعَه
وحدّقَ الزهر واشرأبت / كمائم حوله سميعَه
شريعة الغاب ما أراها / دما ولا ميتةً ذريعَه
لكنّه الحبّ فوضويا / يقتحم الذروة المنيعَه
تدعو له الكائنات طرا / وقدّس الحب من شريعَه
فيا عروس الربيع هاتي / من وحيه وانشري صنيعه
أنت شباب الحياة أنت / الجمال في موكب الطليعه
وأنت أنت الربيع لا ما / تبدعه ريشة الطبيعة
خدّاك نهداك من جناه / فاكهة الجنّة المضيعه
ثغرك ريّان من رحيق / ألحب يحيى به صريعَه
شعرك من نور ناظريه / يقبس منه السّنى سطوعَه
وقيت لمح العيون إمّا / رمتك بالنظرة الجميعَه
وقيت لقح الشفاه إمّا / هفت بها قبلة الخديعَه
وقيت فحّ الصدور إمّا / غلت بها الشهوة الوضيعه
فأرجعي يا عروس فنّي / صبا يودّ الهوى رجوعَه
أيام كلّ الطريق زهرٌ / وكلّ حافاته مريعَه
أيام كلّ الحياة فجرٌ / ترقبُ عين الفتى طلوعه
وليله مهرجان عرسٍ / قد أوقدوا حوله شموعَه
إن أنت لم تحسني إليه / قتلتِ في صدره نزوعه
ومن لقلبٍ أضاع بين اله / وى وبين الصبا ربيعه
لا نجم لا مصباح
لا نجم لا مصباح / يلمع في السهل
قد نامت الأدواح / مقرورة الظل
مطمورة الأشياح / في مهدها الثلجي
هذا شعاعٌ لاح / يخفق في وهجِ
ألحارسُ السهران / قد فتّح البُرجا
يتلو على النيران / أغنيّة الفولجا
واللهب السكران / يرقصُ في نارِه
والنَغمُ الفرحان / يلهو بقيثاره
أطلقتَ إنشادي / يا من تغيّني
قيثارك الشادي / حلو الأرانينِ
يدعو لميعادي / الحبّ والأحلامَ
يا حارسَ الوادي / قد باحت الأنغام
هذا الفتى الممراح / قد أغلقَ البابا
واللهبُ الوضّاح / من خلفهِ غابا
لا نجمَ لا مصباح / يلمعُ من بُعد
لا صوت لا اشباح / إنّي هنا وحدي
يا أملَ العمرِ / يا حُلُمَ العذراء
يا توأمَ الفجرَ / يا ابنَ الصبا الوضاه
يا ملَكَ الحب / إنّي لكَ الليلَه
فاطبَع على قلبي / أو شفتي قُبلَه
أقدم فداكَ حديدها ولهيبها
أقدم فداكَ حديدها ولهيبها / واغنم مجادتها فأنت ربيبها
مجد الفتوح الغرّ أنت وريثه / والحرب أنت على المدى موهوبها
ما الحرب إلا ما شرعت وما رأت / أممٌ تذود عن الحقوق شعوبها
نادت فهبّ على الدماء ضريجها / يمشي ويقتحم السعير خضيبها
شرف المحارب أن يعفّ سلاحه / إن جارت الهيجاء وهو حريبها
ليجير شعباً أو يحرّر أمّة / لا تستباح ولا يضامُ نجيبها
النصر أن تلقى الطغاة بضربةٍ / شعواء لم يضب الطغاة ضريبها
فخذ العدوّ المستخفّ بطعنةٍ / إن لم تمته غدا تمته ندوبها
والمجد أن تحمي وراءك قرية / ضاعت مسالكها وضاق رحيبها
جنّ الحديد بأرضها وسمائها / فجرى وطار تصيبه ويصيبها
شدّت يد الفولاذ حول نطاقها / حلقا تصيح النار كيف أذيبها
بالروح والإيمان أنت قهرتها / بأساً فلان على يديك صليبها
حتى إذا أعيا العدوّ جلادُها / ووهت جحافِله وطاش وثوبُها
عضّت على كفّيه والتفّت على / ساقيه وانسدّت عليه دروبها
ومشت له منها ضراغم غابة / كلّ الردى أخلابُها ونيوبُها
قذفت به عنها وغودر جيشه / بددا تعقّبه الخوف وحوبها
جثثا تعاف البيد شرب دمائها / ويعفّ كاسرها ويأنف ذيبها
شرفا كماة النيل أيّ بطولةٍ / راع الكماة فنونها وضروبها
ومواقف لكمو تشيد بذكرها / دول وراء النار قام رقيبها
وملاحم الأبطالِ في فلوجه / قصص الكفاح غريبها وعجيبها
هومير ما غنّى بها طروادة / وكمثلها ما ألهمته حروبها
ضربوا الحصار على الكماة فجاءهم / فطِنُ الشجاعة في الحروب أريبها
متمرس بطباعها متفرّسٌ / في روعها يقط الخطى مرهوبها
فادٍ أحمّ كأنما احترقت به / حربٌ من الميلاد كان نشوبها
فنما وشبّ عليه من يحمومها / أدمٌ زهاه من السمات مهيبها
طلعت به إفريقيا وتطلّعت / آجامها وجبالها وسهوبها
يزرى بما نصب الدهاة لصيده / ويضلّ أشراك الردى ويخيبها
ما زال مصطرعا يصول ودونه / بيداء يغشاها اللظى ويجوبها
ساق الطغاة لها فرائس فتنةٍ / حمراء ينفخ في الجحيم ربوبها
عرضت مآثمها بهم وتقدّمت / أمم تمور على الرمال ذنوبها
حتى رأته كوى السماء ففتّحت / وتلألأت بسنى السلام ثقوبها
ومشى الكميّ أشمّ بين رجالهِ / أبطالِ حربٍ لا يقرّ سليبُها
لن يستذلّ ثرىً عليه دماؤهم / سالت لقد روى الحياة صبيبها
يا أيها الأبطال مصرُ إليكمُ / بالغار يستبق الشبيبةَ شيبها
وعقائلٌ خلفَ الخدور هواتفٌ / كالطير أذن بالصباح هبوبها
ينثرنَ بالريحان فوق رؤوسكم / طاقاتِ وردٍ ليس يذهبُ طيبها
وهفت غمائمُ في السماء تظلُّكم / ويرفُّ مصعدُها لكم ومصيبها
وعلى طريق المجد من فالوجةٍ / مهجٌ حوائمُ في التراب وجيبها
شهداؤكم ودُّوا هناك لو اَنَّهم / قدموا بألويَّةٍ يروعُ خضيبها
طلعوا بنور الفجر فوق مآذنٍ / تدعو ورحمن السماء يجيبها
هاتوا حديث الحرب كيف تطامنت / لكمُ مفازعها وهان عصيبها
في قرية محصورة كسفينة / في لجة هاجت وماج غضوبها
لم تدر فيها الريح أين قرارُها / والشمس أين شروقها وغروبها
كم حدثوا عنها وقالوا في غد / للقاع تهوي أو يحين رسوبها
وبِمصرَ والدنيا عيونُ أحِبةٍ / السُّهدُ والألم الممِضُّ حبيبها
ترعى النهار وتتقي غسق الدجى / هذا يطمئنها وذاك يريبها
إيهٍ حماةَ الشرق كم بجهادكم / تشدو العصور بعيدها وقريبها
هذي الضفاف وهذه داراتكم / دارات شمس لا يحول شيوبها
ترنو لكم وتكاد من أشواقها / تمشي وكيف حراكها ودبيبها
لِمَ لا أغنيكم قوافيَّ التي / غنَّى بملحمة الحياة طروبها
هي من روائعكم ووحيُ جديدها / منكم ومني في البيان وَجيبُها
بالله إن طفتُم بساحة عاهل / ترعاه مصر عيونها وقلوبها
فتقدموا تحت اللواء وقرّبوا / هذي السيوف الداميات عزوبها
أحيت له ولمصر أيّ مجادةٍ / هي ذخرهُ المأثورُ وهو وهوبها
هيهات تنبت تربة غير العلى / ما دام يسقى بالدماء خصيبها
مالوا بمصباح البيان صباحا
مالوا بمصباح البيان صباحا / ومشوا به في الذاهبين رواحا
ومضوا به إلا شعاعاً لم يزل / في الأرض مؤتلق السنى وضاحا
تهفو النجوم إلى سناه وتغتدي / نشوى كأن من الأشعة راحا
وعلى جوانب أرضها وسمائها / شفق تقلّده السماء وشاحا
هذا شعاع العبقرية لم يزل / يولي الحياة طلاقة وسماحا
قدر الخلود له وبارك أفقه / رب أراد به هدى وصلاحا
أجرى البيان على لسان نبيه / غدقا من السحر المبين قراحا
وحبابه الشعراء من ألحانه / فشدوا بألسنة الطيور فصاحا
لما مشى في الأرض فجر صخرها / ماء ونضرها ربى وبطاحا
وأنار في شرف السماء نجومها / فتلون من آياته الألواحا
فكأنما الدنيا ضحلا وكأنما / في كل داجية نرى مصباحا
قل لابن هانئ لا ذوت لك كرمة / فقد الربيع هزارها الصداحا
قد كنت في أمس نزيل رحابها / فنزلت أشرف ما أبلغ ساحا
ألقى وأسمع عبقريا ملهما / طلق المحيا ماجدا مسماحا
يولي النفوس بشاشة وينيلها / أدبا ويسقيها الوداد صراحا
أنست زمانا بالبيان وأهله / حتى تبدل أنسها أتراحا
وقفت بي الدنيا على جنباتها / فرأيت حزنا واستمعت نواحا
وشهدت ظل الموت فوق ظلالها / يغشى الربى ويجلل الأدواحا
وجمت وكانت الموت فوق ظلالها / تستقبل الإمساء والإصباحا
وذو ت أزاهرها ونفر طيرها / ينزو ويقطر أدمعا وجراحا
يبكي من الصدر الورود لجدول / كم عب من دفاقه وامتاحا
لما نعيت لها تزايل حسنها / وصغا الربيع بوجهه وأشاحا
سيان بعدك يابن هانئ دهرها / يسري نسيما أم يهب رياحا
قم وابك للشعر النبوغ وقل له / أمضى زمان النابغين وراحا
واهتف بصومعة البيان فقد خلا / عهد الرسالة بالقريض وطاحا
ولى بسر العبقرية شاعر / اللّه هيأه لنا وأتاحا
لم تسعد الفصحى بمثل يراعه / يوما ولا لقي الخيال جناحا
شعر حوى الدنيا ونسق حسنها / صورا ومثلها منى وطماحا
ويزيح عن ماضي العصور ستارها / فترى بها الغادين والرواحا
هو مثل هذا الطير في صدحاته / والزهر لطفا والعبير نفاحا
وأراه كالبحر الخضم عبابه / يعيى مداه الخائض السباحا
ويظنه الملاح طوع شراعه / فيرد عن غمراته الملاحا
يهدي إذا هدأ الثرى أصدافه / وإذا تمرد دره اللماحا
وأراه حين يرق عاطر نسمة / وإذا قسا فالعاصف المجتاحا
شعر يشف عن الحياة وداعة / ويؤج منها ثورة وكفاحا
ويبين من غضب النفوس وصفوها / مثل الحياة كآبة ومراحا
ويفيض من نبع القلوب فآنة / ماء وآنا جاحما لفاحا
والشعر مرآة الحياة ولم يزل / يجلو الرؤى ويصور الأشباحا
والشعر من أدب النفوس ولن ترى / من دونه هديا ولا إصلاحا
ولقد تذوقت الحياة فلم أجد / كالشعر ريا للنفوس وراحا
قل للكنانة عن رمائك أقصري / فلقد فقدت الرامي النضاحا
صياد أسراب الجمال إذا رنا / جاءته ما عرفت لديه جماحا
يدني القصي من الشوارد لفظه / ويروض منها النافر الممراحا
من كل معنى بالروائع حافل / يجلى كما تجلى الشموس صباحا
وقصيدة كالروض باكره الحيا / فاهتز ريحانا ورف أقاحا
من للطبيعة يستزيد جمالها / غررا كآيات الكتاب وضاحا
ذهب الذي غنى خمائل روضها / حتى مددن إلى النسيم الراحا
المرقص الزاهرت فوق غصونها / والمستخف عبيرها الفواحا
والمسعد الأيكات منه بملهم / كانت به الجنات قبل شحاحا
أوحى له المرح الوجود فصاغه / شدوا بأسرار القلوب وباحا
سبحان من أهدى الخيال يراعه / وهدى له الإبداع والإسجاحا
فتسمعوه فلم يزل من شعره / شاد يهزّ بسحره الأرواحا
يا نازحا عنا نزلت بعالم / تلقى الأحبة فيه والنزاحا
فاحلل بجنات الخلود ورو من / عين النعيم فؤادك الملتاحا
واملأ من الزهر المنور والجنى / كفيك واطرح عبئك الفداحا
سترى الرسول على معطر روحها / يهدي إليك ببابها المفتاحا
يسعى بحسان إليك وأنتما / وضحان من فجر النبوة لاحا
يختال في بردية من بردة / حاك القريض خيوطها أمداحا
يستاف من ميلاده شوقية / الله كان لمسكها النفاحا
فاشرح هواك له وبث لواعجا / كانت لهن دموعك الشراحا
أبلغ إلى صبري التحية والهوى / عنا وحي جبينه الوضاحا
وامسح دموعك عن أسرة حافظ / فلقد لقيت بقربه الأفراحا
وتساق أقداح المسرة معهما / فلكم ملأت بدمعك الأقداحا
واذكر على الأرض الشقية رفقة / باتوا عليك يقلبون الراحا
في عالم ما زال في غلوائه / ومنى على رث الحطام تلاحى
أشرق بوجهك في غياهب ليله / يخلع دجاه إذا جبينك لاحا
وأضىء على شط الحياة منارة / واطلع بكل دجية مصباحا
ونم الغداة وحسب روحك أن ثرى / من نور مجدك هذه الأوضاحا

المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025