المجموع : 155
إنْ أكُنْ قد شربتُ نخبَ كثيرا
إنْ أكُنْ قد شربتُ نخبَ كثيرا / تٍ وأترعتُ بالمدامة كأسي
وتولَّعتُ بالحسان لأنِّي / مُغرمٌ بالجمال من كلِّ جنسِ
وتوحَّدتُ في الهوى ثم أشركْ / تُ على حالتي رجاءٍ ويأسِ
وتبذَّلتُ في غرامي فلم أحْ / بِسْ على لذةٍ شياطينَ رِجْسي
فبرُوحي أعيشُ في عالم الفنْ / نِ طليقاً والطهرُ يملأ حِسِّي
تائهاً في بحاره لستُ أدري / لِمَ أُزجِي الشراعَ أو فِيمَ أُرسي
ليَ قلبٌ كزهرةِ الحقل بيضا / ءَ نَمَتْها السماءُ من كلِّ قبْسِ
هو قيثارتي عليها أُغنِّي / وعليها وحدِي أُغنِّي لنفسي
لي إِليها في خَلوتي همساتٌ / أنطقَتْها بكلِّ رائعِ جرْسِ
كم شفاهٍ بهنّ من قُبلاتي / وهَجُ النّارِ في عواصفَ خُرسِ
ووسادٍ جَرَتْ بهِ عبراتي / ضحْكُ يومي منه وإطراق أمسي
أيُّهذِي الخدورُ أنوارُكِ الحم / راءُ كم أشعَلتْ لياليَ أُنسي
أحرقتهنَّ آهِ لم يَبْقَ منهنْ / نَ سوى ذلك الرَّماد برأسي
تَسَاءَلَ الماءُ فيكِ والشَّجرُ
تَسَاءَلَ الماءُ فيكِ والشَّجرُ / من أين يا كانُ هذه الصُّوَرُ
البحرُ والحورُ فيه سابحةٌ / رُؤىً بها بات يَحْلُمُ القمرُ
أطلّ والضوءُ راقصٌ غَزِلٌ / دعاهُ قلبٌ وشاقه بَصَرُ
يهمسُ فيما يراه من فِتَنٍ / آلهةٌ هؤلاءِ أم بشرُ
يقفز من لجةٍ إلى حجَرٍ / كأنما مَسَّ روحه الضَّجرُ
معربداً لا يريم سابحةً / إلَّا ومنهُ بثغرها أثرُ
من كلِّ حوّاءَ مثلما خُلقَتْ / يعجبُ منها الحرير والوبرُ
أَلْقَتْهُ عنها رقائقاً ونَضَتْ / جسماً تحامى نداءَهُ القدرُ
في حانةٍ ما عَلَتْ بها عَمَدٌ / ولا استوى في بنائها حجَرُ
جُدرانها الماءُ والسماءُ لها / سقيفةٌ والنسائمُ السُّتُرُ
خمَّارُها مُنْشِدٌ وسامرُها / حورٌ تلوَّى وفتيةٌ سكروا
لم تَبْقَ في الشطِّ منهمو قَدَمٌ / قد خوَّضوا في العباب وانتثروا
وشيَّعوا العقل حينما شربوا / ووَدَّعوا القلب حيثما نظروا
والسابحاتُ الحسان حولهمو / كأنهنّ النجومُ والزَّهَرُ
يزيد سيقانهنّ من بَهَجٍ / لونٌ عجيبُ الرُّواءِ مبتكرُ
يضيءُ ورداً وخمرةً وسنىً / ذوبٌ من المغريات مُعتصَرُ
تغاير الموجُ إذ طلعن به / وثار من حولهنّ يشتجرُ
بهنّ يلتفُّ مُرتقىً وَيُرى / ينشقُّ عنهنَّ فيه مُنحدَرُ
منفتلات قدودهُنَّ كما / ينفتل الغصنُ آده الثمرُ
ملوّحات بأذرُعٍ عَجَبٍ / تحذرهنّ النهودُ والشّعْرُ
والضوءُ فوق الخصور منهمرٌ / والماء تحت الصدور مستعرُ
ما زِلْنَ والبحر في تَوَثُّبِهِ / يُرْغي كما راع قلْبَهُ خطرُ
قد جاوز الليلُ نِصْفَهُ فمتى / تؤمُّ فيه أصدافَها الدُّرَرُ
فليصخبِ البحرُ ولتئنّ به / رمالهُ وليثرثرِ الشجَرُ
ولتعصفِ الريحُ فوق مائجه / ولينبجسْ من غمامه المطَرُ
أقسمنَ لا ينتحين شاطئَهُ / وإنْ ترامى بمائه الشررُ
حتى يُرى وهو فضّةٌ ذَهَبٌ / تمازَجَ الليلُ فيهِ والسّحَرُ
مسراكَ نورٌ وأنسامٌ وأنداءُ
مسراكَ نورٌ وأنسامٌ وأنداءُ / فاخفقْ شراعي وطِرْ يصدحْ لك الماءُ
يا أيها القلقُ الحيرانُ كم أملٍ / تشدو به موجةٌ في البحر عذراءُ
يحدوكَ بالنغم السكرانِ أرغنُها / في مَسْبحٍ ماؤه زهرٌ وصهباءُ
أما ترَى البحرَ يبدو في مفاتنهِ / لكل حُبٍّ جديدٍ فيه أجواءُ
وفجرهُ صائدٌ طارتْ بمهجتِهِ / حوريَّةٌ في فجاج اليمِّ شقراءُ
وليلهُ مرقصٌ تغشاهُ غانيةٌ / في مُطرَفٍ أسود وشَّاهُ لألاءُ
شتَّى مواكبَ من حورٍ وآلهةٍ / لها التفاتٌ إلى الماضي وإصغاءُ
تهزُّها بقديم الشوقِ أشرعةٌ / مرنَّحاتٌ تُغنِّيهن أنواءُ
يقودهنَّ على الأمواج في مَرحٍ / ملاَّح وادٍ له بالتِّيه إِغراءُ
ما بين عينيه سال البرقُ مبتسماً / واستضحكتْ قلبَهُ مُزنٌ وهوجاءُ
زوَتهُ عنها السنون السبعُ واختلفتْ / عليه من بعدها نُعْمَى وبأساءُ
مُغَرَّباً في ديارٍ من عشيرته / بها الأحبَّةُ حُسَّادٌ وأعداءُ
وقيلَ كفَّتْهُ عن دنيا شواردهِ / بيضاءُ من شَعَراتِ الرأس غرّاءُ
لا يا غرامي وهذا الفنُّ مِلءُ دمي / بالنَّار والصَّبواتِ الحمر مشَّاءُ
ما أَفلَتتْ من يدي غيداءُ عاصيةٌ / إلا وعادتْ إليها وهي سمحاءُ
وذاك شاطئنا المسحور تزحُمُهُ / من ذكرياتكَ أطيافٌ وأصداءُ
على الصخور الحواني من مَشارفهِ / ربَّاتُ وحيٍ وأشواقٌ وأهواءُ
أقمن منتظراتٍ ما شكونَ ضنىً / وقد تعاقبَ إِصباحٌ وإِمساءُ
حتى رأتني على بُعْدٍ مطوَّقةٌ / مجروحةُ الصوتِ ولهى اللحن سجواءُ
همَّتْ تُغنّي فكانت نبأةً وصدىً / صَحَتْ لوقعهما دوحٌ وأفياءُ
عرائسَ الشعر قد عاد الحبيبُ وفي / عينيه سهدٌ وتعذيبٌ وإِضناءُ
آب المغامرُ من دنيا متاعبه / أما لهُ راحةٌ منها وإِغفاءُ
دعِيهِ يحلُمْ بأن البحر في دعةٍ / والريحَ ناعمةٌ والأرضَ قمراءُ
وأنها في ظلال السِّلم نائمةٌ / وأنها جنَّةٌ للحبِّ غنَّاءُ
وقرِّبي كأسهُ واصغي لمزهره / يُسْمِعْكِ أَشجى نشيدٍ زفَّهُ الماءُ
وقيل لبنانُ سحرُ الشرق فاندفعتْ / سفينةٌ وهفتْ بالشوق دأماءُ
أَوحى له الشرقُ أنَّا من أحبَّتِهِ / وأننا في الهوى أهلٌ أودَّاءُ
فقرَّبتنا وشفَّتْ عن بشاشته / به قُرىً كربوع الخلد شجراءُ
في كل مُنْحدرٍ منها ومرتفع / مسحورةُ النَّبع ريَّا النَّبت جلواءُ
فَعُلِّقَتْ بمغانيه نواظرُنا / وقبَّلتْ نسمات الأرز حوباءُ
واستقبلتنا طيورٌ في مناقرها / شدوٌ وزيتونةٌ للشرقِ خضراءُ
تُرقِّصُ الموجَ إنْ مَسَّتْهُ أجنحُها / كقلبِ آدمَ إذ مَسَّتْهُ حواءُ
في ساحلٍ من خرافاتٍ وأخْيلةٍ / بهنَّ لبنانُ روَّاحٌ وغدَّاءُ
لاحتْ على سفحه بيروتُ فاتنةً / صبيَّةً وهي مثلُ الدهر شمطاءُ
توسَّدتْ صخرةَ الآباد والتفتتْ / ترعى سفائنُ من راحوا ومن جاؤُوا
أتلك بيروتُ أم من بابلٍ صُوَرٌ / معلقاتٌ لها بالسحر إِيحاءُ
شُغْلُ العباقرة الشادين من قِدَمٍ / مجددين لهمْ في المجد أسماءُ
وأومأتْ بالهوى عاليُّ فاعتنقتْ / من حولنا ثَمَّ أظلالٌ وأضواءُ
قامتْ تُنَسِّقُ من ماءٍ ومن شجرٍ / فكلُّ ناحيةٍ زهرٌ وأجناءُ
كأنما نُبِّئَتْ من عشتروت لقىً / فازَّينتْ فهي سيقانٌ وأثداءُ
تقول يا ربَّةَ الحسن انظري وصِفي / أفوقَ واديكِ مثلي اليوم حسناءُ
عاليُّ رِفقاً بأَبصارٍ مُدلَّهَةٍ / لَها إِلى الحُسنِ بالأَلبابِ إِفضاءُ
عاليُّ إنَّا نشاوى من هوىً وأسىً / إنَّا محبُّون يا عاليُّ أنضاءُ
وحانَ بَعدُ وداعٌ من فرادسها / وقد جَرَتْ بخُطى الشمس المُليْساءُ
فاغرورقتْ بدموعِ الوجدِ أعيننا / وأشفَقَتْ من وجيب القلب أحناءُ
وسار عنها شراعٌ حائرٌ قلِقٌ / له إلى الغَرْبِ بالأسفارِ إِيماءُ
يا بحرُ ما بكَ هل مَسَّتكَ عاصفةٌ / أم استخفَّكَ إِزبادٌ وإِرغاءُ
أشاقك الغربُ أم شفَّتكَ موجدةٌ / لما خَبَتْ من ربوعِ الشرق أسناءُ
هذي السماءُ صفاءٌ والدُّجى قمَرٌ / للحسن فيه وللعشَّاق ما شاؤوا
يا بحرُ ما بكَ ما بي مصرُ ما بَعُدَتْ / ولي إليها بهذا الشعر إِسراءُ
عَجِبْتُ والعصرُ حرّ كيف في يدها / هذا الحديدُ له حَزٌّ وإِدماءُ
أقسمتُ لا رجعتْ بي فيكَ جاريةٌ / إنْ لم تجىء عن جلاءِ القوم أنباءُ
وأن مصر بحريَّاتها ظفِرتْ / فأهلها اليوم أحرارٌ أعزَّاءُ
أقسمتُ إلَّا إذا نادتْ بِفتيتها / فهبَّ مستقتلٌ عنها وفدّاءُ
في اهتزاز العَصَبِ الثائر والرُّوح المعنّى
في اهتزاز العَصَبِ الثائر والرُّوح المعنّى /
طالَعَتهُ بالهناءِ الليلةُ الأولى فغنَّى /
ورأى مِن حوله الأرضَ سلاماً فتمنَّى /
ليسَ يَدري أشَدا من فرحٍ أم ناح حُزنا /
قُلتُ من أيِّ بلادٍ قِيلَ لحنٌ من فينّا /
يا فينّا سلسلي الأنغامَ سِحرا / في حنايا النفس لا جوِّ المكانِ
أوَ حقاً أنتِ ذي أم أنتِ ذكرى / أم رؤىً تمرح في دنيا الأغاني
وبنانٌ هزَّتِ الأوتارَ سكرى / أم شِفاهٌ لمستْ روح الزمانِ
يا فينّا جدِّدي الآن مسرَّات الليالي /
روحُكِ الراقص لم يَحفِلْ بأرضٍ وقتالِ /
طَرِباً ما زال يشدو بين موجٍ وجبالِ /
بأساطيرَ وأحلامٍ وفنٍّ وخيالِ /
هو روحُ النَّغم الهائمِ في دنيا الجمالِ /
يا فينّا هل غابكِ للشَّمْل اجتماعُ /
أم على فجركِ نايٌ فيهِ للراعي ابتداعُ /
أم على أفقكِ من نور العشيّات التماعُ /
أم على مائك تحت الليل للحب شراعُ /
آه من أمس وما جرّ على النفسِ الوداعُ /
يا فينّا أسمعي الدنيا وهاتي
يا فينّا أسمعي الدنيا وهاتي / قِصَّةَ الغابة والفَلْسِ الكبيرِ
أين بالدانوب شدوُ الذكرياتِ / وصدى العشاق في الليل الأخيرِ
رَحَلوا عنكِ بأحلامِ الحياةِ / غيرَ قلبٍ في يدِ الحبِّ أسير
حسنُكِ النشوانُ والكأسُ والرويّهْ / جدَّدا عهدَ شبابي فسَكرْتُ
حُلْمُ أيامٍ وليلاتٍ وضيَّهْ / عَبرَتْ بي في حياتي وعبرتُ
أنا سكرانُ وفي الكأس بقيَّهْ / أيُّ خمر من جَنى الخلد عصرتُ
آهِ هاتي قرِّبي الكأس إليَّهْ /
واسقنيها أنت يا أندلسيَّهْ /
لا تقولي أيُّ صوتٍ مُلْهِمِ / قادَ روحينا فجئنا والتقينا
دَمُكِ المشبوبُ فيه من دمي / روحُ ماضٍ بالهوى يهفو إلينا
أخْتَ روحي قرِّبيها من فمي / إن شربنا أو طربنا ما علينا
آه هاتيها من الحسن جَنِيَّهْ /
واسقنيها أنت يا أندلسيَّهْ /
كانت النظرةُ أولى نظرتينْ / ثم صارت لفظةً ما بيننا
والهوى يَعْجب من مغتربَيْنْ / لم يَقُلْ أنتِ ولا قالتْ أنا
وَسَبَحنا فوق وادٍ من لجينْ / تحت أفقٍ من غماخم وسَنى
أتملَّاها سماتٍ عربيّهْ /
وأنادي أنتِ يا أندلسيَّهْ /
صِحْتُ يا للشَّمس في ظلِّ المغيبِ / تلثم الزَّهرَ وأوراقَ الشجرْ
خِلتُها بين محبٍّ وحبيبِ / قُبلةً عند وَداع وسَفرْ
فانثنتْ تنظر للوادي العجيبِ / صُوَراً يَذهبنَ في إِثرِ صورْ
وبسمعي همسةٌ منها شجِيّهْ /
وبروحي أنتِ يا أندلسيَّهْ /
ونزلنا عِند شطٍّ من نُضارِ / وانتحينا خلوةً بعد زحامِ
قلتُ والليلُ بأعقابِ النهار / ألكِ الليلةَ في لحنٍ وجامِ
ما على مغتربي أهل ودار / إنْ أدارا ها هنا كأس مدامِ
آه هاتيها كخدّيكِ نقيّهْ /
واسقنيها أنت يا أندلسيَّهْ /
واحتوتنا بَين لحن مطرب / حانةٌ مِثلُ أساطيرِ الزَّمانِ
صوّرتْ جدرانُها بالذَّهبِ / فتنَ العشق وأهواءَ الحسانِ
قالت اشربْ قُلتُ لبّيكِ اشربي / مِلءَ كأسين فإنّا ظامئانِ
خمرةً روميةً أو بابليهْ /
إِسقنيها أنتِ يا أندلسيَّهْ /
هتفتْ بي ويداها في يدي / تدفع الكأسَ بإغراءِ وعُجْبِ
أيُّ قيثارٍ شجيٍّ غرِدِ / خلتُهُ ينطق عن أسرار قلبي
قلتُ طِفلٌ من قديم الأبد / يمزُجُ الألحانَ مِن خمر وحُبِّ
ملء كأس في يديهِ ذهبيّهْ /
فاسقنيها أنتِ يا أندلسيَّهْ /
ومضى الليلُ ونادى بالرواحِ / كلُّ خَالٍ وتعايا كلُّ ضبِّ
وخبا المصباحُ إلَّا كأس راحِ / نورُهُ ما بين إِيماضٍ ووثبِ
قد تحدَّى وهْجُهُ ضوءَ الصباح / فبقينا حوله جنباً لجنبِ
نتساقاها على الفجر نديّهْ /
وأغني أنت يا أندلسيَّهْ /
يا عروسَ الغرب يا أندلسيّهْ / بعُدَتْ داركِ والصيف دنا
أين أحلامُ الليالي القمريهْ / والبحيراتُ مُطيفاتٌ بنا
إِذكري بين الكؤوس الذهبيَّه / حانةً يا ليتها دامت لنا
حين أدعوكِ صباحاً وعشيّهْ /
إِسقنيها أنتِ يا أندلسيَّهْ /
قالتْ تُعاتبُني أراكَ مَنَعْتني
قالتْ تُعاتبُني أراكَ مَنَعْتني / من قطفِ هذي الوردة الصفراءِ
وبسحرِ هذا اللون كم غنَّيتَني / وهتفتَ بالشقراءِ والصهباءِ
قلتُ اغفري لي يا حبيبةُ نظرتي / إِني أعيدُ الحسنَ من أهوائي
أخشى ظنونَ الناس فيكِ وأتقي / سِمَةَ الضَّنى والغيرة الحمقاءِ
وأذود عَنْ عينيكِ ذكرى ليلةٍ / شابتْ ونجمٍ شاحبِ الأضواءِ
في لونِ خدَّيْكِ اقطِفِي ما شِئتِهِ / من زهرةٍ أو كوكبٍ وضّاءِ
قالتْ أتمنعني الذي أحببتُهُ / في نظرةٍ لكَ وادِّكارِ وفاءِ
في عرضِكَ الماضي ونبشِكَ ما ذوى / من ذكرياتِ شبيبةٍ هوجاءِ
وبسخرياتكَ بي وبسمتِكَ التي / تلقى بها المفضوحَ من إِغوائي
وشحوبِ وجهكَ إِن أرِقتَ صبابةً / حيرانَ بين قطيعةٍ ولقاءِ
تمهَّلي فراشةَ الصَّباحِ
تمهَّلي فراشةَ الصَّباحِ / أسرَفتِ في الغُدوِّ والرَّواحِ
ماذا ارتيادُ الطُّرُقِ الفِساح / والوثبُ فوق العُشبِ والصُّفاحِ
بين الرّوابي الخُضرِ والبطاح / بالشَّعرِ المهدَّلِ السبَّاحِ
كالموج تحت العاصفِ المجتاح / والنهدِ وهو مُطلَقُ السّراحِ
يخفقُ بين الصدر والوشاح / والساق خَلفَ الساقِ في كفاحِ
في حَلقَةٍ طاغيةِ الجماحِ / تدور مثل البارقِ اللّمّاحِ
تودُّ لو طارتْ مع الرياحِ / وحلَّقتْ في كبدِ الصُّراحِ
بلطفِ هذا الجسدِ الممراحِ / وخفَّةٍ في روحكِ الصّداحِ
تكادُ تُغنِي الطيرَ عن جَنَاحِ / يا لهواءٍ عابثٍ مفراحِ
سكرانِ لا من خمرة الأقداحِ / بَلْ من صِباكِ والصِّبا كالرّاحِ
يرفعُ طرف الثوب في مزاحِ / لا يستَحِي من لائمٍ ولاحي
قد أذنَ الفخذين بافتضاحِ / ونمَّ عن خميلةِ التُّفاحِ
فوق كثيبِ الورد والأقاحي / أخشى على حُسنهما الوضّاحِ
عينُ اشتهاء ويَد اجتراحِ / بل صرتُ أخشى ثورةَ الأرواحِ
في مثل هذا الحرم المُباح / ودِدْتُ لو بالروح أو بالرَّاحِ
صُنتُهُما حتّى عن الصباحِ /
دَعوها مُنىً واتركوهُ خيالا
دَعوها مُنىً واتركوهُ خيالا / فما يعرف الحقُّ إلا النِّضالا
بني الشرق ماذا وراءَ الوعودِ / نطِلُّ يميناً ونرنو شِمالا
وما حكمةُ الصَّمْتِ في عالمٍ / تضجُّ المطامعُ فيهِ اقتتالا
زمانكمو جَارحٌ لا يعِفُّ / رأيتُ الضعيفَ به لا يوالى
ويومكمو نُهْزَةُ العاملين / ومضيعةُ الخاملين الكسالى
خَطا العلمُ فيه خُطى صائدٍ / توقَّى المقادرُ منه الحِبالا
توغَّل في ملكوت الشعاع / وصاد الكهاربَ فيه اغتيالا
وحزَّبها فهيَ في بعضها / تُحطِّمُ بعضاً وتلقي نَكالا
رمى دولةَ الشمس في أوْجها / فخرَّت سماءً ودُكَّتْ جِبالا
مدائِنُ كانت وراءَ الظنونِ / ترى النَّجْم أقرب منها منالا
كأن سليمانَ أخلَى القماقمَ / أو فَكَّ عن جنهنَّ اعتقالا
وأوْما إِليها فطاروا بها / مَدى اللمح ثُمَّ تلاشتْ خيالا
ففيمَ وقوفكمو تنظرون / غُبارَ المجلِّي يَشُقُّ المجالا
وحتَّامَ نشكو سواد الحظوظ / ومن أفقنا كلُّ فجرٍ تلالا
ألسنا بني الشرقِ مِن يَعْرُبٍ / أصولاً سَمَتْ وجباهاً تعالى
أجئنا نُسائلُ عطفَ الحليف / ونرقبُ منه الندى والنوالا
نصرناهُ بالأمس في محْنةٍ / تَمادى الجبابرُ فيها صِيالا
سبحنا إليه على لُجّةٍ / من النار لم نُذْكِ منها ذُبالا
فكيف تَناسى حَواريَّهُ / غداةَ السَّلام وأغضى ومالا
أردّ الحقوق لأربابها / وأعفاهمو من طلابٍ سؤالا
ورفَّتْ على الأرض حُريَّةٌ / تألَّقُ نوراً وتَنْدى ظلالا
نَبيَّ الحقيقةِ كم قُلْتَ لي / بربك قُلْ لي وزِدْني مقالا
رأيتُكَ أندى وأحنى يداً / على أمم جَشَّمتكَ النزالا
فما لك تقسو على أمَّةٍ / سَقَتكَ الوداد مُصفّىً زُلالا
وعَدتَ الشعوب بحقِّ المصير / فما لك تقضي وتُملي ارتجالا
أتُغصَبُ من أهلها أرضهُم / وتُسْلمُ للغير نهباً حلالا
أليستْ لهم أرضُهم حُرَّةً / يسودون فيها الدهورَ الطوالا
فلسطينُ ما لي أرى جُرحَها / يسيلُ ويأبى الغداةَ اندمالا
تنازعُها حيرةُ الزَّاهدين / وتنهشها شَهَواتٌ تقَالى
أعزَّتْ أُساتَكَ أدواؤُها / هو الحقُّ ما كان داءً عُضالا
هو الحقُّ إنْ رمتمو عالماً / يشفُّ صفاءً ويزكو جمالا
أقيموا عليه مودَّاتكم / وإلَّا فقد رمتموهُ مُحالا
فيا للبريئةِ ماذا جَنَتْ / فتحملُ ما لا يُطاقُ احتمالا
هي الشرقُ بل هي من قلبِهِ / وشائجُ ماضٍ تأبَّى انفصالا
وتاريخ دنيا وأمجادُها / بنى رُكنَها خالدٌ ثم عالى
وعى الحقُّ للمصطفى دعوةً / لنُصرتها والعوادي توالى
تبارى لها المسلمونَ احتشاداً / وهبَّ النصارى إِليها احتفالا
من الشام والأرز والرافدين / وأقصى الجزيرة صحباً وآلا
وإِفريقيا ما لإِسلامها / يُسامُ عبوديةً واحتلالا
على تونس وبمرّاكشٍ / تروح السيوفُ وتغدو اختيالا
ألم تخْبُ في الأرض نارُ الحروبِ / ويلقَ الطغاةُ عليها وبالا
ألم يَتَغَيَّرْ بها الحاكمون / ألم تَتَبَدَّلْ من الحال حالا
هُمُ العربُ الصِّيدُ لا تحسبنَّ / بهم ضَعَةً أو ضنىً أو كلالا
نماهُمْ على البأس آباؤهم / قساورةً وسيوفاً صِقالا
بُناةُ الحضارةِ في المشرقينِ / ذُرىً يَخشَعُ الغرْبُ منها جلالا
ألا أيها الشامخُ المطمئن / رويداً فإِن الليالي حَبَالى
وما لكَ تنسى على الأمسِ يوماً / به كاد مُلكُك يلقى زوالا
فتقذفُ بالنار سوريةً / وترمي بلبنان حرباً سجالا
شبابَ أُميَّةَ طوبى لكم / أقمتم لكلِّ فِداءٍ مِثالا
دعتكم دمشقُ فما استنفرتْ / سوى عاصفٍ يتخطّى الجبالا
وفي ذِمَّةِ المجد من شيبكم / دمٌ فوق أروقة الحقِّ سالا
بني الشرق كونوا لأوطانكم / قُوىً تتحدَّى الهوى والضلالا
أقيموا صدوركمو للخطوبِ / فما شطَّ طالبُ حقٍّ وغالى
فزِعتُ لكم من وراءِ السقام / وقد جَلَّلَ الشَّيْبُ رأسي اشتعالا
وما إنْ بكيتُ الهوى والشبابَ / ولكنْ ذكرتُ العُلى والرجالا
فلسطينُ لا راعتكِ صيحةُ مُغتالِ
فلسطينُ لا راعتكِ صيحةُ مُغتالِ / سلمْتِ لأجيالٍ وعشتِ لأبطالِ
ولا عزّكِ الجيلُ المُفدّى ولا خبتْ / لقومكِ نارٌ في ذوائبِ أجبالِ
صَحَتْ بادياتُ الشرق تحت غبارهم / على خلجات الرّوح من تُربِكِ الغالي
فوارسُ يَسْتهدي أعِنَّةَ خيلهم / دمُ العرب الفادين والسؤددُ العالي
بكلِّ طريقٍ منه صخرٌ مُنضَّرٌ / وكلِّ سماءٍ جمرةٌ ذاتُ إِشعالِ
هو الشرقُ لم يهدأ بصبحٍ ولم يَطِبْ / رقاداً على ليلٍ رماكِ بزلزالِ
غداةَ أذاعوا أنَّكِ اليوم قسْمةٌ / لكلِّ غريبٍ دائم التِّيهِ جوَّالِ
قضى عمره جمَّ المواطن واسمُهُ / مواطنُها ما بين حلٍّ وترحالِ
وما حلَّ داراً فيكِ يوماً ولا هفتْ / على قلبه ذكراكِ من عهد إِسرَالِ
محا اللّه وعداً خطَّهُ الظلمُ لم يكنْ / سوى حُلُم من عالم الوهم ختَّالِ
حمَتْهُ القنا كيما يكون حقيقةً / فكان نذيراً من خطوبٍ وأهوالِ
وفتَّحَ بين القوم أبوابَ فتنةٍ / تُطِلُّ بأحداث وتُومِي بأوجالِ
أراد ليمحو آيةِ اللّه مثلما / أراد ليمحو الليلُ نُورَ الضحى العالي
فيا شمسُ كُفِّي عن مداركِ واخمدي / ويا شهب غُوري في دياجير آجالِ
ويا أرضُ شُقِّي من أديمكِ وارجعي / كما كنتِ قبل الرُّسْل في ليلكِ الخالي
ضلالاً رأوا أن يسلوَ الشرقُ مجده / وما هو بالغافي وما هو بالسَّالي
ألا يا ابنةَ الفتح الذي نوَّرَ الثرى / وطهَّرَ دنيا من طُغاةٍ وضُلَّالِ
وأكرمَ قوماً فيكِ كانوا أذِلَّةً / فحرَّرهم من بعد رِقٍّ وإِذلالِ
لكِ الشرقُ يا مهد القداسة والهُدى / قلوباً تُلبِّي في خشوعٍ وإِجلالِ
لكِ الشرقُ يا أرضَ العروبة والعلى / شعوباً تُفدِّي فيك ميراثَ أجيالِ
وما هو من مستعمرٍ جاءَ بالهوى / ولا هُوَ من مستثمرٍ جاءَ بالمالِ
هو الشرقُ أَلقى عن يديهِ قيودَه / فلا تحسبيهِ في قيودٍ وأغلالِ
سَلِيهِ تَهِجْ ما بين عينيكِ أرضُهُ / مخالبَ نسرٍ أو براثنَ رئبالِ
سَلِيهِ يمُجْ ما بين سمعيكِ أُفقُهُ / زئيرَ أسودٍ أو زماجرَ أشبالِ
سَلِيهِ الدمَ المهراقَ يَبذُلهُ غالياً / ويضربْ به في الحقِّ أروعَ أمثالِ
ألا أيُّها الشادي الذي أطربَ الورى / بحلو حديثٍ عن حقوقٍ وآمالِ
وقال لنا في عالمِ الغدِ جَنَّةٌ / غزيرةُ أنهارٍ وريفةُ أظلالِ
سمعْنا خُدِعْنا وانتبهنا فحسبُنا / لقد مَلَّتِ الأسماعُ قيثارك البالي
ويا أيُّها الغربُ المواعدُ لا تزِدْ / كفى الشرقَ زاداً من وعودٍ وأقوالِ
شبعا وجعنا من خيال مُنَمّقٍ / ومنه اكتسينا ثم عُدْنا بأسمالِ
فلا تندبِ الضَّعفى وتغصبْ حقوقهم / فتلكَ إذاً كانت شريعة أدغال
حَيَّتْكَ في الشرق آمالٌ وأحلامُ
حَيَّتْكَ في الشرق آمالٌ وأحلامُ / وقبّلتكَ جراحاتٌ وآلامُ
واستقبلتكَ على الوادي وضفَّتِهِ / عروبةٌ وثبَتْ فرْحَى وإِسلامُ
وحِقْبةٌ من جهادٍ أشرقتْ وهَفَتْ / بها ليالٍ من الذكرى وأيامُ
تعانق العائدَ المنفيَّ في بلدٍ / حِماهُ للحرِّ إِعزازٌ وإِكرامُ
ديارُ فاروق من يلجأ لساحتها / فقد حَمَتهُ من الأحداث آجامُ
يطيب للعربيِّ المستجيرِ بها / معاشُهُ ويرقُّ الماءُ والجامُ
ويحطم القلمُ العاني بحومتها / أصفادهُ ويفكُّ القيدَ ضرغامُ
يا أيها البطل الصنديدُ جئتَ بما / تحدثتْ عنه أدهارٌ وأقوامُ
هَزَّتْ فلسطينَ أنباءٌ يطير بها / برقٌ على جنباتِ الليل بسَّامُ
عادتْ لها ذكرياتُ الأمس وانبعثتْ / بها صحائفُ من نور وأقلامُ
وأنفُسٌ قرشيّاتٌ يُطرِّبها / صوتٌ يرنُّ به رمحٌ وصمصامُ
نصَّتْ على الليل آذاناً تُغازلها / من صوتك الجهوريِّ العذب أنغامُ
قد أقسمتْ لا ينال الدارَ مغتصبٌ / حتَّى وإنْ شرقتْ بالنار أعلامُ
في اللّه في الحقّ في الإِسلام كلُّ دمٍ / يسيل فيها وجُرحٍ ليس يلتامُ
ظنُّوكَ أُقصِيتَ عنها فهي نائمةٌ / وكيف هل في ربوع القدس نُوَّامُ
وتلك أطماعهم في كلِّ ناحية / السيفُ منهن فوق الخلق قوَّامُ
قالوا غدرتَ ولم أفهمْ لمنطقهم / حكماً ولكنما للقوم أحكامُ
أفي دفاعكَ عن أهلٍ وعن وطنٍ / غدر إذنْ فجهادُ الظلم إجرامُ
قالوا هو الحقُّ ما نسعى لنُصْرتِهِ / يا بُؤسَهُ كم هوانٍ أهلهُ ساموا
يا شرقُ يا شرقُ لا تخدعكَ دعوتهُم / واقبض يداً فحديثُ الحقِّ أوهامُ
أكان غيرَ عيونِ الزَّيتِ دافقةً / من قلبكَ الغضِّ يُجريهن سجّامُ
وكان غير أنابيبٍ يحوط بها / ضلوعَ صدركَ قهّارٌ وظلَّامُ
قد قسّموكَ مطاراتٍ وما عملوا / إلَّا لحربٍ لها في الكون إِضرامُ
أكُنتَ غيرَ الفدى في غير تضحيةٍ / إن هم عليكَ بسربٍ للردى حاموا
يا شرقُ سَلْ بالحسينيِّ الذي صنعوا / واسمعْ لحقِّكَ لا يخدعْكَ هدَّامُ
سلهم عن الشَّرف الموعود كم غدروا / به كم اجتُرِحَتْ في السلم آثامُ
وأنت يا أيُّها الفادي عُرُوبَتهُ / إِسلمْ فديتكَ لا غبنٌ ولا ذامُ
جهادك الحقُّ مظلوماً ومغترباً / وحيٌ لكلِّ فتىً حُرٍّ وإِلهامُ
أَخي إن وردتَ النِّيلَ قبل ورودي
أَخي إن وردتَ النِّيلَ قبل ورودي / فحيِّ ذمامي عندَهُ وعُهُودي
وقبِّلْ ثرىً فيه امتزجنا أُبوَّةً / ونُسلِمُهُ لابنٍ لنا وحفيدِ
أخي إنْ أذانُ الفجر لبَّيتَ صوته / سمِعْتَ لتكبيري ووقعِ سجودي
وما صُغْتَ قولاً أو هتفتَ بآيةٍ / خَلا مَنطقي من لفظها وقصيدي
أخي إنْ حواكَ الصبحُ ريَّانَ مشرقاً / أفقْتُ على يومٍ أغرَّ سعيدِ
أخي إن طواكَ الليلُ سهمانَ سادراً / نبا فيه جنبي واستحالَ رقودي
أخي إنْ شربتَ الماءَ صفواً فقد زكتْ / خمائلُ جنَّاتي وطاب حصيدي
أخي إنْ جفاكَ النهرُ أو جفَّ نبعُهُ / مشى الموتُ في زهري وقصَّفَ عودي
فكيف تُلاحيني وألحاكَ إنني / شهيدكَ في هذا وأنتَ شهيدي
حياتُكَ في الوادي حياتي فإِنما / وُجُودك في هذي الحياة وجودي
أخي إنْ نزلتَ الشاطِئيْن فسَلهما / متى فصلا ما بيننا بحدودِ
رَماني نذيرُ السُّوءِ فيكَ بنبأةٍ / فجَلَّلَ بالأحزان ليلة عيدي
وغامتْ سمائي بعد صفوٍ وأُخرِستْ / مَزاهرُ أحلامي وماتَ نشيدي
غداةَ تمنَّى المستبدُّ فِراقنا / على أرضِ آباءٍ لنا وجدودِ
وزفَّ لنا زيْفَ الأماني عُلالةً / لعلَّ بنا حُبَّ السيادة يُودي
أُخُوَّتُنا فوق الذي مان وادَّعى / وما بيننا من سيِّدٍ ومسودِ
إذا قال الاستقلالُ فاحذره ناصباً / فِخاخَ احتلال كالدهورِ أبيدِ
وكم قبْلُ منَّاني على وفرِ ما جَنَى / بحربين من زرعي وضَرْع وليدي
فلما أتاهُ النصرُ هاجَتهُ شِرَّةٌ / فهمَّ بنكراني ورامَ جُحُودي
ألا سَلهُ ماذا بعد سبعين حِجةً / أأنجز من وعدٍ أفكَّ قيودي
يُبَدِّلُني قيداً بقيدٍ كأنه / مدى الدهر فيها مُبدِئِي ومُعيدي
أخي وكلانا في الأسار مكبَّلٌ / نجُرُّ على الأشواكِ ثُقْلَ حديدِ
إذا لم تُحرِّرنا من الضيم وحدَةٌ / ذَهَبْنا بشملٍ في الحياة بديدِ
وما مصرُ والسودانُ إلَّا قضيَّةٌ / مُوحَّدَةٌ في غايةٍ وجهودِ
سَئمنا هُتافَ الخادعين بعَالمٍ / جديدٍ ولمَّا يأتِنا بجديدِ
وجفَّتْ حشاشاتٌ وُعِدْنَ بمائِهِ / فلما دَنَا أَلفَتْ سرابَ وعودِ
وطال ارتقابُ الساغبين لنارِهِ / على عاصفٍ يرمي الدُّجى بجليدِ
إِذا يَدُنا لم تُذْكِ نارَ حياتنا / فلا تَرْجُ دِفئاً من وميضِ رعودِ
إذا يَدُنا لم تَحْمِ نَبْعَ حياتنا / سرى رِيُّهُ سمّاً بكلِّ وريدِ
سيُجْريهِ ما شاءَتْ مطامعُ قومِهِ / ويحبسُهُ ما شاءَ خَلْفَ سدودِ
وكيف ينام المضعفون وحوْلهم / ظِماءُ نسورٍ أو جياعُ أسودِ
أخي هل شَهِدْتَ النيلَ غضبان ثائراً / يَرُجُّ من الشطآن كلّ مشيدِ
جرى من مَصَبَّيْهِ شُواظاً لنبعِهِ / على نفثاتٍ من دمٍ وصديدِ
وجنَّاتِ نَخْلٍ واجماتٍ كواسفٍ / وأسرابِ طير في الفلاةِ شريدِ
لدى نبأٍ قد رِيعَ من حمله الصَّدى / وضجَّ لهُ الموتى وراءَ لُحودِ
جنوبُكَ فيه والشمال تفزّعا / لتشتيتِ أهلٍ وانقسامِ صعيدِ
أحال ضياءَ الصبح حوليَ ظُلمةً / بها الحزنُ إلْفِي والهناءُ فقيدي
وسَعَّرَ أنفاسي فأطلقتُ نارَها / على الظالِمِ الجبَّار صَوْتَ وعيدِ
أرادكَ مفصومَ العُرى وأرادني / بهدْمِ إِخاءٍ كالجبال مشيدِ
ليأكلَنا من بَعْدُ شِلواً ممزَّقاً / كَطَيرٍ جريحٍ في الشِّباك جهيدِ
تَحايُلُ شيطانِ الأساليب لم يَدَعْ / مجالاً لشيطانٍ بهنَّ مَريدِ
على النيل يا ابن النيل أطلِقْ شراعَنا / وقُلْ لِلياليهِ الهنيّةِ عودي
وأرسلْ على الوادي حمائمَ أيكه / برنّة ولْهى أو شكاة عميدِ
وقل يا عروسَ النبع هاتي من الجنى / ودوري عَلَيْنا بالرحيق وجودي
وَهُبِّي عذارى النخل فرعاءَ وارقصي / بخُضْرِ أكاليلٍ وحُمْرِ عقودِ
ألا يا أخي واملأ كؤوسَ محبَّةٍ / مُقدّسَةٍ موعودةٍ بخلودِ
إذا هي هانتْ فانْعَ للشمس نورَها / وللقمر الساري بروجَ سعودِ
وقُلْ يا سماءَ النيل ويحكِ اقلعي / ويا أرضُ بالشُّمِّ الرواسخ مِيدي
وغيضي عيونَ الماءِ أو فتفجَّري / لَظىً وإِنِ اسطعتِ المزيدَ فزيدي
هَوىً لكِ فيهِ كلُّ ردىً يُحَبُّ
هَوىً لكِ فيهِ كلُّ ردىً يُحَبُّ / فديتُكِ هل وراءَ الموت حُبُّ
فديتُك مصرُ كلُّ فتىً مشوقٌ / إليكِ وكلُّ شيخٍ فيكِ صَبُّ
ويحلُمُ بالفِدَى طفلٌ فطيمٌ / وكلُّ رضيعةٍ في المهدِ تحْبو
أراك وأينما ولَّيتُ وجهي / أرى مُهَجاً لوجهك تشرئبُّ
وأرواحاً عليكِ محوِّماتٍ / لها فوق الضِّفافِ خُطىً ووثبُ
عليها من دمِ الفادين غارٌ / له بيديكِ تضفيرٌ وعَصْبُ
حَمتكِ صدورُها يومَ التَّنادي / ووقَّتكِ الليالي وهي حَرْبُ
إذا رامتكِ عاديةٌ وشقّتْ / فضاءَكِ غيلةً ورماكِ خَطبُ
دَعَتْ بالنَّهر فهْوَ لظىً ووقدٌ / وبالنَّسماتِ فهي حصىً وحصْبُ
وبالشجر المنوِّر فهو غيلٌ / وكلُّ غُصونِهِ ظُفرٌ وخُلْبُ
حقائقُ عن يدِ الإِيمانِ ترمي / صواعقَ ومضُها رُجْمٌ وشُهْبُ
لها في مهجة الجبّار فتكٌ / وفي عينيهِ إِيماضٌ وسكْبُ
صنائعُ كالغنائيَّات يَشدُو / بها شرقٌ ويُلقي السمعَ غربُ
ويُبْعثُ في الحياةِ على صداها / فراعنُ أو حواريُّون عُرْبُ
أهلُّوا بالصباحِ فثمَّ ركبٌ / تموجُ به الضِّفافُ وثمَّ ركبُ
بأرواحٍ مجنحةٍ نشاوى / إِليكِ بكلِّ جارحةٍ تدبُّ
لقد بُعثتْ من الأحقابِ مِصرٌ / أَجل بُعِثت وهبَّ اليوم شعْبُ
توحَّدَ في الزعامة فهو فردٌ / وأُفرِدَ بالأمانةِ فهو صُلْبُ
فيا لكِ مِصرُ ما لجلالِ أمسٍ / عَلَتْهُ غَبَرةٌ وطوتهُ حُجْبُ
وأُبهِمَ فهو رجْعُ صدىً وطيفٌ / بعيدٌ ليس يستجلِيهِ قُرْبُ
دَوت ريّاً ملامحهِ وحالتْ / مناقبهُ فهنّ أذىً وثلبُ
أكان دمُ الفدائيِّينَ صِدْقاً / وأصبَحَ وهو بعدَ الأمسِ كذْبُ
فيُهدمُ ما بنى ويقالُ شادوا / وتُصدعُ وَحْدَةٌ ويُقال رأبُ
علامَ إِذنْ أُريقَ بكلِّ وادٍ / فأوْرقَ مُجدِبٌ وأنارَ خِصْبُ
وجاد به شبابٌ عبقريٌّ / وولدانٌ كفرخِ الطَّيرِ زُغْبُ
أحقّاً ما يُقال شيوخُ جيلٍ / على أحقادهم فيه أكبُّوا
وكانوا الأمسِ أرسخَ من جبالٍ / إذا ما زُلزلَتْ قِممٌ وهُضْبُ
فمالهمو وَهَتْ منهم حُلومٌ / لها بيدِ الهوى دَفْعٌ وجَذْبُ
أأرحامٌ مقطَّعَةٌ وأرضٌ / تَعادى فوقَها أهلٌ وصَحْبُ
وأسواقٌ تُباع بها وتُشْرى / ضمائرُ هُنَّ للأهواءِ نَهْبُ
يطوف بها النِّفاقُ وفي يديه / صحائفُ أُفْعمتْ زوراً وكُتْبُ
يكاد الليلُ أن يَنْسى دُجاهُ / إذا نُشِرَتْ ويأخذَ منه رُعْبُ
تعالوا يا بني قومي تعالوا / إلى حقٍّ وحَسْبُ الشعبِ حَسْبُ
هو الدستور منه جَنىً قطفْنا / ونهرُ حياتنا ملآنُ عَذْبُ
فما للشَّرْبِ والجانينَ ثاروا / عليه بعد ما طَعموا وعَبُّوا
فأُهْدِرَ مَرَّةً وأُبيحَ أخرى / وعِيبَ وما له عيبٌ وذنبُ
إذا ما الأكثريةُ فيه فازتْ / تحرَّكتِ الدسائسُ وهي إِلْبُ
وإن هيَ حورِبَتْ عنه وذيدَتْ / تحدَّثَ باسمِهِ فَرْدٌ وحِزْبُ
عجائب لم تقَعْ إلَّا بمصر / وأحداثٌ لهن يَطيش لُبُّ
تَعالوا يا بَني قوْمي إليْهِ / فما في حُكمِهِ قَسْرٌ وغَصْبُ
وما هو أسْطُرٌ كُتِبَتْ ولكنْ / معان في القلوب لهنَّ عَلْبُ
تحررتِ الشعوبُ فكلُّ شعبٍ / طليقٌ والمجال اليوم رَحْبُ
وَهَبّتْ في نواحي الأرضِ دُنيا / لحقٍّ يُجتَبَى ومُنىً تُلَبُّ
أنلعبُ والزمانُ يقول جدُّوا / ونرقدُ والحياةُ تصيحُ هُبُّوا
فلا تقفوا بحريَّاتِ شَعْبٍ / وآمالٍ له للمجدِ تصْبو
فما تثني خُطى شعبٍ طموح / زعازعُ في ظلامِ الليل نُكْبُ
إذا عصفتْ تلقَّاها بصدرٍ / وراءَ ضلوعِهِ نارٌ تُشَبُّ
سألتكمو اليمينَ وحُبّ مصرٍ / ألم يخفِقْ لكم بالحب قلبُ
إذا عَبَسَ الزمانُ لمصرَ أوْمَتْ / إلى الفاروقِ وهيَ رضىً وحبُّ
فقبَّلها وظلَّلها هواهُ / وندَّى قلبَها والعيشُ جَدْبُ
وباسمكَ أيها الملكُ المفدّى / تَقَشَّعُ غُمَّةٌ ويزولُ كَرْبُ
وباسمكَ لا يُضامُ لمصرَ حَقٌّ / وباسمكَ لا يُضارُ بمصرَ شَعْبُ
وباسمكَ من عُضالِ الداءِ تُشْفَى / وباسمكَ كلُّ داءٍ يُسْتطبُّ
بحقِّ عُلاكَ وهو هُدىً ونورٌ / وحقِّ هَواكَ وهو عُلاً وكسْبُ
إليكَ توجّهَتْ بالروحِ مصرٌ / وأنتَ لمصرَ بعد اللّه ربُّ
لقاؤكما قد كان حُلمَ زماني
لقاؤكما قد كان حُلمَ زماني / وعهدُكما للشرق فجرُ أماني
ولا عهدَ إلَّا للعروبة والعُلى / لقلبَينِ في كفَّين يعتنقانِ
تُحدِّثني عيني وقد سِرتُما معاً / حبيبانِ سارا أم هما أخوانِ
ويسألني قلبي وقد لاح موكبٌ / من الأحمر اللجيِّ أشرقَ داني
على ملكيٍّ من شراعٍ ولُجَّةٍ / تطامنُ في صفوٍ له وأمانِ
تناسمه بين العشيَّات والضُّحَى / سرائرُ منْ أرضِ الحجازِ حواني
وأفئدةٌ من أرضِ مصرَ مشُوقةٌ / شواخصُ في الثغر المشوق رواني
إلى أُفُقٍ فيه من الروحِ هزَّةٌ / وفيه مِنَ الوحي القديمِ مَعاني
أتسألُ يا قلبي وأنت بجانبي / وكيْفَ ألم تعلم من الخفقانِ
وأنت الذي تُصغي وأنت الذي ترى / وتُنطِقُ مني خاطري ولساني
ومنك الذي أوحى إليَّ فهزَّني / وفجَّر شعري مِن سماءِ بياني
أنالَ جلالُ اليوم منك فخِلتَهُ / رُؤى يقظةٍ بل ذاك رأيُ عيانِ
هو الملكُ الفاروقُ في موقف الهدى / تسير إليه الفلكُ دون عنانِ
يؤمُّ بها ربُّ الجزيرة مصره / وما هيَ إلَّا فرحةٌ وأغاني
هما عاهلا الشرق العريق وركنُهُ / هما حِصنُهُ الواقي من الحدثانِ
هما الحبُّ والإِيمانُ والمجدُ والنّدى / تمثّلَ في آياتها ملكانِ
سلاماً طويلَ العمر مصرُ تبُثُّهُ / بأعذبِ ما رفَّتْ به شَفَتَانِ
وللنِّيل أمواجٌ يثبنَ صبابةً / بأفراح دورٍ فوقهُ ومغاني
تجلّى طرازاً في لقائكَ مُفرداً / رفارفَ خُضراً في ظلالِ جنانِ
يُحيّي بكَ الشعبَ الحجازيَّ شعبُهُ / وفيكَ يُحيِّي القِبلةَ الهَرَمانِ
تساءَل فيها الصاحبان وقد بَدَتْ / مخاضرها من لُؤلؤٍ وجمانِ
وآفاقُها مكيّة النور والشّذى / يُضئْنَ بأقمارٍ بهنَّ حِسانِ
جلاها المساءُ القاهريُّ صباحةً / تغايرَ في لألائها القمرانِ
سعوديةَ الإِشراق تُزهَى بنورها / مطالع فاروقيةُ اللّمعانِ
أَفي مصرَ أَم بطحاء مكة يومُنا / هُنَا وطنٌ أَم هَهُنَا وطنانِ
وتلكَ قطوفُ النِّيل دانيةَ الجَنَى / أَم أن قطوفاً للرياضِ دواني
هوىً لكَ يا عبد العزيز أصارها / وما اختلفتْ في صورةٍ ومكانِ
وأنت أخو الفاروق دارك دارُه / على الرَّحبِ والدّاران تلتقيانِ
فإِن تذكر الأوطانَ والأهلَ عندها / فما مصرُ إلَّا موطنٌ لكَ ثاني
وما هي إلَّا أمَّةٌ عربيَّةٌ / مُوحَّدَةٌ في فكرةٍ ولسانِ
أَيُنْصِتُ لي الضيفُ العظيمُ هنيهةً / ويسمع لي الفاروقُ صوتَ جناني
يقولون نارُ الحرب في الغرب أُخمِدتْ / فما لي أرى في الشرق سُحْبَ دخانِ
مَشَتْ بالشتاءِ الجهم فوق تخومه / برعْدِ حسامٍ والتماعِ سنانِ
بإِيرانَ صيحاتٌ وفي الشام ضجة / وفي القدس جمرٌ مُوشكُ الثَّورانِ
وفي الساحل الغربيِّ من آل طارقٍ / جريحا إِباءٍ في دمٍ غرِقانِ
طماعيةٌ فيه أزالتْ قناعها / وما سترتْ وجهاً لها ببنانِ
رمتْ عن يدٍ قفَّازَها وتحفَّزَتْ / مخالبَ ضارٍ أو براثنَ جاني
فإِن قيل هذا مجلسُ الأمنِ فاسألوا / علام تضجُّ الأرض بالشّنآنِ
وفيمَ دعاة السَّلْمِ طال حديثهمْ / على غير معنىً من رِضىً وأمانِ
وأُبْهِمَ حتى بانَ كالظلِّ طامساً / ودَاوَر حتى راغَ في الدَّوَرَانِ
أرى اليوم مثل الأمس صورةَ غاصبٍ / وإِن حُوِّرَتْ في صبغةٍ ودهانِ
إليكم ملوكَ الشرق كم عن مقالةٍ / ثناني حيائي والوفاءُ دَعاني
أشَدتُ بما شِدتم فرادى وكلكم / يُفاخر جيلٌ بالذي هُو باني
أناشدكُمْ والشرقُ بينَ مطامعٍ / تُهددهُ في حوزةٍ وكيانِ
فهلَّا جمعتم أمره واستعنتمو / بكلِّ فتىً بالطّيبات مُعانِ
أرى حُلفاء الأمْس لم يَحْفِلوا به / وما زال من خُلْفِ الوعودِ يعاني
وما قرَّ في ظلِّ السلام بحقِّهِ / ولا فازَ من حريَّةٍ بِضمانِ
وتلْكَ أمانيهِ على عَتباتهم / مطرَّحةٌ في ذِلَّةٍ وهوانِ
أنقنع من حقٍّ وجامعةٍ له / بجمعٍ يديرُ الرأيَ حولَ خوانِ
وليس لها من قُوَّةٍ غير ألْسنٍ / وأقلام كُتّابٍ وسحرِ بَيانِ
وماذا يفيد الرأيُ لا سيفَ عنده / وماذا يُصيب القولُ يوم طعانِ
على البأس فابنوا رُكْنَها وتأهَّبوا / بمستقتلٍ مِنْ حولها مُتفاني
تلاقى به راياتُ كلِّ شُعوبهِ / وأسيافُهم من صُلْبةٍ وِلدان
كأمواج بحرٍ زاخرٍ متلاطمٍ / ينابيعُهُ شتَّى ذُرىً ورِعانِ
ضَمِنْتُ بكمْ مَجْدَ العروبةِ خالداً / على كرِّ دهرٍ واختلافِ زَمانِ
أتدري الريحُ من ملكتْ زمامهْ
أتدري الريحُ من ملكتْ زمامهْ / تشقُّ الغربَ أو تطوي ظلامهْ
هَفَتْ للشرق فاختلجتْ جناحاً / بهِ واستقبلت لثماً غمامهْ
وقيلَ دنا وحوَّم فاشرأبّتْ / ضفافُ النيل تستهدي حِيامَهْ
وعانقه الصباحُ على رُباها / غضيضَ الطَّرفِ لم ينفضْ منامهْ
يضيء بورده الأزليِّ أُفقاً / تُظلِّلهُ الرعايةُ والسلامهْ
وواكبَهُ على سيناءَ برقٌ / بعينِ الملهمين رنا فشامهْ
تمثَّلَ إذْ تألّقَ ذكرياتٍ / وأمجاداً مشهّرةً مُسامهْ
لمحتربٍ مِنَ الأبطال فادٍ / يخاف الدهرُ أن يَلقى عُرامهْ
حواريٌّ على كفّيهِ قلبٌ / أَبى غيرَ الشهامة والكرامهْ
نحيفٌ مِن شُراةِ الخلد يحمِي / تراثَ الشرق أو يرْعى ذمامهْ
كسَتهُ خُشنةً غِيرُ الليالي / وسلَّتْ عزمه وجلتْ حُسامهْ
أَشدّ على قواضبها مراساً / وأَنفذ مِن مضاربها هُمامهْ
أَقام على الفلاة طريدَ ظلمٍ / وذِيدَ فما أطاق بها مقامهْ
وبايعَ في شبيبته المنايا / فعادت منه وادَّرأتْ حمامهْ
أحلُّوا قتله وتطلّبوهُ / دماً حراً وروحاً مستهامهْ
تُنَسِّي الحربُ كلَّ فتىً هواه / ولا يَنسَى الكميُّ بها غرامهْ
زئيرُ الليثِ يطربُ مسمَعيهِ / وتُشجيهِ بِرَنَّتِها الحمامهْ
ووثبُ الخيل أفراسُ الأماني / إِلى خَطَرٍ تعشَّقه ورامهْ
يَصُفُّ البيض والسُّمر العوالي / ويرقبُ مِن فم الصُّبح ابتسامهْ
ويفرُك راحتيهِ دماً وناراً / يُغَنِّي حُبَّهُ ويُديرُ جامهْ
كذاك رأى الحياة فما احتواها / ولا عرفَ الملالة والسآمهْ
مفازعُ للرَّدى إن لاح فَرّتْ / وراءَ خطاهُ وارتدّتْ أمامهْ
أخا الهيجاءِ كيفَ شهِدْتَ حَرْباً / يُذكّرُ هولُها يومَ القيامهْ
وكيف رأيتَ بعد الحرب سِلْماً / تملأُ بالضغينةِ واللآمهْ
وقالوا عالَمٌ قد جَمّلوهْ / فلم يَعْدُ الشناعةَ والدمامهْ
تناثرتِ الممالكُ فيهِ حتى / لتعجزَ أن تُبينَ لها حطامهْ
متاهاتٌ تضلُّ بها الليالي / ولا يدري بها فَلَكٌ نظامهْ
فلسطينُ الشهيدةُ في دجاه / مَفزّعةُ الخواطِرِ مستضامهْ
أَقام المستبدُّ على حماها / فعاث بها وأفردها طغامهْ
وجاء بآبقٍ لَفظَتْهُ دارٌ / وأفَّاقٍ يُحمِّلُها أثامهْ
أباح له على كيْدٍ جناها / وشاطره على خُبثٍ مدامهْ
وعلّمهُ الرمايةَ واجتباه / فسدّد في مقاتله سهامهْ
نديمُ الأمس سَقَّاهُ بكأسٍ / أحسَّ لهيبها ورأى ضرامهْ
رمى الشيطانُ عن فخَّارتيها / وعضَّ على نواجذه ندامهْ
ألا لا يمرح الباغون فيها / فلن ينسَى لها الحقُّ انتقامهْ
مُحالٌ أن تَطيبَ لهم حياةٌ / عليها أو تدوم لهم إِقامهْ
عروبتُها على الأدهار أبقى / وأثبتُ من رواسخها دِعامهْ
أتهدأ وهي في الغمرات تأسو / جريحاً أو تشدُّ له ضِمامهْ
ومفتيها الأمينُ ومفتديها / وراءَ تخومها يشكو هيامهْ
فتى أحرارها ما عابَ عنها / ولا منع الخيالَ بها لِمامهْ
كأمسِ كعهدها لم يغْفُ عيناً / بليلٍ أَقسمتْ ألَّاَ تنامهْ
يؤلّفُها على الأحداث صفاً / جسورَ النفس جبّار العُرامهْ
جهادٌ في العروبة واحتشادٌ / له التاريخ قد أَلقى زمامهْ
أَخا الصَّبَواتِ هل شَفَتِ الليالي / جراحَ القلب أو روَّتْ أُوامهْ
حَللتَ بسوريا بعد اغتراب / وقد كاد الجلاءُ يُتِمُّ عامهْ
فقلتُ تحيّةُ الزمن المعادِي / لمقتتلٍ أطال بهِ صدامهْ
وأشرقتِ الكتائبُ عن لواءٍ / يَدُ الشهداءِ لم تتركْ عِصامهْ
لأصهبَ من أُسودِ الحرب يمشي / بأصهَبَ تُمسِكُ الدنيا لجامهْ
حواكَ جلالة فحنيت رأساً / ولم تخفِضْ لجبّارين هامهْ
طريقُ المجد كم أَثرٍ عليه / لأهوالٍ لقِيتَ وكم علامهْ
وكم جبل هبطتَ برأس وادٍ / يعزُّ الجنَّ أن ترقَى سنامهْ
حميتَ الغاصبين خُطىً إليه / فصان عراقه وحمى شآمهْ
بجيش من بَني عدنان فادٍ / ترَى نسراً بهِ وترى أُسامهْ
يروعكَ خالدٌ فيهِ وتلقى / عُبَيْدَةَ وهو في سيفٍ ولامهْ
كأن الفاتحين مِن الأوالي / على أسيافهم رفعوا خيامهْ
حُماة الشرق كم في الغرب باغٍ / عليهِ أذاقه بطشاً وسامهْ
وكم أيْدٍ عليه مُجرّداتٍ / مخالبَ كاسرٍ يبغي التهامهْ
ذئاب حول جنَّتِهِ تعاوَى / كأن بها إِلى دمه نهامهْ
فهزُّوه صوارمَ مشرعاتٍ / تشقُّ بكلِّ مُعْتركٍ زحامهْ
هو السيفُ الأصمُّ إذا تغنَّى / صغا متجبّرٌ ووعَى كلامهْ
أَعِدوا حده لصراع دهر / صريعُ الوهم من يرجو سلامهْ
لا السيفُ قَرَّ ولا المحارِبُ عادا
لا السيفُ قَرَّ ولا المحارِبُ عادا / وَيْحَ البشيرِ بأيِّ سلْمٍ نادى
الأرضُ من أجسادِ من قُتِلوا بها / تَجْني العذابَ وتُنْبِتُ الأحقادا
فاض السحابُ لها دَماً مذ شَيَّعت / شمسَ النهارِ فخالطتْهُ سوادا
رأتِ الحِدادَ به على أحيائها / أتُراهمو صَبَغوا السماءَ حِدادا
ودَّ الطُّغاةُ بكلِّ مطلَعِ كوكبٍ / لو أطفأوهُ وأسقطوهُ رَمادا
وتخوّفوا وَمْضَ الشَّهابِ إذا هوى / وَبُروقَ كلِّ غمامةٍ تتهادى
ولو أنَّهم وَصَلوا السماءَ بعِلْمِهم / ضَرَبوا على آفاقها الأسدادا
لولا لوامِعُ من نُهىً وبصائر / تغزو كُهوفاً أو تَؤُمُّ وهادا
لم يَرْقَ عَقْلٌ أو تَرِقُّ سريرةٌ / وقضى الوجودُ ضلالةً وفسادا
راعَ الطُّغاةَ شُعاعُهُ فتساءلوا / مَنْ نَصَّ هذا الكوكبَ الوقَّادا
إنْ تجهلوا فسلوا به آباءَكُم / أيامَ شَعَّ عدالَةً ورِغادا
هل أبصروا حُريَّةً إلَّا به / أو شيَّدوا لحضارةٍ أوْتادا
حَمَلَتْ سناهُ لهم يَدٌ عربيَّةٌ / تبني الشعوبَ وتنسجُ الآبادا
هي أُمَّةٌ بالأمس شادتْ دولةً / لا تعرفُ العِبْدانَ والأسيادا
جُرْتُمْ عليها ظالمين بعَدِّكم / وعدِيدِكم تتخايلون عَتَادا
ومَنَعْتُمُوها من مواهب أرضِها / ماءً به تجدُ الحياةَ وَزَادا
في المغرب الأقصى فتىً من نورِها / قدَحَتْ به كفُّ السماءِ زِنادا
سَلَّتهُ سيفاً كي يحرِّرَ قوْمَهُ / ويُزِيلَ عن أوطانِهِ استعبادَا
ما بالُكم ضِقْتُم به وحشَدْتُمُو / من دونه الأسيافَ والأجنادَا
أشعلتُمُوها ثورةً دمَوِيَّةً / لا تعرفونَ لنارِها إخمادَا
حتى إذا أوْهَى القتالُ جِلادَكم / ومضى أشدَّ بسالةً وجِلادَا
جئتمْ إِليهِ تُهادِنونَ سُيوفهُ / وسيوفُهُ لم تسكُنِ الأغمادَا
وكتبتمو عهداً بحدِّ سيوفكم / مزَّقتُمُوهُ ولم يجِفَّ مِدَادَا
الأهلُ أهْلُك يا أميرُ كما تَرَى / والدَّارُ دارُكَ قُبَّةً وعِمَادَا
أنّى نَزَلْت بمصرَ أو جاراتِها / جئتَ العُروبَةَ أُمَّةً وبلادَا
مَدَّتْ يَديْها واحتَوَتكَ بصدرها / أُمٌّ يَضمُّ حنانُها الأولادا
ولو استطاعت رَدَّ ما استودَعْتَها / ردَّتْ عليك المَهْدَ والميلادا
وأتَتكَ بالذِّكر الخوالِدِ طاقةً / كأجَلِّ ما جمعَ المحبُّ وهادى
ماذا لقِيتَ من الزمان بصخرةٍ / قاسَيتَ فيها غُرْبةً ووِحادَا
وبَلَوْتَ من صَلفِ الطُّغاةِ وعَسْفِهم / فيها الليالي والسنين شِدَادا
جعلوا البحارَ ومثلُهُنَّ جبالُها / سَدّاً عليك وأوسعوك بعادا
دعْهُم فأنتَ سَخِرْتَ من أحلامهم / وأطرتُهُنَّ مع الرياحِ بدادا
عشرين عاماً قد حَرمتَ عيونَهم / غُمْضَ الجفونِ فما عَرفنَ رُقادا
يَتَلفَّتُون وراءَ كلِّ جزيرةٍ / ويسائلون الموجَ والأطوادا
من أيِّ وادٍ موجةٌ هتفَتْ به / ومضى فحمَّلها السلامَ وعادا
لو أنصفوا قدرُوا بطولةَ فارسٍ / لبلادِهِ بدَم الحشاشة جادا
نادَى بأحرار الرجال فقرَّبوا / مُهجاً تموتُ وراءَه استشهادا
يدعو لحقٍّ أو لإِنسانيَّةٍ / تأبى السجونَ وتلعنُ الأصفادا
شيخَ الفوارِسِ حسبُ عيْنِك أن ترى / هذي الفتوح وهذه الأمجادا
الرِّيفُ هَبَّ منازلاً وقبائلاً / يدعو فتاهُ الباسلَ الذَّوَّادا
حَنَّ الحسامُ لقَبْضَتَيْكَ وحَمْحَمَتْ / خيلٌ تُقرِّبُ من يديك قِيادا
وعلى الصَّحَارَى من صَداكَ مَلاحِمٌ / تُشْجي النُّسورَ وتُطرِبُ الآسادا
أوحَتْ إلى العُرْبِ الحُداءَ وألهمتْ / فُرسانهم تحت الوغى الإِنشادا
عبدَ الكريم أنظُرْ حِيالك هل ترى / إلَّا صراعاً قائماً وجهادا
الشرق أجمَعهُ لواءٌ واحدٌ / نَظَمَ الصفوفَ وهيَّأ القُوَّادا
لم يتركِ السيفُ الجوابَ لسائلٍ / أو يَنْسَ من مُترقِّبٍ ميعادا
سالت حلوقُ الهاتفين دماًن وما / هزُّوا لطاغيةِ الشعوب وِسادا
فصُغِ البيانَ بِهِ وأَنْطِقْ حَدّهُ / يَسْمَعْ إِليكَ مكرَّراً ومُعادا
كَذَبَتْ مودَّاتُ الشِّفاه ولم أجدْ / رغم العداوة كالسيوف وِدادا
لهجَتْ قلوبٌ بالذي صَنَعَتْ يدٌ / شَدَّتْ لجُرْح المسلمين ضِمادا
حَملَتْ نَدَى مَلِكٍ ونخوة أُمَّةٍ / صانت بها شرفاً أَشمَّ تِلادا
وحَمَتْ عزيزاً لا يقِرُّ وأَمّنت / حُرّاً يقاسي الجورَ والإِبعادا
فادٍ من الغُرِّ الكُماةِ مجاهدٌ / تتنازعُ الآلامُ منه فؤادا
جارت عليه الحربُ ثم تعقَّبَتْ / في السّلْمِ تحت جَناحِهِ أكبادا
زُغْبٌ صِغارٌ مثل أفراخ القَطَا / وحرائرٌ بِتنَ السنين سُهادا
هو من رواسي المجد إِلا أنه / عَصَفَ الزمانُ بجانِبَيْهِ فمادا
رَجُلٌ رأى شرّاً ففادى قوْمَهُ / وأحسّ عاديَةً فهبّ ورادى
ظلموا هواهُ إذْ أحبّ بلادَهُ / ما كان ذنباً أنْ أَحبّ ففادى
سحائبُ حمرٌ أم سماءٌ تضرَّمُ
سحائبُ حمرٌ أم سماءٌ تضرَّمُ / أم الشمسُ يجري فوق صفحتها الدمُ
على مَشْرِقِ الإِصباح من أندونيسيا / سيوفٌ تُغَنِّي أو حُتوفٌ تُرنِّمُ
وفوق رُباها يزحفُ الموتُ ضاحكاً / على جُثَثٍ منهن يروي ويَطعمُ
فراديس شرقٍ ذِيدَ عنهن أهلُهُ / وهن لأهل الغرب نهبٌ مُقَسَّمُ
يُدارُ بها ماءُ الجماجِمِ مِثلما / يُدارُ على الشّربِ الرحيقُ ويُسْجَمُ
وفي أرضها أَو أفقها صوتُ مُحْنَقٍ / كأنَّ صداهُ الغيبُ لو يتكلّمُ
تميد الصحارَى والجبالُ لوقعه / وتُشفِقُ أنواءٌ ويَفْرَقُ عَيْلَمُ
وترتدّ حتى الشهبُ عن سَبَحاتها / فلا ثَمَّ آفاقٌ ولا ثَمَّ أنجمُ
وفيم تُضيءُ الشمسُ أو يشرق السَّنى / إذا الأرضُ غشَّاها ضَلالٌ ومأثمُ
وأصبح فيها المضعفون وحظُّهم / من العيش ما يَقْضي القويُّ ويُبرِمُ
أذلَّاءُ إنْ ناموا أرقاءُ إنْ صحوا / يُباعُ ويُشرَى فيهمو ويُسوّمُ
يُسَمَّوْنَ ثُوّاراً إذا ما تجهَّموا / لمغتصبٍ أو من عَذاب تألموا
لأيةِ إِنسانيةٍ ذلك الوغى / وفيم أحلُّوهُ لقوم وحَرّموا
رويداً بُناةَ الكونِ ما تلك ثورةٌ / على الحقِّ بل روحٌ على الجور يَنقِمُ
وما هي إلَّا منكمو رَجْعُ صيحةٍ / على الأمس كانت كالمزامير تُنْغَمُ
هو الشرقُ ثارت روحُهُ فهو لُجّةٌ / من النّارِ تُذكيها رياحٌ تَهزَّمُ
يُنادي بِعهدٍ بين يوم وليلةٍ / أُضِيع وحقٍّ يُستباح ويُهضَمُ
وحريّةٍ موؤودةٍ طال شوقُها / إِلى النور يطويها ظلامٌ مُخَيِّمُ
مُكبَّلةِ الكفّين مغلولةِ الخطَى / تُداسُ ويُؤْبَى أن يبوحَ لها فمُ
سلاماً سلاماً سيّد السّلم والوغى / جلالُك موفورٌ وعَهْدُكَ مُكرَمُ
ويعنو إليك الجنُّ والإِنسُ طاعةً / كأنكَ فيهم عن سليمان تَحْكُمُ
وبين يديكَ الأرضُ تُلْقي زمامَها / وفي راحتيكَ السّبعةُ الخُضرُ تُسْلِمُ
ولم تَبْقَ في الكونِ السحيقِ رحابةٌ / لغيركَ أو يَبْعَدْ به عنك مغنمُ
فما لك بالأُسطول والجيشِ واثباً / على أمّةٍ عزلاءَ بالسلم تَحْلُمُ
وتَنْقَضُّ مثل النسر فوق سمائها / بأجنحةٍ تغزو النجومَ وتَزْحُمُ
ألاقَيْتَ في أجوائها غيرَ طيرها / على نَسَماتٍ في الغصون تُهَيْنِمُ
وأُبْصرتَ إلَّا أمَّةً من محمد / تَنازَعَها الميكادُ غصباً ووَلهمُ
ملايينُ مِمن كرَّمَ اللّه خَلْقَهُمْ / يُرادُ بهم أن يُمسَخوا أو يُحَطَّموا
أَنِلْ هذه الدنيا رِضاكَ وحسبنا / من الدهر هذا البارقُ المتبسّمُ
سَرابٌ منَ الأوهام نُسْقَى بلمعه / وطيفٌ برؤياه نُسَرُّ ونَنْعمُ
ودَعنا بمعسول المُنَى ووعودها / نَذُقْ من نعيم العيشِ ما نتوهّمُ
ونُبدعْ لهذا الكون في الوهم صورةً / تُمثِّلُ منه بَعْضَ ما كنت تزعُمُ
فإنّا شعوبٌ من سُلالة آدم / لنا في مراقي العلم والفن سُلّمُ
لنا خطرةٌ تهوَى الخيالَ ونظرةٌ / طموحٌ وقلبٌ بالمحاسنِ مُغرَمُ
على أننا نبني على الحقِّ والهدى / مآثرَ لا تبْلى ولا تتهدّمُ
ونرْعى مواثيقَ الوفاءِ كما رَعَتْ / أوائِلُنا لسنا على البذلِ نندَمُ
من الصين حتى ساحل الغربِ عالمٌ / به المسلمون الأولونَ تقدموا
بَنَوْهُ حضاراتٍ ضِخاماً ولم يَزَلْ / له أثرٌ في الكون أسمى وأضخمُ
نظامٌ من الشُّورى وعهدٌ من الرضى / أياديهِ شتَّى حُسْنياتٌ وأنعُمُ
سَل العامَ إِن أوْفَى عليك هلالهُ / ففي ضوئِهِ للحقِّ هَدْيٌ ومعلَمُ
لعلَّك إِن يمْسَسْكَ من نوره سنىً / يَلنْ منك قلبٌ بالحديد مُلثَّمُ
ويُنبِئك أنَّا لا نطيق على الأذى / مُقَاماً وأنَّا أمةٌ ليس تُظلمُ
على الحقِّ نجزِي من جَزانا بحقّنا / فإنْ لم يَكُنْ فالشرُّ بالشرِّ يُحسمُ
رُدّوا على الوادي ربيعَ نهاره
رُدّوا على الوادي ربيعَ نهاره / آب الزعيمُ اليوم من أسفارِهِ
جاب البحارَ إليكمو حتى إذا / نصلَ الدُّجى ألقى عصا تسيارِهِ
هذا الذي قدر الإِلهُ حياتَه / ليُنَقِّل التاريخ في أداورِهِ
الأعزلُ المنفيُّ فارق قيدَه / ورمى بآسره وذلَّ إِسارِهِ
عجبا يُخافُ مطاردٌ بجزيرةٍ / ضرب الوجودُ بها وراءَ بحارِهِ
فيُجشَّم المنفى البعيدَ بصخرةٍ / في مائجٍ مُتَلَثّمٍ بخطارِهِ
تخشى أساطيلُ الغزاة عبوره / ويروع وحشَ البحرَ صمتُ قرارِهِ
سِيرٌ من الأمجاد لم يُسْمَعْ بها / حتى أُتِحْنَ فكنَّ من أخبارِهِ
تلك البطولةُ لم تكن يوماً ولم / يطلعْ بها زمنٌ على حُضَّارِهِ
قم حدِّثِ التاريخ غير مُكذَّبٍ / يا منْ غدا التاريخُ مِن آثارِهِ
أنت المصاولُ عن حماك فصِفْ لنا / حربَ الفدائيين من أنصارِهِ
والأرضُ كيف تَصُدُّ عن رحمائها / والكونُ كيف يضيق عن أحرارِهِ
والغاصبُ السَّفاحُ من أنيابه / يجري الدمُ القاني ومن أظفارِهِ
يا من شَدَوْتُمْ بالسلام رويدكم / داوودُ لمَّا يَشْدُ في مزمارِهِ
تحت الرِّماد وميضُ نارٍ فالدجى / والبرقُ بعضُ دخانه وشرارِهِ
رُدُّوا السلامَ إِلى الحوادث تشهدوا / أنَّ المآمنَ هن من أخطارِهِ
حمل البشيرُ قميصَهُ بيمينه / ودمُ الجنايةِ صارخٌ بيسارِهِ
هذا ضياءُ العدل بدّد ظلمهم / كالليل بدّدهُ الضُّحَى بمنارِهِ
سعدٌ أهلَّ به وسعدٌ جاءكم / بالحق أبلجَ في سماءِ ديارِهِ
فاستقبلوه كعهدكم وَتَخَيَّروا / لجبينه العالي مُضَفَّرَ غارِهِ
قالوا نُفِيت فهل نفى عنك الهوى / ظُلمٌ سُقِيتَ الأمس كأس عقارِهِ
لا تَلْحَ من كفروا بدعوتك التي / وضَحتْ وخلِّ أذى المسيءِ ودارِهِ
آثامُهم فَزِعَتْ بخالقهم فَدَعْ / للّه حكمَ اللّه في كفَّارِهِ
واللّه لو لمَسوا فؤادك لانثنوا / جَزِعينَ مما لامسوا من نارِهِ
ومحا سناهُ ظلام أنفسهم وما / حُمِّلْنَ من ذل النكوص وعارِهِ
الشعبُ مثل البحر إنْ يغضبْ فما / تقفِ السدودُ الشمُّ في تيَّارِهِ
ورجالُهُ الأبطالُ ويحَ رجاله / لم يهدأوا والظلمُ في تهدارِهِ
خاضوا الحتوفَ فَما انثنت عزماتُهم / عن قاهر الوادي وعن جبَّارِهِ
طلعوا على حِصْن الظلام فزحزحوا / أحجاره ومَشوا إِلى أغوارِهِ
قذفوا به غَضب السرائر فانظروا / للحصن يسقط في يديْ ثُوَّارِهِ
أمسى ورايات الجهاد خوافقٌ / حُمْرٌ مُنَشَّرةٌ على أسوارِهِ
هبَّ الكميُّ على النفير الصَّادح
هبَّ الكميُّ على النفير الصَّادح / مهلاً فديتُكَ ما الصباحُ بواضحِ
أيُّ الملاحم بين أبطال الوغى / فجِئَتكَ بالشوق الملحِّ البارحِ
فقضيتَ ليلكَ لا هدوءَ ولا كرىً / ووثبتَ في غسَقِ الظلام الجانِحِ
والشرقُ من خلف الجبالِ غمامةٌ / حمْراءُ تُرعَشُ في وميضٍ لامحِ
سَلَّتْ حرابَ البرق فوق سمائه / هوجاءُ تُنذر بالقضاءِ الجائحِ
هي صيحةُ الوطن الجريح وأمةٍ / هانت على سيفِ المغير الطامحِ
قَرَنَتْ بحظكَ حظَّها فتماسكتْ / ترعَى خُطاكَ على رُبىً وأباطحِ
في موكب الفادين مجد أُميَّة / بجوانح مشبوبة وجَوَارحِ
لو قِسْتهم بعدوِّهم وسلاحِهِ / أيقنتَ أنهمو فريسةُ جارحِ
الخائضونَ الفَجر بحر مصارع / السابحون على السَّعير اللافحِ
الناهضون على السيوف وتحتَها / شتَّى جَماجم في التراب طرائحِ
الرابضون على الحصونِ خرائباً / مُهَجاً تضرّم في حُطام صفائحِ
صرعى ولو فتَّشْتَ عن أجسادهم / أَلفيتَ ما أَلفيتَ غير جرائحِ
يا ميسلون شهدتِ أي روايةٍ / دمويةٍ ورأيت أيَّ مذابحِ
ووقفتِ مُثخَنَةَ الجراح بحومةٍ / ماجتْ بباغ في دمائكِ سابحِ
تتأملين دمشقَ يا لهوانها / ذاتُ الجلالة تحت سيف الفاتِحِ
جرَّت حَديد قيودها وتقدَّمتْ / شمَّاءَ من جلَّادها المتصايحِ
نسيَتْ أليم عذابها وتذكرتْ / في ميسلون دم الشهيد النازِحِ
من هبَّ في غسق الظلام يحوطها / بذراع مقتتلٍ وصدرِ مُكافِحِ
وتسمَّعتْ صوتاً فكان هتافُهُ / يا للحبيبِ من المحبِّ البائحِ
أُمَّاهُ خانتني المقادر فاغفري / قدَري وإن قلَّ الفداءُ فسامحي
فيحاءُ إن نصَّتْ حواليكِ القرى / أعلامَها وازَّينت بمصابحِ
وتواكب الفُرسان فيك وأقبلوا / بالغار بين عَصائبٍ ووشائحِ
وشدا الرعاةُ الملهمون وأغرقوا / أبهاءَ ليلكِ في خِضَمّ مفارحِ
أقبلتُ بين صفوفهم مُتَقَرِّباً / بأزاهري مترنماً بمدائحي
حيث الشهيدُ رنا لمطلع فجره / ورأى الغمائمَ في الفضاءِ الفاسح
وتَلفَّتتْ لكِ روحُهُ فتمثّلتْ / وجهَ البطولة في أرق ملامحِ
حيث الربى في ميسلون كأنما / تهفو إليهِ بزهرها المُتفاوحِ
وكأنما غسَلتْه بغداديةٌ / بدموع مَلْكٍ في ثَراكِ مراوِحِ
أسعى إِليه بكل ما جمعتْ يدي / وبكل ما ضُمّتْ عليه جوانحي
وهو الجدير بأن أُحَييَ باسمِهِ / في الشرق كلَّ مناضل ومنافحِ
من كلِّ حُرٍّ نافضٍ مما اقتنى / يَده ووهَّابِ الحشاشةِ مانحِ
أو كلِّ فادٍ بالحياة عشيرَهُ / لا القولِ في خُدَع الخيال السانِحِ
قُلْ للدعاة المحسنينَ ظَنونَهم / بالغرب ماذا في السَّراب لماتحِ
لا تُغرينّكمو وعودُ محالف / يطأ الممالك بادِّعاءِ مصالحِ
تمضي السنون وأنتمو من وعده / تَتَقلبون على ظهور أراجحِ
واللّه لو حسر القناعَ لراعكم / قَبرٌ أُعدَّ لكم وخَنْجَرُ ذابحِ
من كلّ مصاص الدماءِ مُنَوِّمٍ / يُدْعَى بمنقذِ أمةٍ ومُصالحِ
يا يوسف العظمات غرسُكَ لم يضِع / وجَناهُ أخلدُ من نتاج قرائحِ
قمْ لحظةً وانظرْ دمشق وقل لها / عاد الكمِيُّ مع النفير الصادحِ
ودعاك يا بنتَ العروبةِ فانهضي / واستقبلي الفجرَ الجديدَ وصافحي
هنَّأتُ باسمكِ تحت الشمس أحرارا
هنَّأتُ باسمكِ تحت الشمس أحرارا / يَنْدَى هواك على هاماتهم غارا
دمَشْقُ يا بلدَ الأحرارِ أيُّ فتىً / لم يَمْتشقْ فيك سيفاً أو يخُضْ نارا
ذوداً عن الوطن المعبود من دمه / للمجد يبنيه آطاما وأسوارا
زَكتْ أُميَّةُ في أعراقه وجرتْ / دماً يُروِّي الثرى أو يغسلُ العارا
عيدُ الجلاءِ أُسمِّيهِ وأعرفه / يومٌ تَباركَ أنداءً وأسحارا
جلا عن الشرق ليلَ البغي حين جلا / عروبةً فيكِ تلقى الأهل والدارا
لولا مصابٌ دهى الوادي فشبَّ به / ناراً وهاج النسيم العذب إعصارا
وروَّعَ الأمة الغلباءَ في رَجُلٍ / شدَّتهُ قوساً وسلَّتْ منه بتَّارا
من النوابغ أعماراً إِذا قصرتْ / مُدَّ النبوغُ لهم في الخلدِ أعمارا
أحرارُ مملكة في الرأي ما أثموا / سمَّاهمو الغاصبُ الظَّلَّام ثُوّارا
ثاروا على القيد حتى انحلَّ واقتحموا / على الطواغيتِ حِصنَ الظلم فانهارا
لولاهُ كان إِليك البرقُ راحلتي / أطوي به الجو آفاقاً وأقطارا
وجئتُ فيحاءُ أُزجي الشعرَ مُفتقِداً / تحت الصفائح مقداماً ومغوارا
والمفتدون شُراةُ الخلد قل لهم / ما ينظم المدح ألحاناً وأشعارا
ألقاكَ في عالم الذكرى وتلقاني
ألقاكَ في عالم الذكرى وتلقاني / رغمَ الفِراق بهذا العالم الفاني
أرنو إلى وجهكَ الضَّاحي فيشرقُ لي / عن صفحتي مَرِحٍ في الخُلد جذلانِ
وأجتلي لَمَحَاتِ العبقرِيّةِ في / عينينِ حَدَّثتا عن رُوحِ فنَّانِ
لأنتَ حيٌّ برغم الموت أسمَعُهُ / كعهده وأراهُ مِلء وجداني
عذبُ البيان سَرِيُّ اللفظ مازَجَهُ / ما في طباعكَ من حُسْن وإِحسانِ
يُذكِي الشيوخَ بأحلام الشبابِ وكم / أذكى بحكمتهم أحلامَ شُبَّانِ
أُصْغي إليكَ عميقَ الفكر ملتمعاً / في منطقٍ جهوريِّ الصّوت رنّانِ
كالغيث يلمعُ في الآفاق بارقُهُ / وفي الثَّرَى مِنه زهرٌ فوق أفنانِ
عفُّ الضمير حَوَى الدنيا بنظرته / فلم ترُعْهُ بأشكال وألوانِ
مُقيَّدٌ بعريقٍ من خلائقه / لا خوفَ بطشٍ ولا زُلفَى لسلطانِ
كالنهر يقتلع الأسدادَ منطلقاً / حراً ويجري حبيساً بين شطآنِ
يُعطِي الحياة لأقوامٍ وينشرها / شتّى روائعَ في حقلٍ وبستانِ
تمثَّلَ الحقّ يرمي كلَّ شائبةٍ / عنه ويُغرِقُ فيه كلّ بهتانِ
حامي القضاء وراعي العَدْل في بلد / لا يأمن العدلُ فيه سطوةَ الجاني
ورافعُ الصّرح لاستقلاله عَجَباً / صُنعُ السماء تُرَى أم صُنعُ إِنسانِ
صبري أحقّاً طواكَ الموتُ كيف وما / هذي المواكبُ من قاصٍ ومن داني
كالأمس ضَجَّتْ فهل أسمَعْتَ هاتفها / صدى هُتافكَ في جنّات رضوانِ
قُمْ بشِّر الحقَّ واخطبْ في كتائبه / يا صاحبَ الخلد هذا يومُك الثاني
يا واهبَ الثورة الكبرى يَفَاعَتَهُ / حين الشبابُ رُؤى غيدٍ وألحانِ
وصاحِبَ العهدِ لم يطرحْ أمانتهُ / كهلاً يُصاول عن أهلٍ وأوطانِ
وقفٌ على مصرَ هذا القلبُ مُتّقِداً / بحبها مَنْ لهذا المدْنَفِ العاني
قد استبدّتْ به حتى استبدّ به / عادي الرّدى وهو لا واهٍ ولا واني
يا للشهيد صريعاً ملءَ حومتهِ / سيفاً خضيباً وجُرْحاً من دمٍ قاني
هذي الصحائفُ من مجدٍ ومن شرف / هيهاتَ يُسلمها دهرٌ لنسيانِ
ذخائرُ الوطن الغالي يُرَتِّلُها / على مسامع أجيالٍ وأزمانِ
فيها أغانٍ لعشّاقٍ قد افتقدوا / أوطانهم وأناشيدٌ لفرسانِ
أحرارُ مملكةٍ أَرْسَوْا دعائمها / على أساسٍ من الشُّورى وأركانِ
لم يَرْهَبُوا سَوطَ جلَّادٍ ولا حَفِلوا / بسيف باغٍ ولا أصفاد سجّانِ
ولا أقاموا على ذُلٍّ وإِنْ ذهبوا / على دموع وآلامٍ وأشجانِ
همو البُنَاةُ وإِنْ لم يذكروا يَدهُمْ / فيمَا يَرى الجيلُ من مرفوعِ بنيانِ
لا تسألنّ الضحايا عن مآثرهم / وسائلِ الأثرَ الباقي مَنِ الباني
ذكراكَ ما سنحت للفكر أو عبرت / بالقلب إِلَّا وهاجت نار أحزانِ
فزِعتُ منها إِلى الأوهام أسألها / أأربعونَ مَضَتْ أم مرّ عامانِ
قد أذهل الخطبُ شعري عن شوارده / وأُنسِيَتْ كلماتي شدْوَ أوزاني
فجئتُ أُجريهِ دمعاً في يدي رجُلٍ / قد صاغه اللّه من حقٍّ وإِيمانِ
هذا الذي باركتْ مصرٌ زعامته / وقبّلتْ جُرْحَها في قلبه الحاني