القوافي :
الكل ا ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ط ع غ ف ق ك ل م ن و ه ء ي
الشاعر : علي محمود طه الكل
المجموع : 155
هذي سماؤكِ أنغامٌ وأضواءُ
هذي سماؤكِ أنغامٌ وأضواءُ / غنّاكِ داودُ أم حياكِ سيناءُ
أم النبيُّون قد أزجتْ سفائنَهم / موعودةٌ من ليالي النيل قمراءُ
أم طالعتكِ من السِّحر القديم رؤىً / يشدو بهنَّ الثرى والريحُ والماءُ
أم جاء طيبةَ من أربابها نباًٌ / أم أنّ كهّانها بالوحي قد جاؤوا
أم سار عمرو بنور الفتح فائتلقتْ / به زبرجدةٌ في الشطِّ خضراءُ
ماجت خمائلَ بالبشرى وأوديةً / فهن فاكهةٌ تَندى وصهباءُ
يا مصرُ ذلكَ يوم الملتقى وعلى / صَباحه قَدِم الرُّسْلُ الأجلَّاءُ
أسرتْ إليك بهم روحٌ وعاطفةٌ / وكم إليك بسرِّ الروحِ إسراءُ
دعا فلبّوهُ صوت من عروبتهم / كما يلبّي هتافَ الأمّ أبناءُ
لا بل أهاب بهم يومٌ صنائعهُ / من أمرها الناسُ أمواتٌ وأحياءُ
إن لم تَصُنْ فيه أيديهم تُراثَهمو / فقد تَبدَّدَ والأيامُ أنواءُ
طاحتْ بناصيةِ الضعفى وسخَّرها / كما يشاء الأشدّاءُ الألبّاءُ
أحرارُ دهر همو المستيقظون لها / ومن غفوا فهمو الموتى الأرقَّاءُ
بَني العروبةِ دارَ الدهرُ واختلفت / عليكمو غِيَرٌ شتَّى وأرزاءُ
مضى بضائقتيها الأمسُ وانفسحتْ / أمام أعينكم للمجد أجواءُ
اليوم شيدوا كما شادت أبوّتكم / شرقاً دعائمه كالطود شمَّاءُ
دستوره وَحدةٌ مُثلى وشرعتهُ / بالحق ناطقةٌ بالحبِّ سَمْحاءُ
لكم بحاضركم من دهركم نُهَزٌ / فيها لغابركم بعثٌ وإحياءُ
شُدُّوا على العروة الوثقى سواعدكم / لا يَصدَعنَّكمو بالخلف مشَّاءُ
لم تنأَ بغدادُ عن مصر ولا بَعُدَتْ / لبنانُ والمسجدُ الأقصى وشهباءُ
أيُّ التخوم تناءَتْ بين أربعها / لها من الروح تقريبٌ وإدناءُ
أرضٌ عليها جرى تاريخنا وجرى / دمٌ به كَتَبَ التاريخَ آباءُ
مباركٌ غرسُهُ منه بأندلس / والقادسيّة واليرْمُوكِ أجناءُ
خوالدُ النفح لم يذهبْ بنَضرَتها / حرٌّ وقرٌّ وإصباحٌ وإمساءُ
إيهٍ بني الشرق فالأبصارُ شاخصةٌ / لما تُعدُّونَ والآذان إصغاءُ
يستطلعُ الشرقُ ما يجري به غدُه / يا شرقُ إنَّ غداً هدمٌ وإنشاءُ
بصيحة السِّلم لا يأخذْكَ إغراءُ / فللمطامع إغراءٌ وإغواءُ
تفتَّحتْ صُحفُ الأيام وانبعثتْ / أقلامُها وصَغَتْ كتبٌ وأنباءُ
وطأطأتْ أممٌ مقهورةٌ ورنا / أنصارُ حقٍّ على الجلَّى أودَّاءُ
مسّتهمو الحربُ مسّ المرمَضين بها / فما تشكو ولا شكّوا ولا راؤوا
في عالم الغد ماذا قد أُعدَّ لهم / وما ترَى أُممٌ في الحرب غلباءُ
خَطَّت مواثيق للإنسان واشترعتْ / بناءَ دنيا لها الإحسانُ بنّاءُ
إني أخاف عليها أن تضيعَها / يدٌ مُبرَّأة للسلم بيضاءُ
في ساعةٍ من خُمار النصر سامرُها / لما جرى من عهود الأمس نسَّاءُ
فقُدْ شراعكَ لا تُسلِم أزمَّته / لغير كفّكَ إنَّ الريحَ هوجاءُ
يا شرقُ مجدُكَ إنْ لم تُرس صخرتهُ / يداكَ أنت فقد أخلتهُ أهواءُ
يا شرقُ حقُّكَ إنْ لم تحمِ حوزتَهُ / صدورُ قومك لم تُنقذهُ آراءُ
والكونُ ملحمةٌ كبرى جوانبها / دمٌ ونارٌ وإعصارٌ وظلماءُ
أكان عندكَ هذا الموتُ يصنعه / بكفّهِ آدمُ العاصي وحواءُ
من ذات أجنحة يخشى مسابحها / غولٌ ونسرٌ وتِنِّينٌ وعنقاءُ
شأتْ خطاها بساطَ الريح وانطلقت / والأرضُ من هولها سوداءُ حمراءُ
تعلو وتنقضُّ وشكَ اللَّمْحِ صاعقةً / يكاد منها يُصيب النجمَ إغماءُ
وزاحفاتٍ من الفولاذ قد هُصِرَتْ / من ثقلهنّ لصدر الأرض أحناءُ
إنْ صَعَّدتْ فالجبالُ الشمُّ هاويةٌ / أو عربدت فالصخورُ الصمُّ أشلاءُ
لم يَخلُ من شرها ماءٌ ويابسةٌ / أو تنجُ من غدرها غابٌ وصحراءُ
يا شرقُ يومُك لا تُخطئ سوانحه / فليس تُغفَرُ بعد اليوم أخطاءُ
في عهد فاروق طاب الملتقى وعلى / جنَّاتِهِ لقِيَ القربى الأحبَّاءُ
حَمَى العروبةَ أعراقاً ومدَّ لها / خِصباً لها فيه إنباتٌ وإزكاءُ
وباكرتها سماءٌ من مآثره / فيها لكلِّ صنيعٍ منه لألاءُ
عباقرُ الشَّرق هم آباؤه وهمو / ملوكُهُ الصِّيد والشمُّ الأعزاءُ
يا عصبة الوحدة الكبرى وعصمتَها / هذي طوالعكم جلواءُ غراءُ
ودِدْتُ لو شِدْتُ بالأسماء شاديةً / بها ربوعٌ حبيباتٌ وأرجاءُ
وما أُسمِّي فتىً شتَّى مناقبُهُ / إنَّ المناقب للفتيان أسماءُ
المصطفى وحواريُّوهُ إنْ ذُكِرُوا / فالشرقُ مَنبهةٌ والغربُ أصداءُ
وكلكم عن حمى أوطانه بطلٌ / مستقتلٌ قرشيُّ الرُّوح فدَّاءُ
باللّهِ إن جئتمو الوادي وناسمكم / ثرَاهُ فهو أزاهيرٌ وأنداءُ
وطاف بالذكريات الأمسُ واستبقتْ / بالدمع عينٌ وبالأشواقِ حوباءُ
فاقضوا حقوقَ إخاءٍ تستجير به / أُختٌ لكم في صراع الدهر عزلاءُ
طعامها من فُتات العيش مسغبةٌ / وريُّها منهُ إيلامٌ وإشقاءُ
أحَلَّها ذَهَبُ الشَّاري وحرَّمَها / عصرٌ به حُرِّرَ القومُ الأذلَّاَءُ
حَرْبانِ أثخنتاها أدمعاً ودماً / تنزو بها مهجةٌ كلْمى وأحشاءُ
هذي فلسطين أو هذي روايتُها / ماذا تقولون إنْ لم يُحسَمِ الداءُ
تطلَّعتْ لكمو ولهى أليس لها / على يديكم من العلَّاتِ إبراءُ
حملتمو العهدَ فيها عن أبوّتكم / إنَّ البنين لحمل العهد أكفاءُ
أيَّتُها الأيام ما تصنعينْ
أيَّتُها الأيام ما تصنعينْ / بذلك العبءِ الذي تحملينْ
غُبِنْتِ يا أيام لم يلتمسْ / عذركِ حتى المستضامُ الغبينْ
يلومك الناسُ على ما بهِ / جرى يراعُ الغيبِ فوقَ الجبينْ
وقال من قال لقد أولعت / بالشرِّ فالطَّبْعُ لئيمٌ لعينْ
عدوةٌ أنتِ لمن خانَهُ / حظٌّ وإن كنتِ الصديقَ المعينْ
لحاكِ من أخطأ في رأيه / كأنما أنتِ التي تَفكرينْ
ومن أساء الصُّنْعَ في عيشه / كيف تُسيئين ولا تُحسنينْ
ولامَكِ الضّليلُ في دهره / فمنكِ لا منه الضلال المبينْ
حتى أخو الحرمان في حُبِّهِ / كأنما أنت الحبيبُ الضنينْ
وأنتِ لا شكوى ولا آهةٌ / مما ترى عيناك أو تسمعينْ
لمسْتِ ضَعْفَ الناسِ في عالَمٍ / قويُّهُ لا يرحَمُ المضعفينْ
أخذتِ بالحسنى أراجيفَهم / والضعفُ لا يشفعُ للمرجفينْ
وأنت يا أيام من رحمة / لهم تُصلِّين وتستغفرينْ
وأنت يا أيام كلُّ الرضى / تولينهم من كنزه كلَّ حينْ
فمن مرير علقم كالوزين / حلاوةً في عيشهم تسكبينْ
وتُنبتين الرفقَ في أنفس / غليظة قاسية لا تلينْ
أنا الذي أدري بما تصنعينْ / إن ضِقتُ بالعمر الذي تَفسحينْ
لديك ما يمحو عذابي وما / يرقأ دمعي وهو هامٍ سخينْ
لديك ما يُفني همومي وما / يبرئُ قلبي وهو دامٍ طعينْ
لديكِ ما يُشعرني راحةً / إن عقَّني الودُّ وخان اليمينْ
لديكِ ما يُنصفني سُلوةً / إن ظلم الحبُّ وجار الحنينْ
لولاك لم أنسَ فنائي ولم / أحْلُمْ بأنِّي خالدٌ في السنينْ
بعد خمسٍ جِئتنِي يا ذكرياتي
بعد خمسٍ جِئتنِي يا ذكرياتي / والأماني بين موتٍ وحياةِ
بعد خمسٍ يا لها في السنواتِ / حمَلتْ كلَّ ذنوب الكائناتِ
صَاح فيها زُحَلٌ بالظلماتِ / فطوتْ نجمي وسدَّت طُرقاتي
ورمَتْ شملي ببينٍ وشتاتِ / والصِّبا نشوانُ والحبُّ مؤاتي
فاحفظيها في المآسي الخالداتِ / أو دعيها واذكري لي خطراتي
أرجعي لي بعضَ أحلامي وهاتي / صفَو أنغامي وردِّي صدحاتي
حدِّثي ليلة خُضْنا الأبيضا / في سكونٍ خِفْتُه أن ينبضا
ودُجىً كالسُّخط من بعد الرضى / قد دعونا نجمَه أن يُغمضا
جثم الرعبُ عليه فنضا / لججاً سوداً وظلاً مُقبِضا
كلما عودُ ثقابٍ أومضا / دفعَ النيلَ وأرغى ومضى
يُنْذِرُ الركب فماجوا رُكَّضا / وادَّعى منهم خبيثٌ عرَّضا
أنَّ نجماً هتلريا مُغْرِضا / شعَّ ناراً وتوارى في الفضا
ذكرياتي كيف أقبلتِ إليَّا / كيف جُزْتِ البرَّ والبحرَ القصيَّا
كيف خُضْتِ الكون لجّاً دمويّاً / وشُواظاً طاغيَ النار عتيَّا
ذكرياتي جدِّدي هذا الرويَّا / وابعثيهِ نغماً عذباً شجيَّا
ما عجيبٌ أن تردِّيهِ عليَّا / بل عجيبٌ أنني لا زلتُ حيَّا
أتلقَّاكِ وكأسي في يديَّا / ونشيدي ضارعٌ في شفتيَّا
طاف بي شاديكِ يدعوني مَليَّا / أيها الملَّاحُ حان الوقتُ هيَّا
حان أن ننشر خفّاق الشراعِ / يا سفيني ويكِ هيَّا لا تُراعي
قد تدانى البحرُ من بعد امتناعِ / وغَدَتْ فينيسيا قيدَ ذراعِ
هذه الجنّةُ يا ويح الأفاعي / نفثتْ في زهرها سُمَّ الخداعِ
آه دعني من أحاديث الصراعِ / ضاع عمري ويحَ للعمر المضاعِ
فالتمس نَهزَةَ حُبٍّ ومتاعِ / تحت أُفْقٍ صادحٍ صافي الشعاعِ
يا شراعي طُفْ بهاتيك البقاعِ / وتهيَّأ للقاءٍ ووداعِ
أيُّها البحر سفيني ما عَراها / رنَّحتها نبأةٌ رقَّ صداها
أو حقّاً قَرُبتْ من منتهاها / هذه المحنةُ وانجاب دُجاها
أغداً تستقبل الدنيا مُناها / حرَّةً تشدو بمكنون هواها
وأرى حُريّة عَزَّ حماها / لم يُضِعْ عقباه من مات فداها
أيها الشرق تأملْ أتراها / أنت من داراتها أين سناها
ذُدْتَ عنها وتقدمتَ خُطاها / يوم قالوا خَسرَ الحربَ فتاها
أيَّ بشرى زفَّها أرخم لحنِ / من تُراه ذلك الطيف المغنِّي
مسَّ قلبي صوتُهُ إذْ مسَّ أُذني / ألِحُبٍّ أم لسلمٍ أم تمنِّي
يا بشير السِّلم لا يكذِبْكَ ظنِّي / أنا ظمآنُ إلى الشدو فزِدني
عبرتْ بي الخمسُ في صمت وحزنِ / أيُّ خمسٍ بعدها تمتدُّ سِنِّي
صاح قلبي إنْ تدعْني لستَ منِّي / إفتح الباب ونحِّ القيد عنِّي
آهِ دعني أُبصر العالم دعني / قد سئمتُ اليوم في أرضيَ سجني
ما ثوائي في مكانٍ ما ثوائي / هو ذا الفجرُ فهبُّوا أصدقائي
إفتحوا نافذتي عَبْرَ الفضاءِ / إفتحوها لأرى لونَ السماءِ
في ظلالِ السِّلم أو نورِ الصفاءِ / حنَّ قيثاري لشعري وغنائي
فانشدوني بين أمواج الضياءِ / وانشدوا فوق البحيرات لقائي
لا تقولوا كيف يشكو من بقاء / شاعرٌ في موطنٍ حالي الرواءِ
قد ظلمتم دعوتي يا أصدقائي / وجهلتم ما حياةُ الشعراءِ
يا ابنة الإِيزار حُيِّيتِ سلاما / وغراماً لا عتابا ولا ملاما
هذه الحربُ التي راعت ضراما / شَبَّها طاغٍ بواديكِ أقاما
ذُقتِ في الغربة وجداً وسَقاما / أتُراها لم تَطِبْ مصرُ مُقاما
مصرُ كانت لمحبِّيها دواما / لم تُضِعْ عهداً ولم تخفُرْ ذماما
فاذكري في الغد أحباباً كراما / إنْ ألمَّت بك ذكراها لماما
واذكري بعض لياليها القُدامَى / في ضفافٍ حَمَلَتْ عنك الهُياما
في ضفافٍ كلُّ ما فيها جميلْ / تُنبِتُ الحبّ وتُنمي وتُنيلْ
يخطرُ الفجر عليها والأصيلْ / بين صفصافٍ وحورٍ ونخيلْ
يَدُ هاتور على كل جميلْ / تنشر النُّوَّارَ في كلِّ سبيلْ
وأزوريسُ على الشطِّ الظليلْ / يَعْصُرُ الخمرَ ويسقِي السلسبيلْ
هذه مصر دياراً وقبيلْ / ألها في هذه الدنيا مثيلْ
عجباً لي وعجيبٌ ما أقول / كيف يدعوني غداً عنها الرحيلْ
لِمَ أنتِ أيَّتُها الطبيعةُ كالحزينةِ في بلادي
لِمَ أنتِ أيَّتُها الطبيعةُ كالحزينةِ في بلادي /
لولا أغاريدٌ ترسَّلُ بين شاديةٍ وشادي /
وخيالُ ثوْرٍ حول ساقيةٍ يُراوح أو يُغادي /
وقطيعُ ضأنٍ في المروجِ الخضرِ يضربُ بالهوادي /
لحسبتُ أنك جَنَّةٌ مهجورةٌ من عهدِ عادِ /
هجروكِ لا كنتِ العقيمَ ولستِ مُنجبةَ القَتادِ /
عجباً وماؤك دافقٌ ونجومُ أرضكِ في اتِّقاد /
حُسْنٌ يروع طرازهُ ويُمَلُّ في نَسقٍ مُعاد /
أرنو إليه ولا أحسُّ بفرحةٍ لكِ في فؤادي /
حسناءَ ساذجةَ الملامح في إطارٍ من سوادِ /
دِمَنٌ يُقالُ لها قُرىً غرقى أباطحَ أو وهاد /
الطينُ فيها واليراعُ أساسُ رُكنٍ أو عماد /
يأوي لها قومٌ يقال لهم جبابرة الجلاد /
وهمو ضعافٌ أوثروا بشقائهم بين العباد /
المكثرون الزادَ لم يتمتعوا بوفير زاد /
لهمو الغراسُ وَرَعيُهُ ولغيرهم ثمرُ الحصاد /
لو كنتِ في الغرب الصناع لكنتِ قِبلة كلِّ هادي /
وافتنَّ فيكِ الفنُّ بالروح المحرِّكِ للجماد /
وتفجَّرَ المرَحُ الحبيسُ بكل ناحيةٍ ووادي /
ولقلتُ أبتدر الشُّداةَ غداةَ فخرٍ أو تنادي /
هذي الروائعُ فيكِ لم تُخْلَق لغيركِ يا بلادي /
هاتِها كأساً منَ الخمر التي
هاتِها كأساً منَ الخمر التي /
سَكِرَتْ آلهةُ الفنِّ بها /
إسقنِيها وتفيَّأ ظُلَّتي /
وترنَّمْ بأغاني حُبّها /
هذه النكهةُ من صَهْبائها /
شبَعُ الرُّوح ورِيُّ الجسدِ /
عربد الشَّاعرُ منْ لألائها /
وهيَ كنزٌ في ضميرِ الأبدِ /
هاتِها في كلِّ يومٍ حَسَنِ /
نفحةَ الوحيِ وإشراقَ الخيالِ /
وأدِرْها نغماً في أُذني /
فاض من بين سحابٍ وجبالِ /
هاتِها سِحْرَ الوُجوهِ النَّضِراتِ /
هاتِها خمْرَ الشّفاهِ الملهماتِ /
والعيُونِ الشَّاعريَّاتِ اللَّواتي /
شعْشَعَتْ بالنُّورِ آفاقَ حياتي /
ذقتُها كالحُلمِ في ريِّق عُمري /
قُبْلةً عذراءَ من ثغْرٍ حييِّ /
وتَسمَّعتُ لها في كلِّ فجرِ /
وهي تنهَلُ بإلهامي الوضيِّ /
هاتِها جَلواءَ يا توأمَ روحي /
فيها أبصرُ للخُلدِ الطَّريقا /
لو خَلا من كرْمتَيْها فُلكُ نوحِ /
أخطأ الجوديَّ أو باتَ غريقا /
ما أراها أخطأتْ في وهمِنا /
عالَم الغابةِ أو مَهْد الجدودِ /
وأراها خِلقةً في دمنا /
يوم كُنَّا بعضَ أحلام القرودِ /
جَدُّنا الأعلى على كُبرتهِ /
لم تشِنهُ نظرةُ المنتقصِ /
هُوَ ما زالَ على فِطرَتِهِ /
ضَاحكاً خَلفَ حديد القَفصِ /
ذاقَها مُذْ كان في الغاب لعوبا /
يتغذّى من ثمار الشَّجرِ /
فمضى يحلُمُ نشوانَ طروبا /
بحفيدٍ في مراقي البشَرِ /
يا لها من قطرةٍ فوق شَفَهْ /
غيّرتْ مجرَى حياةِ العَالمِ /
في خَيالٍ مَرحٍ أو فلسفَهْ /
أبصرَ الدُّنيا بعيني آدمِ /
فلسفتهُ حين مَسَّتْ قلبهُ /
فاشتهى الفنَّ وعِلمَ المنطقِ /
وأرتهُ وأنارتْ دَرْبَهُ /
وهو في سُلَّمهِ لم يَرْتقِ /
أيها الحالمُ غرَّرتَ بنا /
وكفى سُكركَ ما جرَّ علينا /
عُدْ بنا للغابِ أو هاتِ لنا /
عهدَها أحْبِبْ به اليوم إلينا /
أوَ ترضى بالذي ما كُنْتَ ترضى /
أيُّ دنيا من عذاب وشقاءْ /
ورقيٍّ أهْلَكَ العالم بُغضا /
بين نارٍ وحديدٍ ودماءْ /
شوَّه العِلْمُ رُؤى الكونِ القديمِ /
ومحا كلَّ مسراتِ الدهورْ /
أو أرضٌ جوفها نارُ جحيمِ /
وفضاءٌ كلُّ ما فيهِ أسير /
أسرةُ الشمسِ اشتكت من أيْدها /
كيف لا يشكو الأسارى المرهَقونْ /
لو أطاقوا أفلتوا من قيدها /
فإذا هم حيث شاؤوا يُشرقونْ /
إن يكن قد أصبحَ البدر الوضيءُ /
حجراً والنجمُ غازاً وحديدْ /
فسلاماً أيها الجهلُ البريءُ /
وعزاءً أيها الكونُ الجديدْ /
يا حبيبي دَعْ حديثَ الفلسفاتِ /
طاب يومي فتفيِّأ ظُلَّتي /
أترِعِ الكأسَ وناولني وهاتِ /
قُبْلَة تُنقذني من ضَلَّتي /
أو فقُمْ للغابِ من غِرِّيدها /
نسمّعِ الرُّوح الطليقَ المرِحا /
وَنَعُبَّ الخمرَ من عُنقودها /
واتركِ الدنَّ وخلِّ القدَحا /
كم ليلةٍ حمراءَ خِلْتُ ظلامَها
كم ليلةٍ حمراءَ خِلْتُ ظلامَها / يَدَ ماردٍ سلَّتْ خضيبَ حُسامِ
وكأنَّ كلَّ سحابةٍ أُفقها / شَبَحُ الخطيئةِ فوق عِرْضٍ دامي
وكأنَّ أنجمها نوافذُ حانةٍ / شَرِبَ الدّخانُ بها بريقَ الجامِ
وكأنَّ أنوارَ المدينةِ تحتها / سُرُجُ الغَوايةِ في طريق حَرامِ
همدَ الهواءُ بها فجهدُ حَراكهِ / هَبَواتُ نارٍ في نفيثِ قَتامِ
وكأنما اختنقَ الفضاءُ فكلُّ ما / فيه صريعٌ أو وشيكُ حِمامِ
ألفيتني جسداً تُسارقُ روحَهُ / قُبَلٌ عواصفُ ضُرّجتْ بأثامِ
أجتاحُها وأضجُّ من لذعاتها / فكأنها بدمي نقيعُ سمامِ
وعلى يَدَيْ مسمورةٍ مخمورةٍ / ألتذُّ كالمقرورِ حرَّ ضرامِ
متضائلَ الأفكار مهدورَ القُوى / متزايلَ الأهواءِ والأحلامِ
هي من تُرى هيَ هنَّ هنَّ جواذبي / بأنيقِ ثوبٍ أو رشيقِ قوامِ
الشارداتُ العائداتُ مع الضحّى / الطارداتُ وراءَ كلِّ ظلامِ
هن اللواتي إنْ صحوتُ فإنني / منهنّ طالبُ مَهْربٍ وسلامِ
أخمدتُ فوق شفاههنّ شبيبتي / وذبحتُ بين عيونهنَّ غرامي
أقبَلتِ أم أمعنتِ في الإِعراضِ
أقبَلتِ أم أمعنتِ في الإِعراضِ / إنِّي بحبّكِ يا جميلةُ راضي
واللّه ما أعرضتِ بل جَنَّبتِني / شططَ الهوى وسموتِ عن أغراضي
ألقاك لستُ أراكِ إلَّا فِتنةً / عُلويّةَ الإشراقِ والإيماضِ
كم رُحتُ أُغمضُ ناظري من دونها / فأراهُ لا يقوَى على الإِغماضِ
وذهبتُ ألتمسُ السلوَّ وأطلقتْ / نفسِي زِمامَ جوادها الركَّاضِ
يجتازُ نارَ مفازةٍ مشبوبةٍ / ويخوض بَرْدَ جداولٍ ورياضِ
ولقِيتُ غيركِ غير أنَّ حُشاشتي / لم تَلقَ غير الوقدِ والإرماضِ
واعتضتُ باللذَّاتِ عنكِ فلم تجدْ / رُوحي كلذَّةِ حُلمكِ المعتاضِ
وأطعْتُ ثم عَصيتُ ثم وجدتني / بيديكِ لا عن ذلَّةٍ وتغاضي
لكن لأنّكِ إن خطرتِ تمثَّلتْ / دُنياكِ تسعَى لي بأروعِ ماضي
حَبيبةُ قلبي نأتْ دارُها
حَبيبةُ قلبي نأتْ دارُها / ولمْ تنْأَ عَنِّي وعَنْ ناظري
أرى وجهَها مُشرقاً بالجمالِ / يُطلُّ من الشَّاطئِ الآخرِ
هُوَ النَّهرُ يَفْصِلُ ما بيْننا / مُدلّاً بتَمساحهِ الغادرِ
توسَّدَ رَمْلَتَهُ شاخِصاً / إليَّ وما كُنتُ بالخائرِ
إليها على رغمِهِ فلأخُضْ / غواربَ تيارهِ الثائرِ
إذا ما تقاذفني مَوْجهُ / وسالَ على بَدني الضَّامِرِ
مَضَيْتُ كأني على مائهِ / أُنيلُ الثرى قدَميْ عابرِ
لقَدْ حَال يابسةً ماؤُهُ / بسلطانِ هذا الهوى الساحرِ
وصيَّرني سِحرُ هذا الهوى / وبي قوةُ القادرِ الظّافرِ
ألا إنَّ سُلطانَ هذه المياه / ليَعْنُو لسلطانها القاهرِ
نبأٌ في لحظةٍ أو لحظتينْ
نبأٌ في لحظةٍ أو لحظتينْ / طاف بالدنيا وهزَّ المشرقينْ
نبأٌ لو كان همسَ الشفتينْ / منذ عام قِيل إرجافٌ ومَيْنْ
وتراهُ أمةٌ بالضفتينْ / أنَّه كان جنينَ العلمينْ
موسُليني أين أنت اليوم أينْ / حُلُمٌ أم قصَّةٌ أم بينَ بينْ
قصر فينيسيا إليكَ اليوم يُهدي / لعنةَ الشرفة في قربٍ وبُعْدِ
عجباً يا أيُّهذا المتحدِّي / كيف ساموك سقوطَ المتردِّي
إمبراطورُك في هَمٍّ وسُهدِ / صائحاً في ليلهِ لو كان يُجْدي
أين يا فاروس ولَّيْتَ بجندي / أين ولَّيْتَ بسلطاني ومجدي
أعتَزَلْتَ الحكم أم كانَ فرارا / بعد أن ألفيْتَ حوليْكَ الدَّمارا
سُقْتَ للمجزرةِ الزُّغْبَ الصِّغارا / بعد أن أفنيتَ في الحرب الكبارا
يا لهُمْ في حَومةِ الموتِ حَيارى / ذهبوا قتلى وجرحى وأسارى
يملأون الجوّ في الركضِ غُبارا / وقُبوراً ملأوا وجْهَ الصحارى
أعَلى الصُّومال أم أديسَ أبابا / ترفع الرايةَ أم تَبْني القِبابا
أمْ على النيل ضِفافاً وعُبابا / لمحَتْ عيناكَ للمجدِ سرابا
فدفعْتَ الجيشَ أعلاماً عُجابا / ما لهذا الجيشِ في الصحراء ذابا
بخّرتْهُ الشمْسُ فارتدَّ سحابا / حينَ ظنّ النصرُ من عينيه قابا
يا أبا القمصانِ جمعاً وفُرادى / أحَمَتْ قُمصانك السودُ البلادا
لِمَ آثرْتَ من اللَّونِ السوادا / لونُها كان على الشعْبِ حِدادا
جِئْتَ بالأزياءِ تمثيلاً مُعادا / أيُّ شعْب عَزَّ بالزَّيِّ وَسادا
إنهُ الرُّوحُ شُبوباً واتِّقادا / لا اصطِناعاً بلْ يَقينا واعتقادا
موسُليني قِفْ على أبوابِ رُوما / وتأمَّلْها طُلولاً ورسوما
قِفْ تَذَكَّرْها على الأمسِ نُجوما / وتَنَظَّرْها على اليومِ رُجوما
أضرمتَ حولكَ في الأرض التُّخوما / تقتفي شيطانكَ الفظّ الغَشوما
أو كانت تلك روما أم سدوما / يومَ ذاقتْ بخطاياكَ الجحيما
هيَ ذاقتْ من يدِ اللّهِ انتقاما / لآثامِ خالدٍ عاماً فعاما
يومَ صبَّتْ فوقَ بيروت الحِماما / لم تَذَرْ شيخاً ولم ترحمْ غُلاما
من سفينٍ يملأُ البحرَ ضِراما / ذلك الأُسطول كم ثارَ احتداما
أين راحَ اليومَ هل رام السَّلاما / أم على الشاطئِ أغفى ثم ناما
أيُّ عُدوانٍ زَريِّ المظهَرِ / بِدَمٍ قانٍ ودمْعٍ مُهْدَرِ
حينَ طافتْ بِحُمى الإِسندرِ / أجنُحٌ من طَيرِكَ المستنسرِ
تنشرُ الموْتَ بليلٍ مُقمِرِ / يا لمصرَ أتُرى لم تثأرِ
بيدِ المنتقِمِ المستكبِرِ / أتَرى تَذكرُ أم لم تذكُرِ
موسُليني لسْتَ من أمسٍ بعيدا / فاذكرِ المختارَ والشعْبَ الشهيدا
هو رُوحٌ يملأُ الشرقَ نشيدا / ويناديكَ ولا يألو وعِيدا
موسُليني خُذْ بكفيَّكَ الحديدا / وصُغِ القيدَ لساقيْكَ عَتيدا
أو فضَعْ منْكَ على النصْل وريدا / فدمي يَخنِقُكَ اليومَ طَريدا
ألا ما لهذا الليلِ تَدجى جوانبُهُ
ألا ما لهذا الليلِ تَدجى جوانبُهُ / على شَفَقٍ دامٍ تلظَّى ذوائبُهْ
وما ذلك الظلُّ المَخوفُ بأُفْقِهِ / يُطِلُّ فترتدُّ ارتياعاً كواكبُهْ
أأيتها الأرضُ انظري ويكِ واسمعي / توثَّبَ فيكِ الشرُّ حمْراً مخالبُهْ
أرى فِتنةً حمْراءَ يَلْفُظُها الثرى / دُخاناً تُغَشِّي الكائناتِ سحائبُهْ
وأشتمُّ من أنفاسها حَرَّ هَبْوَةٍ / كأنَّ هجيرَ الصيف يلفحُ حاصبُهْ
أرى قبضةَ الشيطان تستلُّ خنجراً / توهَّجُ شوقاً للدماءِ مَضارِبُهْ
تسلَّلَ يبغي مقتلاً مِن محمدٍ / لقد خُيّبَ الباغي وخابَتْ مآرِبُهْ
تقدَّمْ سليلَ النَّارِ ما الباب موصدٌ / فماذا توقَّاهُ وماذا تُجانبُهْ
تأمَّلْ فهَلْ إلَّا فتىً في فراشه / إلى النورِ تَهفو في الظَّلامِ ترائبُهْ
يُسائِلُكَ الأشياعُ زاغَتْ عيونُهم / وأنتَ حَسيرٌ ضائعُ اللُّبِّ ذاهبُهْ
تُرانا غفوْنا أم تُرى عَبرتْ بنا / نُفاثةُ سِحْرٍ خدَّرَتْنا غرائبُهْ
وما زال منا كلَّ أشوسَ قابضاً / على سيفهِ لم تخْلُ منه رواجبُهْ
تُرى كيف لم تُبصِرْ غريمك سارياً / وأين تُرى يمضي وتمضي ركائبُهْ
تقدَّمْ وجُس في الدار وهْناً فما ترى / لقد هَجَر الدارَ النبيُّ وصاحبُهْ
يحثَّان في البيداء راحلتَيْهما / إلى جبلٍ يُؤوي الحقيقةَ جانبُهْ
فقفْ وتنظَّرْ حائراً نَصْبَ غارهِ / تحدَّاكَ فيه ورْقُهُ وعناكبُهْ
لتعلمَ أن الحق رُوحٌ وفكرةٌ / يذلُّ لها الطاغي وتعْنو قواضبُهْ
فطِرْ أيها الشيطان ناراً أو انطلق / دُخاناً فأخْسِرْ بالذي أنت كاسبُهْ
خَسِئتَ ولو لم يَعصِمِ الحقَّ ربُّه / طوى الأرض ليل ما تزول غياهبُهْ
هذا الرحيقُ فأين كأسُ الشاعِرِ
هذا الرحيقُ فأين كأسُ الشاعِرِ / قد أوحشَ الأحبابَ ليلُ السامرِ
لِمَ يا حياةُ وقد أحلَّكِ قلبَهُ / لَمْ تؤثريهِ هوى المحبِّ الشاكرِ
أخليتِ منه يديكِ حين حلاهما / من ذلك الأدب الرفيع الباهرِ
لو عاشَ زادكِ من غرائب فنّهِ / ما لا يُشَبّهُ حسنهُ بنظائرِ
وظَفِرتِ من تمثيله وغنائهِ / بأدقّ مثّالٍ وأرخمِ طائرِ
أملٌ محا المقدارُ طيفَ خيالهِ / وتخطّفَتْهُ يد الزمان الجائرِ
وأصار فرحتنا بمُقْبلِ يومهِ / مأساةَ مَيتٍ في الشباب الباكرِ
متوسّداً شوكَ الطريق مُلَثَّماً / بجراحِهِ مثل الشهيد الطاهرِ
رُدُّوا المراثي يا رفاق شبابهِ / لن تُطفئوا بالدمع لوعةَ ذاكرِ
هذا فتىً نظم الشبابَ وصاغَهُ / وحياً تحدّرَ من أرقِّ مشاعرِ
جعل الثلاثين القِصارَ مدىً له / والخلدَ غايةَ عمرهِ المتقاصرِ
غَنُّوهُ بالشِّعْرِ الذي صَدَحتْ بهِ / أشواقُهُ لحنَ الحبيب الزائرِ
غَنُّوهُ بالشِّعْرِ الذي خفقتْ بهِ / أنفاسُهُ لحنَ الحبيب الهاجرِ
تلك القوافي الشارداتُ حُشاشةٌ / ذابت على وَتَرِ المغَنِّي السَّاحرِ
فتسمّعوا أصداءها في موكب / للموت مُحتشدِ الفواجع زاخرِ
مَشَتِ الطبيعةُ فيه بين جداولٍ / خُرسٍ وأدواحٍ هناك حواسرِ
ولو استطاعت نضّدت أوراقها / كفناً له والنعشَ غضَّ أزاهرِ
وَدَعَت سواجع طيرها فتألّقت / أمماً تخِفّ إلى وداع الشاعرِ
يا ابن الخيال تساءلَت عنكَ الذُّرى / والشُّهبُ بين خوافقٍ وزواهرِ
وشواطئٌ محجوبةٌ شارفتَها / فوق العواصف والخضمِّ الهادرِ
أيُرى جناحُكَ في السماء كعهده / متوشّحاً فَلقَ الصباح الساغرِ
أيُرى شراعك في العباب كعهده / مُتقلّداً حَلَقَ السحاب الماطرِ
هدأ الصراعُ وكفّ عن غمراته / من عاش في الدنيا بروحِ مغامرِ
وطوى البلى إلَّا قصيدةَ شاعر / أبقى من المثلِ الشرودِ السائرِ
شعرٌ تمثَّلَ كلَّ حسٍّ مُرهَفٍ / لا رصف ألفاظٍ ورصَّ خواطرِ
ودُمىً مُفضَّحة الطلاءِ كأنها / خُشُبُ المسارح مُوّهَتْ بستائرِ
تتمثّلُ التاريخَ في أزيائهِ / بين المصفّقِ وابتسام السّاخرِ
من صُنعِ نظّامينَ جَهدُ خيالهم / مَسحُ الزجاج من الغبار الثائرِ
مُتخلفين عن الزمان كأنهم / أشباحُ كهفٍ أو ظلالُ مساحرِ
يا قومُ إن الشِّعرَ روحانيةٌ / وذكاء قلبٍ في توقّد خاطرِ
نظر الضريرُ به فأدرك فوق ما / لمست يَدُ الآسي وعينُ الناظرِ
مُتَعرّفاً صُوَرَ الخلائق سابراً / أعماقَ أرواحٍ وَغَورَ سرائرِ
هذي عروسُ الزَّنجِ ليلتهُ التي / أومَتْ بكفٍّ حُلّيَت بأساورِ
والنَّجمُ أشواقٌ فمهجة عاشقٍ / وذراعُ مُعتنِقٍ ووجنةُ عاصرِ
الشِّعرُ موسيقى الحياة مُوَقَّعاً / مُتدَفِّقاً من كلِّ عِرقٍ فائرِ
عشاقُ بابلَ لو سُقوا برحيقه / لم يذكروها بالرحيقِ الساكرِ
وتنَصَّتَت أقداحُهم لمغردٍ / مَرِحٍ يُصَفّقُ بالبيان الساحرِ
أو كان كلَّمَ بُرجَها بلسانه / والقومُ شتّى ألسنٍ وحناجرِ
لم نَشكُ من عِوجِ اللسان وَوُحّدت / لهجاتُ هذا العالم المتنافرِ
هل كُنْتَ بين الموت والميلادِ
هل كُنْتَ بين الموت والميلادِ / إلَّا حياةَ مآثرٍ وأيادي
وهل استطبتَ على الرفاهة والصِّبا / إلَّا نهارَ ضنىً وليلَ سُهادِ
وكفاحَ أَيامٍ وعَرْكَ شدائدٍ / بجميلِ صبر أو طويلِ جِهَادِ
مُتواضعاً مترفِّعاً ترقَى الذُّرى / في مثل صمتِ الكوكبِ الوقّادِ
يُلقي أشِعَّتهُ هُناكَ وههُنا / ويُضيء في الأغوارِ والأنجادِ
أهرَامُكَ المُثلى نتاجُ قرائحٍ / خلَّاقةٍ موصُولةِ الإِمدادِ
دُنيا من الفِكرِ الطليقِ وعالمٌ / رَحْبُ الجوانبِ شاسعُ الآمادِ
تهدِي الحَيَارى المُدْلجينَ كأنَّها / في شاطئِ الوادي مَنَارةُ هادي
قُمْ يا فتى الأهرامِ وانظر رفقةً / ينتظرون خُطاكَ في الميعادِ
ويُسائلون بِكَ العَشيَّ كدأبهم / هذا النديُّ فأين صدرُ النَّادي
يا لهفَ ما عَلموا بأنَّكَ مُزمِعٌ / سَفَرَ الحياةِ ورِحلةَ الآبادِ
يا لهفَ ما ظَفِروا كما عوَّدْتهم / عِندَ الودَاعِ بنظرةٍ وتنادي
حينَ الوفاءُ الجمُّ شيمَتُكَ التي / أسرَتْ قلوبَ أحبَّةٍ وأعادِي
دخلوا عَليك البيتَ جسماً ضارِعاً / مُتَفَرّداً والموتُ بالمرْصادِ
والفكرُ صحوٌ والجبينُ شُعاعَةٌ / ألَّاقةٌ والروحُ في إِيقادِ
والشمسُ بينَ سَحَابَتَينِ تدَجَّتا / رمَقٌ يُصارعُ حَيْنَهُ ويُرادي
في شاطئٍ قاني المياهِ كأنها / مصبُوغةٌ بدَمِ النهار الفَادي
هي صورةٌ لكَ والمساءُ مقاربٌ / والرُّوحُ ركبٌ والمنيةُ حادي
والقلبُ في كفِّ القضاءِ فراشةٌ / رفّافةٌ والعمر وشكَ نفَاد
عجباً أيشكو قلبَهُ من قلبه / كنزُ الرِّضى والخيرِ والأسعادِ
وتخونهُ الأنفاسُ وهو رحابةٌ / كم نفَّستْ عن أمّةٍ وبلادِ
وإذا أتى الأجلُ النفوسَ فلا تسَلْ / عَنْ صِحَّةِ الأرواحِ والأجسَادِ
أأبا بشارةَ لا يَرُعكَ بِعادُهُ / مصرُ اجتَبَتهُ فلا تُرَعْ ببعادِ
آثرتَها بهَواكَ يا لغرَامِها / هي مِصْرُ مَهدُ الموتِ والميلادِ
حفِظتْ لوَالداكَ الصنيعَ المجتبى / ورَعَتْ فتاةُ البرِّ في الأولادِ
ورأتْ نجيبكَ فاستفاض حنانُها / لسميِّه المرجوِّ في الأحفادِ
ذكرَتْ بيُتْمكَ يُتمَهُ فتفجَّرتْ / حُبّاً وقبَّلتِ الرجاءَ البادي
لبنانُ نازعها هواكَ وما أرى / لبنانَ إلَّا من ضفاف الوادي
الأرزُ فيهِ والنخيلُ كلاهُما / أعشاشُ حبٍّ أو خمائلُ شادي
أرضُ العروبةِ لا تُخومَ ولا صُوىً / ما مصرُ غيرُ الشّام أو بغدادِ
وأُخُوَّةٍ بالمسجدين وجيرةٍ / من آل طارقَ أو بني عبَّادِ
قسماً بأمساء النديِّ ومجلسٍ / متألقٍ بالرفقةِ الأمجادِ
وجمالِ أسحارٍ وطيبِ أصائلٍ / بالذِّكرياتِ روائحٍ وغَوَادي
ومحبَّةٍ للخيرِ صَفوُ مِزاجِها / مرضاةُ نفسٍ أو عزاءُ فُؤادِ
ألَّا استمعتَ إلى رفاقكَ ليلةً / والنارُ في مهجٍ وفي أكبادِ
جَمَدَ المدادُ على شبا أقلامهم / فصريرُها نوحٌ ولحنُ حدادِ
واحسرتا أيُّ الرثاء أصوغهُ / لوفاءِ حقِّ محبّتي وودادي
أرثيكَ للأُممِ التي شاطرْتَها / كُرَبَ الخطوبِ وفرحةَ الأعيادِ
وأذعتَ دعوتَها وجُزْتَ بصوتِها / في المغْرِبينِ شوامخَ الأطوادِ
ووصَلتَ بينَ قريبها وبعيدها / رَحِمَ العروبة أو عُهُودَ الضَّادِ
قم حدِّثِ القُرَّاءَ عما شِعتَهُ / في العالمِ المُتنافِرِ المُتعادي
وصفِ الممالكَ والشعوبَ كما ترى / ببرَاعَةِ الوصَّافةِ النقَّادِ
تطوي الغمائمَ والخضَارِمَ والثَّرى / وتجُولُ بين حَوَاضرٍ وبوادي
بفَطانةِ الصحفيِّ وهي بصيرَةٌ / تغزُو وتفتَح مُغلقَ الأسدادِ
يا رُبَّما نبأٌ أثارَ بوقعه / ما لا تُثيرُ مَلاحِمُ الأجنادِ
وهَدى قبيلاً أو أضلَّ جماعةً / لسبيلِ غيٍّ أو سبيلِ رشادِ
وا لهفَ نفسي كم تمنَّيتَ المُنى / يوم السيوف تقَرُّ في الأغمادِ
هل كنت تُبصِرُ منْ حضارة عصرها / إلا نثير حجارةٍ ورَمَادِ
إن السَّلامَ الحقَّ ما آثرتهُ / والأرضُ غرقى في دمٍ وسَوَادِ
والناسُ ما زالوا كما خلَّفتهُمْ / صرْعَى الهوى وفرائسَ الأحقادِ
يا لَلطريقِ الضيِّقِ الصَّاعِدِ بين ربوتينْ
يا لَلطريقِ الضيِّقِ الصَّاعِدِ بين ربوتينْ /
كأنما خُطَّ على قَدْرِ خُطىً لعاشقينْ /
الشَّجَرات حوله كأنها أهدابُ عينْ /
كعهدهِ بصاحب الدَّار ظليلَ الجانبينْ /
نَبَّأهُ الصدى المرنُّ عن قدوم زائرينْ /
في فجرِ يومٍ ماطرٍ شقَّ حجابَ ديمتينْ /
كأنما يَنزِلُ منه الوحيُ حَبَّاتِ لجينْ /
فانتبهت خميلةٌ تهزُّ عُشَّ طائرينْ /
وشاع في الغابةِ هَمْسٌ من شفاهِ زهرتينْ /
مَنِ الغريبان هنا وما سُراهما وأينْ /
ماذا قدومهُما والغيثُ مِدرارُ
ماذا قدومهُما والغيثُ مِدرارُ / لا صاحبُ الدَّارِ طلاَّعٌ ولا الدارُ
هذي البحيرةُ وسْنى حُلمُ ليلتها / لمّا تُفِقْ منه شطآنٌ وأغوارُ
والأرضُ تحت سحابِ الماءِ أخيلةٌ / مما يُصوِّرهُ عُشبٌ ونُوّارُ
والصبحُ في مهده الشرقيِّ ما رُفِعتْ / عن ورْدِه من نسيج الغيم أستارُ
حتّى الجبالُ فما لاحتْ لها قممٌ / ولا شدا لرُعاة الضأن مزمارُ
فمن هما القادمانِ الريحُ صاغيةٌ / لوقع خطوهما والأرضُ أبصارُ
أعاد من زمَنِ الأشباح سامرُهُ / فالليلُ والغاب أشباحٌ وأسمارُ
أم البحيرةُ جِنّياتُها طلعتْ / فهبَّ موجٌ يناديها وتيَّارُ
أم راصدا كوكبٍ ضلاَّ سبيلهما / لما خَبَتْ من نجوم الليل أنوارُ
أم صاحبا سفَرٍ مال الضَّنَى بهما / حوَتهما جنّةٌ للفنِّ معطارُ
أم عاشقان تُرى أم زائران هما / وهل مع الفجر عشَّاقٌ وزوَّارُ
وأمسكَ الغيثُ كما لو كان يُصغي مثلنا
وأمسكَ الغيثُ كما لو كان يُصغي مثلنا /
واعتنقتْ حتى وُريْقاتُ الغصون حولنا /
كأنما تخشى النسيمَ أو تخاف الغُصُنا /
وانبعث اللحنُ الشجيُّ من هنا ومن هنا /
يثور في إِيقاعهِ قيثارةً وأَرغُنا /
كأنّ جِنّاً في السماء يُشعلونَ الفِتنا /
كأن أرباباً بها يحاكمونَ الزّمنا /
يا صاحبَ الإِيقاع ما تعرف ما هجْتَ بنا /
الفجرُ أم ثارتْ على الشمس بوارقُ السّنى /
ما لك قد غنَّيتَهُ هذا النشيدَ المحزنا /
غنَّيتَهُ آلهةً أم أنت غنّيتَ لنا /
ما ذلك الصوتُ شاجي اللحن سحَّارُ
ما ذلك الصوتُ شاجي اللحن سحَّارُ / يُجرِيهِ نبعٌ من الإِلهام زَخَّارُ
فيه تنفَّسُ فوق السحب آلهةٌ / وآدميون فوق الأرض ثُوَّارُ
وفيهِ تهْمسُ أرواحٌ وأفئدةٌ / منهن عانٍ ورَحمنٌ وجبَّارُ
له مذاقٌ له لونٌ له أَرجٌ / خمْرٌ أباريقُها شتّى وأثمارُ
أشتفُّهُ وأنادي كلَّ ناحيةٍ / مَنِ المُغَنِّي وراءَ الغاب يا دارُ
السمفونيةُ هذي أم صدى حُلُمٍ / كما تَجاوبُ خلف الليل أطيارُ
أعاد لِلمِعْزَفِ المهجور صاحبُهُ / فعربدتْ في يديه منه أوتارُ
أظلُّ أُصغِي وما من شُرْفةٍ فُتِحت / ولا أراح رِتاجَ الباب ديَّارُ
حتى الحديقةُ لَفَّتْ كوخَ حارسها / بِصمتها فهما نَبْتٌ وأحجارُ
تواضعتْ بجلال الفنِّ ما ارتفعتْ / مثلَ البروج لها في الجوِّ أسوارُ
تُصْغِي إلى همسات الريح شيِّقةً / كأنما همسات الريح أخبارُ
هنيهةً ثم سمعنا هاتفاً مردِّدا
هنيهةً ثم سمعنا هاتفاً مردِّدا /
يقول قُمْ يا سِجْفريدُ فالصَّباحُ قد بدا /
عرائسُ الوادي أَلَمْ تضربْ لهنَّ موعدا /
ماذا قُمِ انفضِ الكرى ونمْ كما شئتَ غدا /
وأخطر على الغابةِ منضورَ الصِّبا مُخلَّدا /
خُذْ سيفكَ السحريَّ صِيغَ جوهراً وعسجدا /
قد لَقِيَ التنِّينُ منه في العشيَّة الردى /
صوتٌ مع الريح سَرى وللسكون أخلدا /
فأمسكتْ صاحبتي يدي وحاطتْ بي يدا /
تقول لم أسمعْ كهذا اللحن أو هذا الصدى /
قلتُ ولا بمثلِهِ شادٍ على الدهر شدا /
قد باح بالنّغَمِ الموعودِ قيثارُ
قد باح بالنّغَمِ الموعودِ قيثارُ / فالفجرُ أحلامُ عُشّاقٍ وأسرارُ
صحا يُفَضِّلُ رؤياهُ ويَعْبرها / موجٌ على الشاطئِ الصخريِّ ثرثارُ
وزحزحتْ ورَقَ الصفصاف حانيةً / على البحيرة أعشابٌ وأزهارُ
تُسائلُ الماءَ هل غنَّتهُ أو عَبرتْ / شهبٌ به مستحماتٌ وأقمارُ
يا صاحبَ اللحن إنَّ الغابَ مُصغِيةٌ / فأين من سجْفرِيدَ السيفُ والغارُ
ما زال فوق نديِّ العشب مضجعُهُ / ومن يديهِ على الأغصانِ آثارُ
هذا النشيدُ نشيدُ الحبِّ تعزِفُهُ / له عرائسُ مِثلُ الورد أبكارُ
بعثتهنَّ من الأنغام أجنحةً / هزيزهنّ مع الأفلاكِ دوَّارُ
في صدر قيثارةٍ أودعتَهُ نغَماً / مِزاجُهُ الماءُ والإعصارُ والنارُ
تُفْضِي بما شئتَ من أسرار عالمها / فيهِ ليالٍ وأيامٌ وأقدارُ
حتى الطبيعةُ من ناسٍ وآلهةٍ / تمازجتْ فهيَ أَلحانٌ وأشعارُ
نُهْزَةٌ أهدَتِ الخيالَ إلينا
نُهْزَةٌ أهدَتِ الخيالَ إلينا / ودَعتْنا لموعدٍ فالتقينا
ههنا تحت ظُلَّةِ الغابة الشجرا / ءِ سِرْنا والفجرُ يحنو علينا
وقطفنا من زهرها وانثنيْنا / فجنيْنا تُفاحَها بيدينا
وَمَرِحْنا بها سحابةَ يوم / وبأشجارها نقشْنا اسمينا
ههنا يا ابنةَ البحيراتِ والأوْ / دِيةِ الخُضْرِ والرُّبى والجبالِ
صدح الحبُّ بالنشيد فَلَبَّيْ / نا نداءَ الهوى وصوتَ الخيالِ
وتَبِعْنا على خُطى الفجر موسِي / قى من العُشب والندى والظلالِ
وسمعنا حفيفَ أجنحةٍ تَهْ / فو بها الريحُ من كهوف الليالي
قُلْتِ لي والحياءُ يَصْبُغُ خَدَّيْ / كِ أنارٌ تمشي بها أم دماءُ
ملءُ عينيكَ يا فتى الشرق أحلا / مٌ سكارى وصبوةٌ واشتهاءُ
وعلى ثغركِ المشوقِ ابتسامٌ / ضَرَّجَتهُ الأشواقُ والأهواءُ
أوَ حقاً دنياك زهرٌ وخمرٌ / وغوانٍ فواتنٌ وغِناءُ
قُلتُ يا فتنة الصِّبا حَفِلَتْ دُنْ / ياكِ بالحبِّ والمُنى والأغاني
ما أثارت حرارةَ الجسَدِ المُشْ / تاقِ إلَّا مرارةُ الحرمانِ
إنَّ أجسادنا معابرُ أروا / حٍ إلى كلِّ رائع فتَّانِ
أنا أهوى روحيَّةَ العالمِ المَنْ / ظورِ لكنْ بالجسم والوجدانِ
ما تكون الحياةُ لو أنكر الأحْ / ياءُ فيها طبائعَ الأشياءِ
أنا أهواكِ كالفراشةِ صاغتْ / ها زهورُ الثرى وكفُّ الضياءِ
أنا أهواكِ فِتنَةً صاغها المثْ / ثَالُ من طينةٍ ومن إِغراءِ
أنا أهواكِ بِدعةَ الخلدِ صِيغَتْ / من هَوى آدمٍ ومن حوَّاءِ
أنا أهواكِ من أثامٍ وطُهرٍ / حُلمَ إغفاءَتي وصَحْوَ غرامي
أنا أهواكِ تُبدعين يقيني / من نسيج الظنون والأوهامِ
أنا أهواكِ دفءَ قلبي ويَنبُو / عَ اشتهائي وشِرّتي وعُرامي
وحناناً مُجسَّداً إنْ طواني الْ / لَيلُ وَسَّدْتُ صدرَهُ آلامي
إنّني بالخيالِ أنتزع الرِقْ / قَةَ من قسوة الزمان المريرِ
عَجباً ما حقائقُ الكون إلَّا / لمحاتُ الخيال والتفكيرِ
قبْلَ أن تشرقَ النجومُ على الأرْ / ضِ أضاءَتْ بذهنِ ربٍّ قديرِ
وتجلَّتْ في حُلمِهِ بنظامٍ / من بديعِ التكوين والتصويرِ
أطلِقي نفسَك السجينةَ ملء الْ / غابِ ملء الفضاء ملء العُبابِ
واحلُمِي بالحياة من نغمِ الخلْ / دِ وخمْرِ الهوى وزهرِ الشبابِ
ههنا عُشُّنا على الشاطئِ المسْ / حورِ نبنِيهِ من غصونِ الغابِ
ونخطُّ البستانَ أحلامَ طِفلٍ / صَقلتهُ مواهبُ الأربابِ
خطرةٌ ثم أطرقتْ في حياءٍ / وأدارتْ في جانب الغاب عينا
وانثنتْ بابتسامةٍ فدعتني / ثم قامت تمشي هناك الهوينا
وتلاقت عيونُنا فتدانتْ لي / وجُنَّ الحنانُ في شفتينا
فاعتنقنا في قُبْلةٍ قد أذابتْ / جَسَديْنا ومازَجَتْ روحينا
حَنَتْ على حاجز السفينهْ
حَنَتْ على حاجز السفينهْ / ترنو إلى الرغو والزَّبدْ
كأنّها الفتنةُ السجينةْ / تمضي بها لُجَّة الأبدْ
نَبَتْ بها ضَجَّةُ المكان / يَزينها الصَّمْتُ والجلالُ
والبحرُ من حولها أغاني / والسُّحْبُ والريحُ والجبالُ
ساهرة وحدها تُطِلُّ / بملتقى النور والظلامِ
لا تسأم الصَّمْتَ أو تَمَلُّ / تَهامسَ الشُّهْبِ والغمامِ
تُصْغي إلى الموج والرياح / في مَعْزِلٍ شاق كلَّ عَينِ
كأنها نجمةُ الصباحِ / مُطِلَّةٌ من سحابتينِ
هفهافةُ الثوب في بياضٍ / يكاد عن روحها يشفُّ
لأيِّ ذكرى وأيِّ ماضٍ / يَسْرِي بها خاطرٌ ويَهْفو
وما وراءَ العُباب تَبْغي / وأيُّ سرٍّ لها تَبدّى
وأيُّ لحن إِليه تُصغي / بروحها الحالم استبدَّا
عجبتُ للبحر ما عراهُ / يودّ لو مسَّ ناظريها
يتاخمُ النّجمَ في علاهُ / ويَنثني جاثياً لديها
وهائمٍ في الفضاءِ صَبِّ / مُجنّح لا يبينُ طيفا
كم ودّ لو من ضنىً وحُبِّ / هوى على صدرها وأَغفى
كم بثّ من أنّةٍ وألقى / بهمسةٍ ضائعٌ صداها
يا وَيحه لا يَحير نُطقا / فكيف تُلقي له انتباها
أنفاسُهُ عن جَواهُ تُغْنِي / عليلةً خفْقُها اضطراب
كآهةٍ في فم المُغَنِّي / جريحةٍ لحنُها العذابُ
يدنو ويرتدُّ في حياءِ / يُجاذب الثوبَ والشّعَرْ
وكلما كلَّ من عياءِ / أثاره الوجدُ فاستعرْ
يضمُّها راعشاً ويمضي / مباعداً وهو ما ابتعدْ
كأنه بالحنين يقضي / لُبانةَ الروح والجسدْ
والقمرُ الطالع الصغيرُ / أزاح عن وجهه السّحابا
وقد جرى ضوؤه الغريرُ / يستشرف الأُفْقَ والعُبابا
المرحُ العابثُ الطروبُ / لما دعا باسمِهِ الشروقُ
نادت به موجةٌ لعوبُ / إليَّ يا أيّها المشوقُ
طال على المنتأى طُروقي / وطال مَسراكَ في السماءِ
فَنَمْ على صدريَ الخفوق / واحْلُمْ بما شِئْتَ من هناءِ
وانْسِني وحشةَ الليالي / بقُبْلةٍ منكَ يا حبيبي
لكنّه مرَّ لا يبالي / ولجّ في صمتهِ العجيب
مذ أبصرته انثنى ومرّا / قالتْ ومن دمعها مَسيلُ
لأنتَ مثلُ الرجال طُرّا / يا أيُّها الخائنُ الجميلُ
وهبتُكَ الغضَّ من شبابي / سكرانَ من خمر أُمسياتي
فأين تمضي على العُباب / من صوت حُبّي وذكرياتي
ومن هيَ الغادةُ التي / تنسلُّ من مخدعي إليها
أعندها مثلُ فتنتي / أم انني أفْترِي عليها
إذهبْ إِليها ودعْ ذمامي / فديتُكَ اسْلَمْ على التنائي
إذْبَحْ على صدرها غرامي / واملأ لها الكأسَ من شقائي
والْهُ مع الغيد والعذارى / وغنّ بالكأس والوترْ
وانقعْ من الغُلّة الأُوارا / واقطفْ من اللّذة الثّمرْ
أبوكَ والطبعُ لا يحولُ / وَرِثْتَهُ خِلْقةً وخَلْقا
يا أيها القُلَّبُ الملولُ / من قبضتي لن تنالَ عِتْقا
مُطاردٌ أنت باشتياقي / ما جُبْتَ أرضاً وجُزتَ بحرا
مُقيّدٌ أنتَ في وثاقي / وإنْ رأتكَ العيونُ حُرّا
لأنتَ مهما كبرْتَ طِفلي / يا ابنَ الهوى البكرِ والألَمْ
خُطاكَ مسبوقةٌ بظلّي / وإنْ تعلّقتَ بالقِمَمْ
سأحفظ العهد مِنكَ دوما / وأقطع العمر في انتظارِكْ
وسوف تأوي إليّ يوماً / تبكي وأبكي إلى جواركْ
ضراعةٌ من عذاب أُنثى / مَشَتْ على المائج الغضوبِ
صغا لها الليلُ واستحثّا / سواكنَ الريح للهبُوبِ
وحدّقتْ في الدُّجَى نجومُ / غيرَى تغامزن بالخبرْ
وغمغمتْ نجمةٌ رؤومُ / أما يرى ضوءَه القمرْ
أما يرى ذلك الصَّبِيَّا / يُؤلّب البحرَ والظلاما
فيا لهُ فاتناً خَلِيّا / يُزوّرُ العشق والغراما
كم ليلةٍ بعد ألف ليلهْ / لم تروِها عنه شهرزادُ
وكم عناق له وقُبْلهْ / في كِذبةٍ لفظُها مُعادُ
فاستوعب الضوءُ ملءَ حسّهْ / مفاتنَ الناس والطبيعهْ
مُردّداً في قرار نفسهْ / ما أبشع الغيرة الوضيعهْ
وارتعش الضوءُ ثم أضفَى / من حوله الصفوَ والسكينهْ
وابتسمتْ نفسه فألفى / خطاه في جانب السفينهْ
فراعه ذلك الجمالُ / جمالُها الصّامتُ الحزينُ
فشاقه الشِّعرُ والخيالُ / وهزّهُ الوجدُ والحنينُ
فقال يا روعةَ المساءِ / وفِتنةَ اللُّبِّ والبصرْ
قد آذن الليلُ بانقضاءِ / وأنتِ موصولةُ السهرْ
أيّتُها الملكةُ الكسيرهْ / أيّتُها الربّةُ الخجولهْ
أيّتُها الطفلةُ الكبيرهْ / لن تبرحي عالمَ الطفولهْ
أعلمُ ما تكتمين عنِّي / وإنْ تلثَّمتِ بالخفاءِ
خمسُ ليالٍ وأنت مني / متبوعةُ الظلِّ باشتهائي
قد كنتُ أُزهى بما عرفتُ / من فِتنِ الحسن والدلالِ
لكنّني الليلةَ اكتشفتُ / أروعَ ما شِمْتُ من جمالِ
عشقتُ فيكِ الهوى ودُلّهْ / في زَهوةِ الحسن والشبابِ
وذلك الصّمت ما أجلّهْ / في عالم اللَّغو والكذابِ
هاربةٌ أنتِ يا فتاتي / من ثورةِ الشكّ والرِّيَبْ
هَرَبْتِ من ضجَّة الحياةِ / فكيف من نفسِك الهربْ
بها ابدئي أولاً فسُلّي / وردكِ من شوكِهِ الأثيمِ
لا البُعْدُ يجدي ولا التسلّي / كطعْنكِ الغدر في الصميمِ
هنيهةٌ لم يَطُلْ مداها / تروع بالصّمت والشحوبِ
لم يبلغ الليلُ منتهاها / إلَّا على رَوعةِ المغيبِ
والتفتَ الضوءُ للوداع / يهمسُ في رِقّةٍ ووجدِ
يا ربَّةَ الحسنِ لا تُراعي / فلترْعَكِ الكائناتُ بعدي
يا ليلُ يا موجُ يا رياحُ / أيّتُها السُّحْبُ والظلالُ
أيّتُها الغُورُ والبِطاحُ / أيّتُها الشهبُ والجبالُ
في الجوّ في الماءِ في الثرى / صوني لها العهدَ والودادا
رُدِّي على عينها الكرى / وأبعِدي الفِكرَ والسهادا
وأنقذيها مِنَ الجوى / يا عاشقاتي على الزَّمانِ
بكلِّ ما فيك من قُوَى / وكلِّ ما فيَّ من حنانِ

المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025